.. صدر للمؤلف الفرنسي جان بوتيرو
كتاب ترجم إلى الإنكليزية بعنوان
(أقدم مطبخ في العالم: الطبخ في
وادي الرافدين)، وذلك بعد أن
اكتشف المؤلف ثلاثة ألواح مسمارية
في أرشيف جامعة ييل Yale من
المسماريات، وتحتوي هذه على خمس
وثلاثين وصفة لأنواع من المرق
(يسمونه في البحرين صالونة)، وهي
أصناف مختلفة من اللحم يُطبخ في
سائل دهين مع مطيبات حرّيفة
وطازجة تضاف في النهاية، مثل
الكراث المهروس، والثوم، أو
النعنع.
ويختتم بوتيرو كتابه بالقول: ليس
هناك ما يدعونا الى الاعتقاد
بأننا قادرون على تناول العشاء
الرباني مع أبناء وادي الرافدين
القدامى. فلا أحد يستطيع معرفة
النكهة الحقيقية للعشرات من أصناف
المواد التي كانت تستعمل في تلك
الطبخات.
إلا أن هذا المؤلف يعتقد أننا
نستطيع استرجاع بعض الشيء منها،
لكن ما هو هذا الشيء الذي نستطيع
استرجاعه؟ هل سيكون في وسعنا أن
نتذوق مما كان يأكله أبناء وادي
الرافدين عما تحدر إلى المطبخ
العربي – التركي، أو اللبناني، أو
الشرق أوسطي، الذي نراه اليوم؟
ونقفز من تلك العصور الخوالي إلى
العصر العباسي، إذ بلغ المطبخ
البغدادي قمة ازدهاره ورقيه،
ويحتوي كتاب (في مطبخ الخليفة)،
لمؤلفه البروفسور ديفيد وينز
مختارات لوجبات غذائية عربية يعود
تاريخها إلى القرن الثامن
الميلادي في فترة ازدهار الحضارة
العربية في العصر العباسي، وقد
اختار 44 صحنًا يوميًا من هذه
الوجبات التي وجد أنها تتناسب من
حيث مذاقها وملاءمة عناصرها
لطبيعة هذا العصر.
وهذه الوجبات مأخوذة من مخطوطة
قديمة يختلف الباحثون في هوية
كاتبها ففي جامعة هلسنكي هناك
مخطوطة بعنوان “كتاب الطبخ” موقعة
باسم مؤلفها الشاعر كشاجيم، بينما
هناك نسختان لا تختلفان كثيرًا عن
الأولى، واحدة في جامعة أوكسفورد،
والثانية في إسطنبول موقعتان باسم
أبي محمد المظفر بن نصر بن سيار
الوراق، كما يقول ناشر الكتاب.
ويعدّ كتاب ابن سيار الوراق من
أبرز المراجع وأهمها حول المائدة
العربية وأصولها وآدابها، خصوصًا
أنه وضع في مرحلة أوج ازدهار
الحضارة العربية واتصالها
بالحضارات الأخرى. وبإشراف المؤلف
وينز قام أحد كبار الطهاة
الأوروبيين بإعدادها خصيصًا لهذا
الكتاب حيث أمكن تصويرها في إطار
عصري واختبرت مذاقها مجموعة من
كبار الذواقة العرب.
وورث البغداديون خصوصًا
والعراقيون عمومًا أسرار هذا
المطبخ، وكانت لديهم إلى وقت قريب
مطاعم مشهورة من مثل مطاعم تاجران
والشمس وابو يونان وابن سمينة
وعمو الياس ومطعم (شباب الكرخ)
الذي كان يتميز باحتضانه دعوات
العشاء التي ترافق حفلات الزفاف
لعرسان الكرخ وغيرهم، وغيرها
كثير.
ومن الطرائف التي قرأتها في كتاب
للصحافي العربي ناصر الدين
النشاشيبي أنه أجرى مقابلة للزعيم
عبدالكريم قاسم الرئيس العراقي
الذي حكم العراق من 14 تموز عام
1958 إلى 8 شباط 1963، وكان
الموعد عصرًا وطال بهما الحديث
إلى ما بعد التاسعة مساء فنظر
عبدالكريم قاسم إلى ساعته وقال
للنشاشيبي إننا أخرناك فلا بد أن
تتناول العشاء معنا... فخمن
النشاشيبي أنه سيدعى، وهو عند
رئيس دولة، إلى مأدبة ملوكية، بل
منّى نفسه بذلك، ولكن قاسم مد يده
إلى جهاز الهاتف واتصل بمطعم
تاجران في شارع الرشيد القريب من
وزارة الدفاع، التي كان قاسم يتخذ
منها مقرًا له، طالبًا منهم وجبتي
(نفرين) كباب مع شربت (السكنجبيل)
البغدادي الذي يذيب دهون الطعام
والذي يصنع من خل التمر والسكر
والنعنع، ولكن أصحاب المطعم
اعتذروا عن تلبية الطلب لأنهم
يغسلون المطعم وأنهم على وشك
إغلاقه بعد يوم من العمل، فتوسل
بهم عبدالكريم قاسم أن لا يخجلوه
مع ضيفه وقال لهم إنه عبدالكريم
قاسم، فلما عرفوه أعادوا فتح
المطعم وأعدوا له ما أراد.
وكان عبدالكريم قاسم من البساطة
بحيث أن ابن أخته الصغير كان يجلب
له طعام الغداء أو العشاء إلى مقر
حكمه مشيًا على الأقدام مخترقًا
الأسواق المزدحمة حاملاً بيده
(السفرطاس) وهو حافظات طعام
معدنية تربط ببعضها ليوصله إلى
خاله الزعيم، وكان بإمكان أي شخص
أن يخدع الصغير ويضع السم في طعام
الزعيم.
وكان أحب فطور للرئيس عبدالسلام
محمد عارف الذي تولى الحكم بعد
قاسم هو صحن من (الباميا
البايتة)، أي الباميا المطبوخة
قبل يوم.
وبعد احتلال العراق بدأت تظهر
اجتماعات مجلس الحكم والحكومات
التي تلته على شاشات التلفزيون
وفي الصحف وعلى طاولة الاجتماع
أمام المجتمعين من أطايب الطعام
والفاكهة والحلويات ما لذّ وطاب،
ولكننا للأسف لم نعد نر هذه الصور
تتكرر بعد مدة، إذ يبدو أن هناك
من نبههم إلى عدم اللياقة في ذلك،
لأن أبناء الشعب خارج المنطقة
الخضراء التي هم فيها يذبحون
ويقتلون ويؤسرون وهم بأطايب
الطعام وعلنا يتنعمون وعلى شاشات
التلفزيون يظهرون، ويبدو أيضًا
أنهم بعد ذلك أخذوا يجتمعون
والطاولة التي أمامهم فارغة
لينهوا الاجتماع ويهرعوا إلى
المائدة التي وضعوا عليها الطعام
في قاعة مجاورة إبعادًا لها عن
عدسات الكاميرات.
ومن كان قد دقق محتويات تلك
الأطعمة التي كانت أمامهم لوجد
أنها ليست من المطبخ البغدادي ولا
تمت إلى المطبخ العراقي بصلة،
وإنما كانت من مطابخ إيرانية
وأميركية وبريطانية ومطابخ الدول
التي تحالفت مع أميركا في غزو
العراق.
|