ربما ما يزال الكثير من المراهنين على أن إيران يمكن أن تتصرف تصرف
الدول في علاقاتها الخارجية ولاسيما مع العراق ، على استعداد لمنحها
فرصة اخرى لإثبات أنها تحولت من منطق تصدير الثورة بقوة الخديعة أو
الفتوى الدينية أو بالقوة المسلحة ، إلى منطق الدولة الحديثة التي
تعتمد أساليب عصرية في تعاملها مع الدول الاخرى ، وربما أن هؤلاء ممن
لا يريدون التراجع عن توجيه النقد وأحيانا اللوم الشديد للنظام الوطني
العراقي محملين إياه مسؤولية حرب الثماني سنوات ، اعتقادا منهم أن
مقايضة تحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى مبنى للسفارة
الفلسطينية ، بابتلاع بلد عربي بكامله من قبل نظام الولي الفقيه ،
تستحق المضي بها إلى نهاية الشوط لأنها ستضيف إلى الحق العربي قوة ظلت
محسوبة على التحالف الغربي الصهيوني المعادي للعرب ، وكأن مجرد إغلاق
السفارة الإسرائيلية في أي بلد في العالم ، سيمنحه تعاطفا جماهيريا
يبرر احتلاله لبلد عربي عسكريا أو أمنيا ، وهذا تحديدا ما تحاول أطراف
محسوبة على النظام القائم في إيران تسويقه ، في تبرير التدخلات
الإيرانية المدمرة في أكثر من بلد عربي ، يقع في مقدمتها العراق بصرف
النظر عمن يحكمه والذي تحمل طيلة تاريخه الحديث عبئا ثقيلا في مواجهة
إيران بصرف النظر عمن يحكم فيها وتبرير محاولاتها المستميتة للتمدد على
حساب الأراضي العراقية ، بل ذهب أولئك المتناغمون مع أطروحة إيران إلى
نبش الملفات القديمة وحرفوا التاريخ من أجل وضع الحكم الوطني العراقي
في قفص الاتهام ، لأنه تصدى لشعار تصدير الثورة استنادا إلى مبدأ ولاية
الفقيه والذي رفعه الخميني بعد أن سطا على تضحيات الإيرانيين وقفز إلى
واجهة الحكم في 11 شباط 1979 .
لكن السياسة الإيرانية لم يتبدل من جوهرها شيء من حيث النوايا ، ولم
تختلف في زمن الخميني ومن بعده خامنئي عما كانت عليه في عهد الشاه إلا
في قوة الدفع التي أخذتها حينما رفعت الشعارات الإسلامية وحاولت احتكار
تمثيلها على المستوى الدولي ، برغم كل محاولات الاسترضاء والتفسيرات
المغرقة بالوهم والسذاجة السياسية حتى وإن خرجت على ألسنة البعض ممن
يمنحون أنفسهم صفات التفكير الإستراتيجي في تصور أن الأمنيات بتغير
الموقف الإيراني ستؤدي إلى تغيرات حقيقة على الأرض ، ولهذا فقد تبنوا
أطروحة إيران كاملة في تفسير أسباب حرب الثماني سنوات بمن فيهم من كان
في الماضي يعطي شيئا من الحق للعراق في تصديه لاستفزازات إيران بعد أن
سدت الطرق أمام كل مساعيه لإعادة العقل إلى رأس الخميني لأكثر من سنة
ونصف من الحكمة والسياسة المنفتحة على قبول أفكار التعايش بين النظم
المتباينة في متبنياتها السياسية والاجتماعية ، ولكن إيران كانت تفاجئ
الجميع بخطة مباغتة تقضم فيها حيزا حيويا من النفوذ حتى في حال عدم
احتلالها للأرض ، وإذا تعذر تمددها بالنفوذ فإنها لا تتردد في إحداث
فتن داخلية عن طريق وكلائها المنتشرين على طول الساحة العربية
والإسلامية ، ومن ثم تقدم نفسها بأنقى صورة للوساطة بين المتخاصمين
الذين أثارت بينهم الخصومة أصلا .
