لازالت قوانين التاريخ وعلم
السياسة عاملا حاسما في الحكم على
الانظمة السياسية وتقرير مدى
شرعيتها , وبهما توزن أفعال
الحكومات لاأقوالها لبيان مدى
الاقتراب أو الابتعاد من قانون
التطور الاجتماعي , الذي لابد أن
يكون فيه دور الانسان فاعلا
وجوهريا , ضمن منطق أن لاعودة
للماضي , ولاأرتداد الى عصور خلت
. لكن التطور الاجتماعي رافقه
أيضا تطورا في الاساليب والوسائل
التي أعتمدتها القوى الاستعمارية
, لاستمرار سيطرتها وتسلطها على
الغير من خلال أنظمة مصطنعه فاقدة
الصلاحية , يجري التطبيل لها ونفخ
روح الشرعية فيها عبثا بهدف ضمان
مصالح أكبر وبخسائر أقل , غير أن
الصور المقززة والافعال المشينة
التي تنتجها هذه الانظمة ضد
الشعوب وهي تمارس سلطاتها المزورة
, أنما تفشي حجم التزوير الذي جرى
لصنع تارخ جديد لها , حتى عادت
كالبضاعة الفاسدة رائحتها تفضح
نفاد صلاحيتها وتكبل بالعار
مصدريها والمروجين لها . واذا كان
التاريخ يحدثنا عن نماذج كثيرة من
هذه الفصيلة فان العبقرية
الامريكية في الالفية الثالثة ,
أنتجت لنا نموذجا يكاد يكون فريدا
في مواصفاته ليتربع على عرش
العراق , هذا البلد الحضاري
الزاخر بالامكانات , فالاحتكام
الى منطق العقل ووضع جميع الذي
جرى في العراق منذ التاسع من
نيسان العام 2003 وحتى اليوم على
محكه , أنما يكشف لنا عن المسببات
المنطقية التي أدت اليه , وهي
أولا أن العراق دولة محتلة حتى
هذه الساعة برغم ماسمي (
الانتخابات ) التي تحكم المحتل
بنسبها والمشاركين فيها وضروفها
غير القانونية , وبرغم تعدد (أيام
السيادة ) التي تم الاحتفال بها ,
وثانيا أن السياسة التي تمارسها
الادارة العراقية الحالية , ماهي
سوى صدى لصوت المحتل الذي مازال
مدويا وحاسما في كل الشؤون
العراقية , وأنعدام الارادة
الوطنية الضامنة لمصالح الشعب
والوطن , وبالتالي فأن الاحداث
الدامية التي أصطبغت بها نهارات
وليالي العراق , والتي مازال منها
المزيد كما يصرح بذلك قادة
الاحتلال الامريكي يوميا , وعلى
رأسهم الرئيس الامريكي أوباما
الذي أكد بان ( أمام العراق أياما
صعبة وشاقة ) , أنما يكشف بوضوح
تام بان الازمة ليست مشكلة أمنية
, وهم الذين جربوا كل الخطط
الامنية , وأوفدوا مئات الاف من
عناصر الامن والشرطة والمخابرات
الى أعرق الاكاديميات الامنية
العالمية لاعدادهم , وقسموا مدن
العراق الى مستعمرات تحيط بها
الاسيجة الكونكريتية , وقتلوا
وأعتقلوا بشبهة وبدون شبهة
الكثير, ودسوا مخبريهم وأعوانهم
في كل زوايا المجتمع , بل هي أبعد
من ذلك بكثير , أنه صراع تاريخي
على أرض دولة محتلة بين أرادتين
أحداهما المحتل وأعوانه الذين
يسعون لتطبيق منهجهم الشامل
المتمثل بالعملية السياسية
المعروفة الاهداف والنوايا ,
والاخرى كل القوى الحية في
المجتمع الرافضة لهذا المشروع
والممثلين بالتيارات الوطنية
والقومية واليسارية والاسلامية
والنخب الاجتماعية والاكاديمية
وكل من أمن بحقه في الحياة الحرة
الكريمة في عراق حر مستقل .
