قال تعالى: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا
إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (سورة الأنفال،
الآيات: 46،45).
فمن أين يأتي الثبات، وكيف يذكر
الله تعالى، وكيف يطاع ورسوله صلى
الله عليه وسلم، ولِمَ تمنع
الطاعةُ النزاعَ والافتراق، وكيف
السبيل إلى النصر بالصبر؟
لا شكَّ أن الله تعالى يختص
بخطابه المؤمنين، والإيمان لا
يتحقق بشهادة التوحيد وأداء
الفروض الخمسة فحسب، بل يتعداها
إلى منظومة سلوكية واسعة تحيط بكل
جوانب الحياة البشرية، تعمل
بمجملها على تطهير الروح وتنقيتها
من الأدران لتحقق لها فطرتها
السوية، وتطوع لها العقل
والغرائز، وتكبح جماح النفس
وأهوائها، وهذا الذي يحول الحياة
الدنيا من هدفٍ إلى وسيلة لبلوغ
هدف أكبر، فحياة المؤمن عبارة عن
فروض امتحان واختبار يسعى بما
أوتي من طاقة وقدرة على اجتيازها
لينال الشهادة التي تؤهله للفوز
بما يحقق له بلوغ الهدف المنشود
بعد انقضاء سنيها.
ومن هنا يتحقق الفعل الحقيقي
للثبات عند الشدائد والملمات
ولقاء الأعداء، فمشاعر الخوف التي
تنتاب الإنسان غير المؤمن حين
اللقاء على حياته الدنيا التي لا
يسعى لما بعدها، أو لا يملك الهمة
للسعي لها، تتحول لدى المؤمن إلى
فرصة يغتنمها ليختصر فيها زمن
الامتحان والاختبار بشهادة تنقله
إلى مبتغاه مباشرة دون مزيد من
عناء، وهنا تتناقض مفاهيم الحياة
والموت كلياً بين المؤمن وغيره.
فالذي يبحث عن طيب الذكر ومجد
التاريخ غاية ومبتغى قد يجد في أي
فسحة قادمة من الزمن المضاف لعمره
ما يعزز بها ذكره ومجده، لذلك
يتمسك بالحياة يبتكر في سبيل
المكوث فيها زمنا أطول كل ما
يمكنه حفظ جسده ويجنبه المخاطر،
وإن رافقه أمل بما بعد الحياة
الدنيا فالتصاقه بالدنيا أكبر لعل
وعسى أن يقدم في مستقبل أيامه ما
يقربه من تحقيقه.
أما المؤمن فلا يجد في كل هذا
مبتغاه وغايته، وذلك هو دافع
الثبات، الذي حقق من خلاله وبفعله
العرب انتصاراتهم، في صدر الرسالة
العربية الإسلامية، التي لم تكن
لتتحقق واحدة منها بقياسات الدنيا
وقوانين التشبث بها والركون
لمتطلباتها، فقد أفلحوا لأنهم
تسابقوا إلى الجنة التي وعدهم
الله تعالى، ذاكرين، شاكرين،
حامدين، مستمدين منه العون والمدد
والسداد على بلوغها.
والقتال وحده إذا تجرد من غاياته
وأهدافه لن يكون سبباً كافياً
لاجتياز الاختبار، إنما هو في
أعراف المؤمنين وسيلة من وسائل
عديدة يحقق من خلالها هدفاً يشكل
قاعدة من قواعد الإيمان، تلك هي
إعلاء كلمة الله تعالى ونشر دينه
وبسط عدله، وتبليغ عقيدته إلى
الناس جميعا، والجهاد سبيل من
سبلها، فالقتال إذن يرتبط بأهداف
محددة وواضحة، إما نشر للعقيدة
وتبليغ لها، أو دفع عنها وصيانة
لبيضتها.