ولسنا بحاجة إلى متابعة مفردات التدخل الإيراني حيثما وجدت أرضا عربية
رخوة يمكن أن تتسلل إليها ، فذلك قد يستغرق جهدا ووقتا تنوء به
المجلدات ، ولكن ما يؤكد أن أطماع إيران تخفي إستراتيجية بعيدة المدى
تتلخص في ابتلاع العراق دفعة واحدة متى ما أتيحت لها الفرصة لتحقيق ذلك
الهدف ، فبعد الغزو الأمريكي للعراق والذي أكد أكثر من مسؤول إيراني
كبير أن الاحتلال ما كان له أن ينجح لولا العون الإيراني الواسع ، توقع
الكثيرون أن وجود حكومة مزدوجة الولاء لكل من واشنطن وطهران ، قد يفرمل
قليلا من قوة اندفاع الجرافة الإيرانية باتجاه أهدافها الموضوعة في
أدراج الولي الفقيه ورئاسة الأركان والتي تم تأشير الأهداف العراقية
المدرجة على جدول القضم التدريجي ، ولو من قبيل عدم إحراج أطراف في
العملية السياسية نشأت في إيران ونمت بفضل الدعم الذي حصلت عليه منها ،
سياسيا وعسكريا وماليا ، أو محسوبة على إيران في أفضل حالات أدائها
السياسي ، وفي السنوات التي أعقبت الاحتلال ثبت بوثائق دامغة تدخل
إيراني متعدد الوجوه في الشأن العراقي ، وخاصة في قتل مئات الآلاف من
العراقيين من خلال دعم المليشيات المرتبطة بفيلق القدس أحد أذرع الحرس
الثوري ، أو بالاطلاعات الإيرانية ( الاستخبارات ) ، والمليشيات
المعروفة والمجهولة التي أسهمت بتخفيف العبء الأمني عن قوات الاحتلال
الأمريكي .
إذا أخذنا حادثة احتلال القوات الإيرانية لجزء من حقل الفكة النفطي
العراقي فإننا سنقف على حقيقة ما يخطط الإيرانيون له في العراق ، ليس
من قبيل أفكار مستحدثة أملتها ظروف الوضع الشاذ في العراق والناشئ عن
الاحتلال الأمريكي ، وإنما هي إحياء لمشروع قديم طامع بأرض العراق
وثرواته يرتبط بوهم القوة التي تظن إيران أنها تتفوق فيها العراق
واستطاع العراقيون في نهاية المطاف في حرب الثماني سنوات من تقويض أهم
أركانه ، وأعادوا إيران إلى حجمها الحقيقي دون أية أوهام للقوة وخداع
للتوقع .
فماذا حصل كي تعود إيران لفتح ملفات ظن العالم أنها أغلقت في الثامن من
آب / أغسطس عام 1988 ؟
في حديث للناطق بلسان الخارجية الإيرانية وردت أفكار خطيرة جدا إذا ما
وجدت طريقها إلى التداول في حقل العلاقات الدولية ، وذلك عندما قال إن
اتفاقية الجزائر لعام 1975 والموقعة بين العراق وإيران ، لم تعد صالحة
، لأن البلدين تبدل بهما النظامان السياسيان ولأن هناك الكثير من
المتغيرات التي حصلت بحيث لم يعد ممكنا الاحتكام إلى بنود تلك
الاتفاقية ، هذا المنطق الذي يشخصن العلاقات بين الدول ويتعامل مع
الاتفاقيات الدولية باستهانة شديدة مما يهدد بإرباك منظومة العلاقات
بين الدول إلى أخطار فادحة يجعل من دوام استقرارها مرهونا بدوام حياة
موقعي الاتفاقيات وهذا أمر مستحيل ، أو مرهونا باستمرار الظروف الأمنية
أو السياسية على ذات الحال التي أدت إلى توقيعها ، وإلا فإنها ستكون
عرضة للنسف لمجرد تغيير الظرف اللاحق ، وهذه نظرية جديدة في مجال
العلاقات الدولية لم يقل بها أحد من فقهاء القانون الدولي ولا تحظى
بدعم المنظمات الدولية كالأمم المتحدة أو ميثاقها أو محكمة العدل
الدولية المسؤولة عن فض المنازعات الدولية ، مما سيعني بالنتيجة وضع
الاتفاقيات الدولية على كف عفريت النوايا الطائشة للدول المارقة والتي
لا تعترف لنفسها بحدود ثابتة بل تعتقد أن حدودها يجب أن تمتد إلى المدى
الذي يصل إليه تأثيرها السياسي أو الفكري أو العسكري ، وحينذاك فإن على
العالم أن يتوقع مرحلة مفتوحة من حروب الإرادات المختلفة والصراع بين
الأيدلوجيات على المناطق الرمادية لتحويل حدود النفوذ من خارطة الوهم
السياسي والأيدلوجي إلى حدود على خارطة الجغرافية السياسية .
