ذكرني الجهد الذي بذله استاذ
الفلسفة وتاريخها الدكتور عبد
الستار الراوي في كتابة معجمه
(الأساطير الأميركية... معجم
مصطلحات الحرب والفعل المقاوم)
بجهود المعجميين العرب الكبار من
أمثال أبو عبيد القاسم بن سلام (
150 -244هـ)، و(عبد الرحمن
الهمذاني (ت 320هـ) وابن فارس (ت
395هـ) وأبو منصور الثعالبي (ت
429هـ) وابن سيدة ( 398-458هـ)
والخليل بن أحمد الفراهيدي وابن
دريد والجوهري صاحب الصحاح
والأزهري صاحب تهذيب اللغة
والزبيدي صاحب تاج العروس من
جواهر القاموس والزمخشري صاحب
أساس البلاغة، وغيرهم.
لقد أرسل إليّ الراوي مخطوطة
معجمه للاطلاع عليه وأبقيته عندي
أيامًا من دون أن أقلبه، فقد
ظننته معجمًا أكاديميًا جامدًا
سرعان ما سأملّ من قراءته، ولكني
عندما تصفحته، بعد حين، لم أستطع
مفارقة قراءته.
معجم موسوعي كبير يزيد عدد صفحاته
على الخمسمائة صفحة صبّ فيها
الراوي جهد مؤسسة كبيرة لا فردًا،
تابع فيه المصطلحات والأسماء
والرموز التي ظهرت منذ أول لحظة
لاحتلال بغداد يوم الأربعاء 9
نيسان 2009 وشرحها وعلق عليها
ووثق فيها حكايات المقاومة
الوطنية وجرائم الاحتلال، ولم ينس
أن يذكر فيها عبارات أطلقتها نساء
شعبيات ورجال بسطاء صارت، فيما
بعد أمثالاً ومفردات يتداولها
العراقيون، وستجد فيها الفلسفة
تعين الأدب، والأدب يسند التاريخ،
والتاريخ يساعد الصحافة، والصحافة
تدعم التحليل السياسي، والتحليل
السياسي يذهب بك إلى أميركا
والدول التي تحالفت مع أميركا
لغزو العراق ليريك كيف يفكرون.
لقد لاحق الراوي العبارات
والكلمات والمفردات والمصطلحات
التي ظهرت بعد احتلال العراق في
واشنطن ولندن وبقية دول الغزو،
وفي بغداد اقتحم المنطقة الخضراء
المحصنة واقتنص حكاياتها وصعد إلى
الطائرة التي كانت تحوم في أجواء
العراق لتبث برامج إذاعية
وتلفزيونية موجهة إلى العراقيين
الذين لم يشاهدوها بسبب الانقطاع
التام للتيار الكهربائي.
فإذا كانت المعاجم التي وضعها
أولئك المعجميون العرب الكبار،
أعني بها “الكتب التي تشتمل على
مفردات موضوعاتٍ عديدةٍ، فالمعجم
الواحد كأنّما يجمع عددًا من
الرسائل اللغوية، وهي تتفاوت في
السعة والضيق، فمنها ما يشمل أغلب
مفردات اللغة، ومنها ما يحوي
مفردات عددٍ من الموضوعات”، فإن
أيًا من تلك المعاجم لا يلتقي مع
معجم الراوي في موضوعه، فمعجم
الراوي هو فضيحة مدوية للاحتلال
ضمّ بين دفتيه جميع الجرائم، ومن
ضمنها جرائم الترويع التي مورست
ضد العراقيين والأكاذيب التي
أطلقها المحتل ولم تنطل على عراقي
بسيط واحد.
وليس هذا المعجم هو الوحيد
للراوي، وإنما سبقه (الفقه
السياسي الايراني المعاصر... معجم
المفاهيم والمصطلحات) الذي أنجز
جزأه الاول.
ولجأ الراوي، في هذا المعجم، كما
في معجمه الجديد إلى (النصوص
الأساسية) لقادة التجربة
الإيرانية، من مظانها ومرجعياتها
الرسمية، لضمان الدقة الموضوعية
في عرض المفاهيم وبسط الأفكار،
وإلى إقصاء الأحكام المسبقة التي
أطلقها خصوم ولاية الفقيه داخل
إيران وخارجها، وإلى تدقيق
الآراء المخالفة، وإعادة فحص
نتائج بعض الدراسات الأكاديمية في
تقويم ثورة 11 شباط 1979
وتحقيقها، كما تخلى عن الأساليب
الإعلامية ذات الطابع الدعائي
والتعبوي التي شهدتها حرب الثماني
سنوات بين العراق وإيران، واتبع
مبدأ (الحياد الموضوعي) الذي
يحتمه منطق البحث العلمي،
والالتزام بقواعده العامة قدر
الإمكان، كما اتبع مبدأ (العلّية)
في استقصاء الدواعي، وتحديد
الأسباب، عبر العلاقة المنطقية
بين العلّة والمعلول، وراعى
(النسبية) في تحليل الأفكار
ومضامين الخطاب، طبقًا لشروط
(النص) ودواعيه التاريخية،
مستندًا في ذلك كله إلى اللياقة
العلمية، التي تقتضي الترفع
الأخلاقي عن الحطّ من شأن أي من
المسؤولين الإيرانيين أو مسّ
شخصيتهم بسوء أو تجريح... وعدم
إقحام الذاتي الخاص، في الموضوعي
العام.
يقول الراوي في معجمه الجديد
(الأساطير الامريكية... معجم
مصطلحات الحرب والفعل المقاوم):
(علينا البحث فيما وراء العبارة
واللفظة والكلمة للتعرف على الأصل
والغاية وكشف ما يختبئ وراءها
وتحتها من رموز ومعان ودلالات،
بعد أن أصبح قلب الحقائق والتلاعب
بالعقول وتزوير الوقائع منهجًا
لتغيير الاتجاهات، وسلاحًا
معرفيًا من أسلحة الحروب النفسية
والإعلامية والثقافية، وقد تكون
هذه الحرب في بعض حلقاتها
ومراحلها أشد أذى وأكثر ضررًا من
المواجهة العسكرية نفسها،
فالتوافق على فهم مشترك لمعنى أي
مصطلح فكري هو المدخل الصحيح لأي
حوار فكري متميز، هذا الأمر ينطبق
حتى على ما يندرج تحت خصوصيات
قائمة داخل الأمة الواحدة، فالحل
لا يكون برفض المصطلح لمجرد
اختلاف مفاهيمه عن تجارب سلبية
محددة تحمل التسمية نفسها، إذ إن
المشكلة هنا أن غالبية المصطلحات
تعرضت إلى تجارب تطبيقية سلبية
ومسيئة للفكر العربي بتنوعاته
القومي، الإسلامي، العلماني، كما
على صعيد شعارات الحرية،
الديمقراطية، الإصلاح، الوطنية،
المجتمع المدني، التداول السلمي
للسلطة).
أستطيع أن أقول باطمئنان كبير إن
الراوي في عمله الضخم هذا، الذي
سيرى النور قريبًا لم يسبقه سابق،
وسيكون مدرسة جديدة في علم
المعاجم، وسيكون فعله أشد مضاضة
من أفدح الخسائر التي منيت بها
الإدارة الأميركية ومن تحالف معها
وما ستمنى به مستقبلاً... سيكون
هذا المعجم (الكتاب الأسود) في
تاريخ أميركا وحلفائها... وسنحاول
في العمود القابل التجول في قلب
المعجم بعد أن أقنعت الراوي،
بصعوبة، أن أطلع قرائي عليه قبل
طبعه ونشره.
|