وقد اقترن هذا بشرط الطاعة منعاً
للنزاع والفرقة، التي لا تفضي إلا
للفشل في تحقيق الهدف وفقدان
المكتسب بالتضحيات، فتذهب هي
وتضحياتها سدى، الاختلاف لابدَّ
كائن بين إنسان وآخر في العمل
والانجاز، على وسائله و أهدافه
بين المؤمنين وغيرهم، وعلى وسائله
بين المؤمنين فيما بينهم، ذلك لأن
الله تعالى منح عباده خصائص
وقدرات تختلف وتتفاوت من شخص إلى
آخر، في الشكل والمضمون، وهي
مدعاة لبروز وجهات النظر
المتباينة، لكن المؤمن يضع هذه
الاختلافات ضمن إطار محدد لا
يخرجها عنه لتتحول إلى بغضٍ
وتناحر وأحقاد، هذا الإطار يتمثل
بمصادر عقيدته؛ القرآن الكريم
والسنَّة النبوية المطهرة، قائمة
في الناس إلى يوم القيامة، لا
تبديل ولا تغيير، فيها من الأسس
ما يمنع أيّ تباين في وجهات النظر
كي يتحول إلى خلاف وتعارض،
فالمؤمن لا يحب لأخيه ما لا
يرتضيه لنفسه، فلا يحمله ما لا
يطيق هو حمله، ولا يطالبه بما لا
يطالب به نفسه قبلها، والفرق بينه
وبين غيره من المؤمنين لا يتحقق
إلا بالتقوى، زيادة ونقصانا، يعزز
هذا ويسنده أن المؤمنين جميعاً
يقفون على أرضية واحدة ويسعون
لهدف واحد، والاجتهاد ليس فيهما،
إنما في اختيار الوسائل للوصول
إليها، وهو متاح ولا يتطلب النزاع
والخلاف، فالنزاع لا يظهر إلا إذا
أفترق الجمع على الأهداف.
وهذا يتطلب الصبر، فهو مفتاح بابه
وبلسم شفائه، وقد قال تعالى: {
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (سورة
العصر)، الصبر إذن هو عزيمة يشدّ
بعضها أزر بعض، والإيمان يخلق
القدرة على التوحد في الجهد
والمسار والهدف، تسندها العدة
التي يتطلبها لقاء العدو، فإذا
استجمعت وتحققت كان الصبر طريقا
للنصر والظفر.
إن الغلبة في الحروب لا تحققها
أدواتها بأشكالها المختلفة مهما
تطورت إن لم تستند إلى الإرادة
التي تحركها وتُظْهِر فعلها
وأثرها، فذاك "الصمصامة" السيف
الذي طارت أخباره في كل مكان،
تحاك فيه الأعاجيب والأساطير، لا
يُسْتَلّ في معركة إلا وخرج منها
منتصراً يقطر دما من رقاب
الأعداء، كان أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب رضي الله عنه قد بعث
إلى صاحبه عمرو بن معد يكرب أن
يبعث به إليه، لما طرق سمعه من
أعاجيب القصص والروايات عنه، ولما
جرَّب فعله وأثره وجده سيفاً لا
يمتاز عن غيره من السيوف بشيء،
وكتب إلى عمرو بذلك، فردَّ عليه:
إنما بعثتُ إلى أمير المؤمنين
بالسيف ولم أبعث إليه بالساعد
الذي يضرب به.
وعلى هذا فإنَّ عُدَد الغزاة
وأسلحتهم مهما بلغت من قدرة على
التدمير فإنها بأيدٍ لا تملك من
الإيمان شيئا، ولا تسعى لما بعد
الحياة الدنيا أبدا، أهدافهم لا
تخرج عن محيط الدنيا، ولا أشدّ
تمسكاً بها منهم، لذلك فإنّ
هزيمتهم ولدت في أهدافهم، لكنَّ
تحقيقها بحاجة لمن أذعنوا لأمر
الله تعالى فكونوا جمعاً موحداً
على المسار والهدف، كأنه بنيان
مرصوص، لينصرهم الله تعالى عليهم
نصراً عزيزاً مؤزرا.
|