فإذا كان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ، وهي الجهة التي عليها أن
تخضع المواقف المختلفة لمراكز صنع القرار في أي بلد لفلترات التنقية
والتهذيب ، يتحدث بهذا المنطق الشاذ والطارئ على قواعد القانون الدولي
، فإن من حق المراقب أن يتساءل عن حقيقة نوايا الولي الفقيه في إيران
وكم يبلغ مدى الحلم عنده أبعد من مدى القدرة المفترضة التي تتحدث بها
خارجيته ، وهذا النهج هو الذي سارت عليه إيران منذ عدة قرون في
علاقاتها مع العراق والعراق وحدة في توقيع اتفاقيات تنظم العلاقات بين
البلدين بما فيها الحدود المشتركة ، ثم تفتعل أزمات سياسية وأمنية مع
العراق لتنسف فيما بعد الاتفاقية القديمة وتبحث عن اتفاقية جديدة تكرس
فيها مكاسب لاحقة وهكذا تستمر لعبة الزحف على الأراضي العراقية ، وحتى
بالنسبة لاتفاقية 6 آذار / مارس 1975 والتي توجه الاتهامات لعراق صدام
حسين بأنه هو الذي بادر لإلغائها ، فإن قادة النظام الجديد الذي حل محل
نظام الشاه في شباط 1979 بمن فيهم وزراء خارجية مثل صادق قطب زادة
ورئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر والكثير من الخطباء المعممين كانوا
يهيجون الرأي العم الإيراني ضد الاتفاقية باعتبارها من مخلفات عهد
الشاه وكانوا يدعون لإلغائها ، هكذا كان شأن الاتفاقيات الثنائية بحيث
يبدو مثيرا لدهشة المراقب إذا أجرى مقارنة سريعة بين حدود العراق مع
إيران الآن وحدودهما قبل 200 أو 100 سنة ، والقضم التدريجي من أراضي
العراق وحده دون سائر أراضي الدول المجاورة لإيران لا بد أن يدفع لسؤال
ملح ، هل أن إيران تحمل كل هذا الحب لهذه الأرض ؟ أم أنها تحمل لها
موروثا مليئا بعوامل الحقد إذا ما رجعنا إلى أن طريق الجيوش التي قوضت
أركان الدولة الفارسية جاءت من هذه الحدود أصلا ، وبالتالي فقد ظلت تلك
المشاعر حبيسة لعقد الماضي يعبر عنها في كل مرحلة بشعارات من نوع جديد
.
بين آونة واخرى تطفو على السطح أحداث ، بعضها يأخذ حجمه الحقيقي من
الاهتمام في أجهزة الإعلام ، والبعض الآخر يمر ويختفي بسرعة إما لعدم
أهميته وإما لأن القوى المحركة لأجهزة الإعلام لا تريد له أن يستقر في
أذهان المتلقين للرسائل ، ومن النوع الأخير ما كان نشر عن عدم سماح
قوات أمنية إيرانية لطواقم العمل في القطاع النفطي في محافظة ميسان من
الوصول إلى الحقول النفطية العراقية القريبة من الحدود مع إيران ،
لتأدية واجباتهم اليومية المعتادة ، ولكن الخبر سرعان ما تبخر وسط ضجيج
عن أحداث أقل أهمية منه بكثير لأن الكتل السياسية المتنفذة داخل
العملية السياسية ترتبط بإيران بعلاقة غير متكافئة أو أشبه بعلاقة ولي
النعمة بعبده الذليل ، وبالتالي فهي لا تريد تحريك أجواء الكراهية ضد
إيران في العراق والتي كانت آخذة بالنمو مع الوقت ، ويمكن الاستدلال من
خلال تلك الواقعة إلى أن إيران كانت تخفي نوايا مختزنة للسيطرة على حقل
الفكة النفطي العراقي وغيره من الحقول القريبة من الحدود على خلاف ما
حاولت جهات قلقة أو ضعيفة الوعي أو عديمة البصيرة أن تصور حادث استيلاء
قوات إيرانية على البئر رقم 4 في حقل الفكة على أنه محاولة إيرانية
لتقديم إسناد في حملة الدعاية الانتخابية لقوى مرتبطة بها ، من خلال
تبني تلك القوى لمطالبات لإيران بالانسحاب السريع من المنطقة ، فضلا عن
أن تلك القوى لم تهب لنصرة حق العراق بأرضه وثروته بل على العكس من ذلك
اتخذت مواقف ملتوية وملتبسة بل ومنحازة إلى جانب الأطروحة الإيرانية في
محاولة لتبرير العدوان ، وتلك المواقف أسهمت في ارتفاع الصوت الإيراني
بحقوق لا رصيد لها في أية خرائط لحدود البلدين .
