عندما أعلن محمود عباس مؤخرا عدم
رغبته في ترشيح نفسه مجددا لرئاسة
سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني
احتجاجا على انحياز إدارة باراك
أوباما الأميركية إلى شروط دولة
الاحتلال الإسرائيلي لاستئناف
المفاوضات الفلسطينية –
الإسرائيلية، إثر الزيارة الفاشلة
التي قامت بها وزيرة الخارجية
هيلاري كلينتون إلى دولة الاحتلال
ورام الله المحتلة، سارعت كلينتون
إلى اعتبار الإعلان عن "رغبته" في
عدم الترشيح بمثابة "استقالة"، ثم
تسرعت بقبول هذه الاستقالة
المفترضة التي لم يعلنها عباس
بإعلان قبول إدارتها عمليا بها
عندما أعلنت استعدادها للعمل معه
"بأي صفة" له بعد ذلك، في استهتار
غير دبلوماسي باحتجاجه لم يستطع
الاحترام الظاهر لشخصه بصفته
"شريكا حقيقيا" للولايات المتحدة،
كما قالت، أن يحجب عدم الاحترام
السياسي له ولشعبه ولقضيته ولا
حتى ل"عملية السلام" التي انتدبها
رئيسها لتحريك مفاوضاتها، لأن
استعداءها لعباس ليس له إلا
تفسيرا واحدا هو استعداء "الشريك
الفلسطيني" الوحيد المتبقي ذي
المصداقية في هذه العملية، وتشديد
الخناق عليه، لابتزاز المزيد من
التنازلات منه، أو لا مانع من
رحيله.
لقد أمضت كلينتون معظم ما تبقى من
جولتها الشرق أوسطية في مراكش
والقاهرة في ما وصفه أندرو كوين
في تحليل له بثته رويترز في
الخامس من الشهر ب"احتواء
الأضرار" فلسطينيا وعربيا على
السياسة الخارجية الأميركية
المعلنة لرئيسها الناجمة عن
زيارتها، وقد ركزت حملتها لاحتواء
تلك الأضرار على تفسير انحيازها
إلى شروط دولة الاحتلال في تكرار
التأكيد على أن موقف إدارة أوباما
من الاستيطان غير الشرعي لليهود
الإسرائيليين في الأراضي
الفلسطينية المحتلة عام 1967 "لم
يتغير .. وقد أوضحنا ذلك
للإسرائيليين وللعرب وللفلسطينيين
وللعالم"، لكن كل الدلائل تشير
إلى أنها ما زالت لم تقنع أحدا من
هؤلاء.
وربما تكون إشارة كلينتون هذه إلى
"عدم التغيير" هي الحقيقة الوحيدة
الصادقة والمقنعة في كل تصريحاتها
أثناء جولتها في المنطقة، لكنها
أيضا الحقيقة الوحيدة التي يكمن
فيها السبب الأول والأخير لخيبة
الأمل والإحباط اللذين دفعا
"الشريك" الفلسطيني ونظرائه العرب
إلى الاختلاف علنا لأول مرة مع
"الراعي" الأميركي الذي يتوسط منذ
عقدين من الزمن في عملية سلام
عبثية أصبح طرفها الفلسطيني يدرك
تماما أنها مطلوبة لذاتها فقط،
ويبدو أنه قد توصل إلى الاستنتاج
أخيرا بأن استمرارها لذاتها يجب
أن يتغير، وأن دور الوسيط
الأميركي يجب أن يتغير، وأن
مرجعية الأمن الإسرائيلي لهذه
العملية يجب أن تتغير، وإذا
استحال كل ذلك فإن الشراكة
الفلسطينية في هذه العملية يجب أن
تتغير ويعاد النظر فيها.
لكن الحصيلة المؤكدة لجولة
كلينتون الأخيرة في المنطقة أكدت
أن لا شيء من ذلك سوف يتغير، وأنه
إذا كان لا بد من تغيير ما في
العملية فليكن تغيير الشريك
الفلسطيني في العملية إذا لم
يتساوق معها، وإذا كان عباس يعجز
عن التساوق، فليستبدل، وإذا رفض
فلتجر"إزاحته" من الطريق، لأنه في
هذه الحالة سيتحول إلى "عقبة في
طريق السلام". ويبدو أن دولة
الاحتلال والوسيط الأميركي قد
وجدا سابقة ناجحة في توفر
"احتياطي" من المفاوضين
الفلسطينيين، احترف التفاوض
ك"طريقة حياة"، وكان لديه استعداد
ل"تغيير النظام الفلسطيني" الذي
كان يقوده الراحل ياسر عرفات ثم
لتجاوز "إزاحة" عرفات نفسه لإخراج
هذا النظام إلى حيز الوجود، لكي
يفكر الحليفان في تكرار التجربة
مع عباس.
