تسائلني أم أحمد عن العيد،
يداهمنا، ما ستقدم لمن أراق دمه
على محراب الشهادة حباً وإيماناً
ويقيناً وقدراً محبباً في ذكراه
الثالثة!
سؤال يبعث أرقاً فوق الأرق، وهماً
يضاف إلى كم الهموم، وموجة غضب
تلتحق بموجات تسبقها لتتكسر معها
على شواطئ الذاكرة المتقدة
والمتشظية كالرمال الصفراء في تيه
الصحراء، رمال لم تلتئم بعدُ
صخرةً تتحطم عليها كل موجات
الغضب، فتمنع الزَبَد أن يعود
أدراجه يخالط ماء البحر مجدداً
بعد أن لفظه مرة تلو أخرى.
فما عهدنا شهيد الحج الأكبر وعيده
المبارك إلا فارساً يتقدم
الفرسان، وما علمناه إلا شديد
الفراسة اليعربية النقية، فروسية
وفراسة استجمع رائدهما رحمه الله
وأسكنه فسيح جناته خلالهما كل
خزين أمته الحضاري النقي الصادق
المفعم بالإيمان من أقصاه إلى
أقصاه.
وقد ختم سِفر فروسيته بصولة لم
نعهد أحداً صالها منذ أن أفلت شمس
العرب، وغاب دورهم الحضاري وذهبت
ريحهم قرونا من الانحطاط ، صولة
وضعت الأمة بقل قواها الحية أمام
مصيرها وقدرها مرة أخرى، بعد أن
رسم لها معالم الطريق وعبده بدمه
الشريف، ورسَّخ مثاباته شاخصة
أمام العيان، لا يشتط ولا يختلّ
من تتبعها حتى يصل مبتغاه، وإن
كنا نشك أن يقف وقفته أحد حتى بعد
ألف عام، فيقهر الموت بالإيمان.
وأما الفراسة فإنَّا لا نشك لحظة
بتحققها، وإن أرهقنا زمن
انتظارها، وزاد من ألامنا ومعانات
شعبنا وأمتنا، وعطل مشروع نهضتها،
التي أبدع قواعده ورسخها في واقع
الأمة شهيد الفروسية والفراسة
رحمه الله.
كان من بين فراسة الشهيد أن موجات
الغزو ستتحطم على أسوار بغداد،
وقد تكسرت والله، وذهبت أدراج
الرياح كل أحلامهم ونواياهم
وغاياتهم وأهدافهم، ولم يسعفهم
التوحش ولم يدركهم التآمر
والإسناد المجوسي بكل أحقاده
وصلفه وأكاذيبه وأقنعة تشيعه
الصفوي، ولم ينعشه تخاذل حكام
العرب وغدرهم بابن أمهم وأبيهم
عراق شموخهم وصانع مجدهم، فليس
الغزو العسكري إلا وسيلة لتحقيق
أهداف وغايات، والهدف والغاية كان
تفتيت العراق كمقدمة للشروع
بتنفيذ مشروعهم الشرق أوسطي
الجديد، الذي يحقق للكيان
الصهيوني سيادة كاملة وهيمنة
طاغية على دويلات هزيلة تلد ميتة
بعد تقسيم أقطار الأمة إلى أجزاءٍ
متشظية، يقتسم الفرس معهم بعضاً
من شظاياها.
لكنَّ النصف الثاني لم ينهض ليطبق
مع شقه الآخر على الغزاة كما توقع
القائد الشهيد بفراسته التي لم
تكن في يوم من الأيام لتُخطئ،
وكان المجاهد الشهيد قد رهن
اندحار الغزاة الكامل والنهائي
وتحرير إرادة الأمة وقاعدة نهوضها
الحضاري في العراق بنصفي العراق
معاً حينما توقع لهما أن يُطيِقا
على العدو فيقطعا أنفاسه إلى
الأبد.