إن الظرف الذي نشأ بعد الاحتلال الأمريكي مكن إيران من توظيف كل
السلبيات اللاحقة لمد نفوذها بحيث وصل إلى كل مفاصل الحياة السياسية
والاقتصادية والأمنية وحتى الاجتماعية ، وهو ما يمكن أن يعطي تفسيرا
دقيقا لكل التجارب السابقة التي مكنت إيران من التمدد على حساب الأراضي
العراقية وليس العكس ، فما مصداقية الجانب الإيراني في أطروحة الحق في
هذه المنطقة النفطية أو سواها ؟
من الضروري التأكيد على أن قيمة هذه الأرض ومن وجهة نظر عراقية ( وكلمة
عراقية هنا تنصرف إلى من ينتمي للوطن ويرتبط به ارتباطا مصيريا دون
مصلحة آنية يمكن أن تعبث بها سنوات القحط ) ، لا ترتبط بوجود النفط
فيها من عدمه ، فقدسية الأرض الوطنية لا تختلف في حال كونها مياها أو
نفطا أو رملا ، والسيادة الوطنية على أي جزء من إقليم الأرض الوطنية لا
يمكن أن يعطي أرجحية لجزء آخر لأنه غني بالثروات وينتقص من قيمة أجزاء
اخرى لأنها عديمة الثروات ، ولذا فإن إعطاء حسابات مالية لما يمكن أن
يتكبد العراق من خسارة لا يمكن أن يرتقي إلى جوهر الموقف المبدئي في
التعامل مع هذه القضية على أهمية الثروة التي تحتويها هذه المنطقة
والتي تمثل دافعا وحافزا لفتح شهية الأطماع الإيراني بلا حدود ، ومع كل
ذلك سنقلب بعض صفحات هذا الملف من زاويته التاريخية القريبة .
كان يفترض باتفاقية الجزائر لعام 1975 أن تضع حدا نهائيا لنزاع عراقي
إيراني طويل ، ليس لغياب صورة الحق ، بقدر ما هو ناتج عن أطماع إيرانية
متحركة في العراق إحساسا من الزعامة الإيرانية بامتلاكها عوامل التأثير
على الداخل العراقي ، على نحو مثير لكثير من التساؤل لا تعرف لها حدودا
، لكن العراق تعامل كدولة متحضرة فالتزم ببنودها ونفذ ما رتبته عليه
من التزامات وخاصة في الحدود المائية ، في حين أن إيران الشاه وجريا
على عادتها تعمدت التأخير والمماطلة ، مما أدى إلى بقاء مشكلة الحدود
البرية تختزن الكثير من أسباب التأزم .
