لا أعرف رجلا ترجّل الموت أمامه كما حصل مع الشهيد صدّام حسين..
ثمّة رجال لم يزدهم الموت إلا سموّا وشموخا وبقاء.. فلا الفناء أفناهم،
ولا النسيان طواهم.. كذلك كان شأن صدّام.
لا شكّ أنّ التاريخ يحتفظ بعظماء كثيرين ارتفعت قاماتهم لحظة الموت..
ألم يكن الفيلسوف اليونانيّ سقراط أحد هؤلاء عندما أتاح له تلاميذه سبل
الهروب من السجن، لكنه رفض رغم أنّ بينه وبين تنفيذ حكم الإعدام ساعات؟
أولم يكن شيخ الشهداء عمر المختار بثباته وتحدّيه للمحتلّ ومقارعته
إيّاه بالحجّة نموذجا على ذلك النمط من الإيمان الذي يفعل في النفوس
فعله؟
بلى.. كان الموت يدرك أنّه يتعامل مع أنبل الرجال وأشرف الرجال وأطهر
الرجال. لذلك بدا محرَجا ومتردّدا حتى إذا وقف في حضرة صدام حسين أدرك
أنّه قلّما أتيح له أن يقف مثل هذا الموقف. فلقد أضاف الشهيد إلى جلال
اللحظة عظمة الاستشهاد حتى بدت لحظة موته هي نفسها لحظة ميلاده..
يخيَّل إليّ أحيانا أنّ الموت تواطأ معنا عندما أوحى إلى لصوص بغداد أن
يغتالوه يوم عيد الأضحى الموافق للثلاثين من شهر ديسمبر.. فأصبحنا
نُحيي ذكرى استشهاده مرّتين في السنة..
ما الذي بقي من الشهيد صدّام بعد مرور ثلاث سنوات على اغتياله؟
صدق الإيمان.. ومضاء العزيمة.. وأصالة الجوهر.. وحسْبُ المرء أن
تتلبّسه هذه الخصال، وتقترن بالفِعال.. وما أقلّ الرجال الذين يمتلكون
القدرة على الجمع بين ما يقولون وما يفعلون..
لنا اليوم أن نستحضر أيّ فصل من فصول حياته.. زمن الرخاء أو زمن
الأزمات، في أقواله أو في أفعاله. وعلينا ألاّ نتوقّف طويلا عند بعض
الأخطاء التي ارتُكبت، فالمسيرة كانت شاقّة ومحفوفة بالمكاره، والأعداء
ظلّوا يتآمرون على العراق ويكيدون له منذ قيام الثورة، حتى لكأنّ
العراق كان أشبه ما يكون بالسفينة التي يطاردها القراصنة وسط أجواء
عاصفة.
بعض أولئك القراصنة كانوا من الإخوة.. بل بعضهم كان من داخل الأسرة
نفسها. لم يركبوا سفينة الثورة والنماء والتقدّم وآثروا بما في نفوسهم
من مرض أن يبحثوا لهم عن مكان في مؤخّرة بواخر القراصنة يدلّون على
عورات سفينة أهلهم ويكشفون عن مكامن الوهن والقصور فيها.
لا شكّ عندي أنّ قيادة الشهيد صدّام ارتكبت أخطاء.. وحذار أن ندّعي عكس
ذلك. فوحدهم الذين لا يعملون لا يخطئون. ولكن علينا أن نفرّق بين أخطاء
دفع إليها الظرف التاريخيّ كما دفعت إليها الأوضاع العربيّة
والعالميّة، وأخطاء يدفع إليها الفكر وتقود إليها الإيديولوجيا. وفي
رأيي فإنّ الأخطاء التي وقعت فيها قيادة الشهيد صدّام كانت من النوع
الأوّل أي من ذلك النمط الذي لا يمكن تلافيه. وقد بيّنت الأحداث لا
سيّما تلك التي تلتْ غزو الكويت أنّ ثمّة تدبيرا خارجيّا يستهدف العراق
أرضا وشعبا وقيادة ونظام حكم. كما أكّدت الوقائع التي رافقت وتلتْ غزو
العراق واحتلاله أنّ الأمّة العربيّة كانت مستهدَفة في العراق دون غيره
من الأقطار العربيّة، وأنّ حالة النهوض العلميّ والفكريّ التي بشّر بها
حكم الرئيس الشهيد صدام حسين المجيد أمر لا يمكن للآخرين القبول به أو
التعاطي معه.
وعلينا دائما أن نعي أنّ ذكرى استشهاد صدّام ليست مجرّد مناسبة
للتمجيد. صحيح أنّ من حقّه علينا الاعتراف بكلّ ما أنجزه وقدّمه. لكنّ
الضرورة تقتضي أيضا أن ننبّه إلى كلّ جوانب القصور في التجربة التي
قادها بعدل واقتدار وتبصّر. وإذا كان بعضنا ينظر بكثير من الأسى إلى
واقع العراق اليوم فعليه أن يتذكّر ما قاله الشهيد مبشّرا بالنصر
ومحدّدا شروطه: "علينا ألاّ نكون مستعجلين في اقتطاف ثمرة صمودنا التي
نعني بها النصر. وليس غير الصبر الجميل، صبر التوثّب والصمود والتجديد
والإبداع ما ينمّي القدرة، خطوة بعد خطوة ليغدو النصر ثمرة جهادنا وتاج
صبرنا، بعد أن زرعناه أوّلا وقبل كل شيء باليقين والإيمان داخل صدورنا
وسقيناه بدماء الشهداء.. وعند ذلك سيصل عدوّنا إلى أبعد نقطة ظلام في
الإحباط، فينهزم. ونصل نحن إلى أعلى نقطة إشعاع وإشراق في قمّة مرحلة
الصراع فننتصر".
لقد كان الشهيد صدّام في ثباته وصموده وإيمانه أعظم من الحياة.. لهذا
استحقّ أن نحتفل باستشهاده مرّتين في السنة.
|