وإن كان هذا النصف قد وقع أسيراً
بيد الفرس منذ ساعات الغزو
الأوَلْ، لكنَّ هذا لا يبرر له
الخنوع والخضوع كل هذا الزمن،
فالفرس ليسوا بأكثر توحشاً من
أسيادهم طغاة الامبريالية
الصليبية والصهيونية العالمية
وسيدة إجرامهم أمريكا، ونصفه
الآخر كان قد نهض من فوره لمقارعة
الغزاة بكل عتادهم وعدتهم، وتصدى
لجمعهم، لم تُثْنِه التضحيات
الجسام، ولم يمنعه الجوع والحرمان
والتشرد، كما لم تفتَّ في عَضُدِه
قضبان السجون والمعتقلات وآلامها
وعذاباتها، وحيداً في ساحات
المنازلة، لا من ناصرٍ ولا معين،
إلا من رحمة الله ومدده وعونه،
ولا شيء سواه.
وهذا الركون لنصفنا الثاني كان قد
ألحق بوحدة العراق ضرراً بالغاً،
وشوه صورته البهية، وطمس معالمه
الحقيقية الراسخة أمد الدهر،
وأمدَّ في عمر الاحتلال وجرائمه
زمناً طويلاً قارب على نهاية سنته
السابعة، زادت خلالها أعداد
المتساقطين في مستنقع العمالة
والجاسوسية والمتنصلين عن عروبتهم
وعراقيتهم، جرياً خلف أطماع النفس
ودناءتها ليس إلا، الأمر الذي ما
كان له أن يكون، والقهر الذي ما
كانت أيامه لتطول حتى عامه
السابع، لو كان هذا النصف المغيب
قد نهض من كبوته، نهضة لم يخل
تاريخه من مثيلها على مرِّ
الدهور.
لكنا نقرأ اليوم في عيون العراق
من أقصاه إلى أقصاه، حتى الذين
اشتطوا فتوهموا أن أرزاقهم لا
تأتيهم بسعةٍ من الله تعالى وقدر،
بل سيقدمها لهم الغزاة وأتباعهم
الأذلاء المدنسين على طبق من ذهب،
دمعة تترقرق حبيسة بين الأجفان
والمقل لا تجد لها سبيلا ومنسكبا،
حزناً وألماً وندماً ولهفة على كل
أيام الشهيد صدام حسين رحمه الله،
حلوها ومرها، فقد كان في أكثرها
مرارة ما لا يمكن للغزاة وأذنابهم
أن يقدموه لشعب العراق وإن طال
بهم الأمد قرناً من الزمن، فما من
رأس في العراق كانت تعلوه هامة
مهما أوتيت من قوة، والهوية
العراقية كانت كافية جداً لتوحي
بكل قيم الرجولة والبطولة
والكبرياء وفوقها الكرامة
العالية، أيا كان العراقي ومن أي
منبت هو، بعد أن تحول هذا العراقي
الذي ذاق طعم الهيبة وعزها إلى
قزم هامشي تتقاذفه الأقدام النتنة
ركلا ورفساً وسحقا.
لقد اكتشف أهل العراق أنهم كانوا
سلعة تاجر بها الأوغاد فباعوها
بأبخس الأثمان، فما جاء الذين
ركبوا على بغلة مظلوميتهم إلا
لظلمهم وامتهان كرامتهم.
فلتنهضوا ولتصنعوا بشائر عيدكم،
ولتتلمسوا خطاكم على آثار الرجل
الذي كان يسعى إليكم بقلبه قبل
أقدامه، يتفقد الفرحة في عيون
أطفالكم ليل نهار، ولتفعلوا فعلا
يليق بمن يملك تاريخاً كتاريخكم،
ولا يقعدنكم الأمل وخشية الحتوف،
فللأعمار آجال لا يقدمها إقدامكم
ولا يؤخرها ركونكم ووهنكم وتخليكم
عن أداء الواجب، ولا يفرق بينها
إلا العزُّ والهوان، ومن هانت
عليه نفسه فتعساً لعيشه، عيشة
الدواب والبهائم، وكلها ترتع ولا
تشبع.
ها قد فتقت الجرح يا أم احمد
فأخرج بعضاً من قيحه وصديده، فأي
عيدٍ هذا الذي أحياه وموجب فرحته
غد غاب، وأي هلالٍ هذا الذي أترقب
عيده إن لم يصنع شجعان العراق
والأمة خيوط ضوئه بتضحياتهم
ووحدتهم خلف رايات جهادهم
المباركة. |