اتفاقية الجزائر ليست لغزا خفيا ، أو نصا غامضا يصعب الوصول إليه أو
لتفسيره ، وخلال عمل اللجان العراقية الإيرانية المشتركة بين 1975
و1978 كانت الجزائر طرفا مباشرا في تسهيل عمل تلك اللجان ، فقد كان
الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين هو الذي قام بدور الوساطة للتوصل
إلى الاتفاقية التي وقعها الرئيس الراحل صدام حسين وشاه إيران السابق ،
ولو أن أي طرف طرح شكوكا بشأن تفسير نصوصها لعاد إلى وزارة الخارجية
الجزائرية ، والتي رافقت مراحل التطبيق بما في ذلك وضع الخرائط الخاصة
بترسيم الحدود البرية ، والتي يمكن الرجوع إليها في حال إخفاق الطرفين
في التوصل إلى حلول ميدانية لخرائط مخزونة في أدراج وزارة الخارجية
الجزائرية ، ومودعة لدى الأمم المتحدة ، ومن المعروف قطعا أنه لا يجوز
وفقا للقانون الدولي إعادة النظر بالحدود الدولية المتفق عليها .
كان بالإمكان حسم موضوع الحدود البرية لو أن شاه إيران تصرف بمنطق
الدولة ، وأعاد الأجزاء المتفق عليها للعراق ، ولكنه تلكأ متعمدا حتى
جاء الخميني إلى السلطة ولم يكتف بتأخير تنفيذ بنود الاتفاقية ، بل دفع
بالرعاع ( مسؤولين وجمهور ) الذي كان يحركهم بأوامر جاهزة ، لإلغاء
الاتفاقية من أساسها ، وتطورت الأحداث بشكل متسارع حتى وقعت الحرب في
أيلول / سبتمبر 1980 دون أن تنجز كل صفحاتها ، ولكن نيران المعارك التي
شهدتها جبهات القتال وخاصة قاطع العمليات في ميسان ، لم تحرق وثائق
اتفاقية الجزائر حتى وإن أحرقت المنطقة بكاملها ، وبعد انتهاء العمليات
العسكرية استنادا إلى قرار مجلس الأمن الدولي 598 لعام 1987 ، وضعت
إيران المزيد من العقبات أمام عمل اللجان المشتركة والتي كانت تعمل
بإشراف دولي ، وحتى قضية أسرى الحرب الذين تنص الاتفاقيات الدولية على
إطلاق سراحهم فور انتهاء العمليات الكبرى ، لم توفر إيران دليلا واحدا
على جديتها بحل هذه المعضلة الإنسانية ، بل واصلت احتجاز الأسرى
العراقيين لحوالي ستة عشر عاما بعد انتهاء الحرب مما يساعد كل من يريد
أن يكون صورة حقيقية عن نمط سلوك الزعامة الإيرانية .
أخذت العلاقات العراقية الإيرانية بعد انسحاب القوات العراقية من
الكويت في ظل الظروف المعروفة ، ومن ثم وضع العراق تحت الحصار الدولي ،
مسارا تفتقت فيه عبقرية الخبث لدى الزعامة الإيرانية مستغلة الظروف
الصعبة التي عاشها العراق حينذاك في محاولة لتحقيق أهداف على مستوى
إستراتيجي ، ومع ذلك فلم يقطع العراق اتصالاته مع الجانب الإيراني منذ
عام 1991 وحتى بدء العدوان الأمريكي عليه عام 2003 ، وربما تكشف بعض
حقائق المباحثات العراقية الإيرانية المتأخرة جانبا من أسرار تلك
الفترة والتي لا تريد لها طهران أن تظهر للعلن .
كان العراق يركز في المباحثات على تحقيق خطوات متوازنة من الطرفين على
طريق تطبيع العلاقات بينهما ، ويمكن إجمال الموقف العراقي بالنقاط
التالية : -
أولا – إعادة جميع الطائرات العراقية التي أودعها العراق في إيران وفقا
لاتفاق رسمي بين البلدين تم التوصل إليه أثناء زيارة السيد عزت الدوري
نائب رئيس مجلس قيادة الثورة إلى طهران ، وعددها 144 طائرة منها 122
طائرة حربية بين مقاتلة وقاصفة ، وبضع طائرات نقل مدنية وما تبقى
طائرات نقل عسكرية ضخمة ، مقابل ذلك يتعهد العراق بإعادة الزوارق
والطائرات التي لجأت إليه .