ومن المؤكد أن "هذا" التغيير ليس
هو التغيير الذي أثار عاصفة من
التفاؤل لم يتبدد غبارها بعد في
أوساط شركاء السلام العرب الذين
تفاءلوا خيرا بوعد الرئيس
الأميركي الجديد أوباما
ب"التغيير"، وبخاصة الفلسطيني
منهم الذي ما زال يدفع ثمن
استمرار رهانه على التغيير
الموعود من أوباما انقساما وطنيا
يشجع أوباما وغيره على الإيغال في
ابتزاز المزيد من تنازلاته.
لكن أوباما لم يغير شيئا في
سياسات أسلافه تجاه الصراع العربي
الإسرائيلي، لا بل إنه تبنى
"رؤية" سلفه جورج بحذافيرها دون
إضافة أي جديد يحولها من "رؤية"
إلى خطة واقعية قابلة للتنفيذ
بمرجعية واضحة أساسها إنهاء
الاحتلال وبجداول زمنية وبضمانات
دولية، لينفض الغبار عن "خريطة
الطريق" لعام 2002 مرجعية لها،
وهذه خطة كان من المفترض أن تكتمل
عام 2005 وبناء عليه وعد بوش
الفلسطينيين بدولة في تلك السنة
قبل أن يؤجل هذا الموعد إلى نهاية
عام 2008 الذي انقضى بدوره دون
الوفاء بالوعد الذي جدده أوباما
لمدة عامين في الإعلام فقط بينما
مضت عشرة شهور على وجوده في البيت
الأبيض دون أن يتمكن من إعلان خطة
للوفاء بوعده، ليفاجأ شريك السلام
الفلسطيني بأن أوباما، بدلا من
ذلك، قد تبنى خطة رئيس وزراء دولة
الاحتلال الجديد ينيامين نتنياهو
بشروط إضافية لم تكن موجودة من
قبل، مثل الاعتراف الفلسطيني
ب"يهودية إسرائيل"، وتجريد أي
دولة فلسطينية في المستقبل من
السلاح، ومشروعه ل"السلام
الاقتصادي" مع دولة فلسطينية
مؤقتة لمرحلة انتقالية طويلة
الأمد، وأخيرا مصادقة نتنياهو على
مشروع قانون يمنع التوصل إلى سلام
دون المساواة بين "اللاجئين
اليهود" من الدول العربية
واللاجئين الفلسطينيين، إلخ.،
لتكون خلاصة خطة أوباما وصفة
لتأجيل الوعد الأصلي باختتام
مفاوضات الوضع النهائي عام 1999
بدولة فلسطينية تنهي المرحلة
الانتقالية لسلطة الحكم الذاتي
الفلسطينية إلى أجل غير مسمى.
والأدهى أن أوباما يسعى إلى تعديل
مبادرة السلام العربية لتنسجم مع
هذه "الرؤية" بدل أن يعدلها لتكون
أكثر انسجاما مع المبادرة
العربية، ويسعى إلى أن يدفع العرب
مسبقا ثمن السلام من أجل "تشجيع"
حكومة دولة الاحتلال على الجنوح
للسلام بإجراءات لبناء الثقة
معها! لذلك فإن تخبط كلينتون خلال
جولتها الأخيرة لم يكن مجرد فشل
شخصي لها كوزيرة خارجية فحسب، بل
كان تخبطها تعبيرا صادقا عن تخبط
رئيسها وإدارته وفشلهما في الوفاء
بوعودهما ووعود أسلافهما للمفاوض
الفلسطيني.
ويظل السؤال الفلسطيني المعلق
اليوم هو: هل يسمح الوضع الوطني
الفلسطيني ل"احتياطي التفاوض"
الفلسطيني بتكرار سابقة تغيير
نظام عرفات السياسي وتغيير عرفات
نفسه وكأن شيئا لم يكن؟ وهل يقاوم
النظام الفلسطيني الراهن في رام
الله كما قاوم عرفات حتى استشهاده
أم يكرر ما درج عليه من تراجع
ليرضخ فيتنازل مجددا من أجل
البقاء؟ إن الوقت المتاح للإجابة
قصير جدا ولن يطول انتظار الجواب.
وفي هذه الأثناء يفرض الشاعر
العربي نفسه عندما يقول: من يهن
يسهل الهوان عليه، ما لجرح بميت
إيلام". |