ثانيا – إطلاق سراح جميع أسرى الحرب العراقيين المحتجزين في معسكرات
إيرانية لمدد يزيد بعضها على عشرين عاما خلافا للقانون الدولي ، مقابل
قيام العراق بإطلاق سراح كل الإيرانيين الذي تسللوا لتنفيذ أعمال الشغب
التي اندلعت بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت ، برغم عدم انطباق
اتفاقية جنيف عليهم ، فقد تم إلقاء القبض عليهم وهم في الجرم المشهود
عام 1991 .
ثالثا – تطبيق اتفاقية الجزائر حزمة واحدة باعتبارها كلا لا يتجزأ ،
بما في ذلك بند الحفاظ على الأمن على جانبي الحدود ، أي أن تكف إيران
عن تقديم الدعم للحركات الإرهابية التي كانت تنطلق من أراضيها لتنفيذ
عمليات داخل الأراضي العراقية ، وكذلك وقف الدعم عن العصاة في شمال
العراق .
وخلال الحقبة الممتدة من عام 1991 وحتى عام 2002 ، لم تثر إيران ولو
لمرة واحدة أي موضوع له صلة بالنفط ، لكن أحد الاجتماعات التي عقدت بين
وفدي البلدين عام 2002 ، فوجئ الدكتور ناجي الحديثي وزير الخارجية ،
بكمال خرازي وزير خارجية إيران حينذاك يقدم مقترحا غريبا ، بتقاسم
إنتاج وتطوير حقل نفط لم يحدد اسمه أو موقعه ، كان طبيعيا أن يرفض
المقترح الإيراني بصورة قطعية ، وأبلغ الوزير الإيراني من قبل الحديثي
بعبارات لا تقبل اللبس بأن هذا الأمر لن يحصل تحت أي ظرف من الظروف ،
وفي معرض تبرير طلبه قال خرازي إن خطوة كهذه يمكن أن توجه رسالة
اطمئنان للإيرانيين المطالبين بدفع تعويضات الحرب ، فأكد وزير الخارجية
العراقية في معرض رده على هذه النقطة ، إن العراقيين يطالبون أيضا
بالتعويضات عما لحق بهم من دمار ، لاسيما وأن إيران كانت قد رفضت قرار
مجلس الأمن 479 والصادر في 28 / 9 /1980 ، في حين وافق العراق عليه
فإذا جوزنا أن يتحمل العراق مسؤولية الخسائر التي وقعت خلال الأيام
الستة الأولى من العمليات الحربية ، فإن إيران مسؤولة عن تحمل تبعات ما
كل حصل منذ ذلك التاريخ وحتى ساعة سريان وقف إطلاق النار في 20 /8 /
1988 ، ثم أن قرار مجلس الأمن 598 لم يرتب لأي من الطرفين حقا بأي
تعويض ، أما موضوع التعاون فالعراق مستعد لفتح أبوابه لتعاون نزيه في
مختلف قطاعات الزراعة والصناعة .
وهنا لا بد من طرح جملة من الأسئلة المشروعة عن توقيت التقدم الإيراني
باتجاه منطقة الفكة وصولا إلى احتلال واحد من آبارها على الأقل ، وما
هو الموقف المتوقع من القوات الأمريكية التي تحتل العراق ، باعتبارها
مسؤولة قانونا على وفق القوانين الدولية عن حماية حدوده الدولية من أي
تهديد خارجي ، خاصة وأن الإدارة الأمريكية هي التي أصدرت قرارا بحل
الجيش العراقي وتركت حدود العراق مفتوحة على كل الاحتمالات .
مما لفت أنظار المراقبين أن وزير الدفاع في حكومة المالكي ، والمعروف
بسجله في تدمير مدينة الفلوجة ، وما يزال يواصل اعتماد سياسة القبضة
الفولاذية في التعامل مع الملف الأمني الداخلي على خلاف ما نص عليه
دستور العملية السياسية الراهنة في مادته التاسعة بعدم جواز استخدام
القوات المسلحة في قمع أبناء الشعب ، رفض بشكل قاطع أي حديث عن التصدي
للعدوان الإيراني الجديد ، مما يؤكد طبيعة توجهات القوات المسلحة
الجديدة ونوايا وزير الدفاع الحالي .
من المؤكد أن الجيش الذي تم تأسيسه بعد الاحتلال غير قادر على الدفاع
عن العراق أو حماية سيادته واستقلاله لأنه خليط غير متجانس من مليشيات
طائفية متناحرة فضلا عن كونه دون عقيدة عسكرية وطنية ودون أسلحة حديثة
، ولكن ذلك لا يعني أن يتصدى وزير الدفاع للتعاطي مع هذه القضية
بالطريقة التي طرحها على أجهزة الإعلام ، لأنه بذلك لن يجمل صورة
المشهد العراقي القلق بقليل من الحكمة الزائفة ، ثم أن الحديث عن
اللجوء إلى الخيارات الدبلوماسية لا يمكن أن يكون مقنعا أو واقعيا في
ظرف علاقة بين بلدين غير متكافئين من حيث القوة العسكرية ،
فالدبلوماسية إذا لم ترتكز على قوة البلد سياسيا وعسكريا واقتصاديا ،
فإنها في واقع الحال ستكون أقصر الطرق إلى مزيد من التنازلات ، وخاصة
مع بلد مثل إيران يحمل كل هذا الرصيد المتراكم من الأطماع في العراق
أرضا وثروة وتاريخا وحضارة .
إيران قبل أن تحتل جزء من حقل الفكة النفطي العراقي ، كانت قد قدمت
مزاعم ربما أكثر وقاحة وصلفا حينما ادعت بأن الميناء العميق الذي تم
بناؤه في منطقة خور عبد الله مطلع الستينات من القرن الماضي ولم تطالب
به أية حكومة إيراني سابقة مما يعزز القناعة بأن اعتماد سياسة المراحل
والقضم التدريجي هي العمود الفقري لسياسة إيران وبصرف النظر عمن يحكم
فيها ، وقد لا نستغرب أن نصحو ذات يوم على المطالبة بمناطق تقع إلى
الغرب من بغداد وليس شرقها فقط مما يترك على مجمل العلاقات في المنطقة
جوا من التوتر وعدم الاستقرار قد يجرها إلى ويلات حروب جديدة .
ويبدو أن إيران التي تتذاكى في سياستها الخارجية ظانة ذلك دهاء وشطارة
، بدأت تحركا على المستوى العربي ، بهدف تحييد مواقف الدول العربية
تجاه تدخلاتها في الساحات التي تمكنت من زراعة كتل وحركات طائفية فيها
، ولعل زيارة علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني للقاهرة تقع ضمن
هذا التصور ، ومما رافق الزيارة من لهجة استفزازية تشير إلى أن إيران
تبطن تهديدا خطيرا لدول الخليج العربي من خلال إيصال رسالة لها بأنها
إما أن تصمت عما تفعله إيران في اليمن والعراق وبقية الساحات العربية ،
أو أن عليها أن تتحمل تبعات عدم انحيازها إلى جانب إيران في خصومات
تسعى للعبث بالأمن القومي العربي وقد تأتي الأدوار اللاحقة عليها
فرادى.
إن الدول العربية وبصرف النظر عن رأي حكوماتها ببعضها ، ينبغي أن تلتزم
بالحقوق الطبيعية والتاريخية والجغرافية للوطن العربي وأن تحترم ميثاق
جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك ، وهذه الأمور
جميعها يجب أن تبقى بمنأى عن المنازعات العربية – العربية بين الحكام
أو الحكومات ، وإذا كان بلد عربي في وضع سياسي وأمني مريح في ظرف معين
، فلا ينبغي أن يقوده ذلك على التخلي عن مسؤولياته القومية استنادا إلى
فهم خاطئ بأن الخطر سيبقى بعيدا عنه إلى الأبد .
إن العراق الذي كان قادرا على صد أطماع إيران وإيقافها عند حدها ، فقد
قدرته نتيجة الاحتلال العسكري الأمريكي والاحتلال الأمني الإيراني ،
على الدفاع عن نفسه بعد أن كان جدارا عاليا وخط صد أمام الأطماع
الإيرانية ، ولما كانت الأمم المتحدة قد انصاعت للإرادة الأمريكية
وشرعنت احتلالها للعراق ، فإنها أي الأمم المتحدة ملزمة وفق ميثاقها
واستنادا إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بأن تتدخل على نحو فوري
لضمان وحدة الأراضي العراقية من أي تهديد في ظل ظروف العجز التي يمر
بها .
|