أن دخول العامل الدولي الممثل
بالاحتلال , الى الساحة العراقية
بما يمثله من أطماع ستراتيجية
وفتحه الباب أمام الكثير من القوى
الحليفة له , للعبث بالامن الوطني
العراقي كل حسب أجندته الخاصة ,
وتغلغل دول أقليمية أخرى بحكم
أرتباط الكثير من رموز ماكانت
تسمى (المعارضة) بتلك الدول
والتصارع بينها بسبب تقاطع
المصالح , ومحاولة المحتل
الانتقام من المقاومة بالصاق تهم
العنف التي يمارسها ضدها ,
لافقادها حاضنتها الشعبية , ودفعه
من أمتطاهم عند الغزو لتسنم
المناصب السياسية بغية نشر الفساد
المالي والاداري والاخلاقي , كلها
عوامل فاعلة اليوم في المشهد
العراقي , وتفاعلاتها الغير
طبيعية سوف تستمر بتحويل المعادن
النفيسة الى معادن رخيصه , ولو
الى بعد حين , وسيبقى الدم
العراقي يسيل كل يوم على أرض
الوطن .
واذا كان جهابذة السياسة
الامريكية وواضعي ستراتيجياتها قد
ضمنوا مصالحهم الاستعمارية في
العراق بأنفلاونزا العصر , نظرية
( الفوضى الخلاقة ) التي جعلت
الماسي العراقية باعداد مليونية
من أيتام وأرامل ومعاقين ومرضى
وشهداء ومهجرين وجياع ومعتقلين
ومفقودين , وأعادة البلاد الى عصر
ماقبل الثورة الصناعية , وجعله
يحتل بجدارة المراكز الاولى في كل
الازمات التي تعاني منها
المجتمعات في العالم حسب
الاحصاءات الرسمية الدولية , فان
المالكي هو الاخر أراد أن تكون له
فوضى خلاقة تحسب له , ويضمن من
خلالها مصلحته الستراتيجية بأعادة
توليه منصب رئاسة الوزراء , حتى
لو كان ذلك على حساب الهوية
الوطنية , ومعاناة المواطن وحقه
في العيش بكرامة , ففي ظل المأساة
الانسانية , وأفتقار البلد الى
أبسط الخدمات الاساسية , التي
يفترض في أية حكومة تملك الحد
الادنى من الشعور بالمسؤولية
الاسراع في أنجازها , نجده توجه
وبكل أمكانيات المسؤول الاول في
السلطة التنفيذية , للسيطرة على
أدوات القوة في الدولة (الجيش ,
الامن , المخابرات , الشرطة )
محاولا أنتزاعها لتجيير فعلها
لنفسه , وعندما فشل في تحقيق جزء
من ذلك بسبب عدم موافقة الامريكان
, ذهب لبناء أجهزة رديفة تؤدي نفس
وظائف تلك , لكنها ترتبط به
مباشرة لضمان ولائها له , وها هو
اليوم يستخدمها للقيام باعتقالات
بالجملة , دون أن يعلم أحد ماهي
تهم المعتقلين أو أماكن أعتقالهم
, مما نبه القوى الاخرى المشاركة
في السلطة على بناء قوى ذاتية لها
من خلال تعزيز وجود مليشياتها في
الجيش والشرطة . كما أن حملاته
العسكرية التي روج لها على أنها
ضد المليشيات , ثبت أنها قد أسست
لميليشيات أخرى هي مجالس الاسناد
التي أدت ( الى أن يكون شيخ
العشيرة رجلا حزبيا يتخذ من أبناء
عشيرته كادرا مسلحا لتنفيذ أوامر
صادرة من جهة حزبية تحكم البلاد ,
وأن شيوخ العشائر يتقاضون رواتب
ويتم التعامل معهم أحيانا على
أنهم مصادر معلومات ) حسبما أكده
أمين عام عشائر الجنوب , مما يلقي
ضلالا من الشك على تبجحه المتكرر
بالمسلك الديمقراطي الذي يدعي
تبنيه , حيث لاتوافق بين
الديمقراطية والبنى الاجتماعية
القديمة , لان النظام الديمقراطي
نظام حضاري متمدن . كما أن دعواته
لتعديل الدستور ورفض المحاصصة
وقيام مصالحة وطنية قد ذهبت
جميعها أدراج الرياح , بعد أن
تبين بأنها تصب في نفس المسلك
الانتهازي الذي تعامل به مع
القضايا الاخرى ,والتي كان يبغي
منها تشكيل قوى دافعه له يضمن من
خلالها الاستمرار في السلطة ,
وتوسيع قواعد حزبه الصغير .
أن فوضى المالكي نجدها خلاقة
اليوم في سياسته الخارجية , التي
تتحول فيها العلاقات مع الدول
الشقيقة من تعاون ستراتيجي الى
عداء ستراتيجي خلال يومين فقط ,
ولايمكن حل أشكالاته الا بالتدويل
كما حصل مع سوريا , والهرولة خلف
الدول الاخرى والتوسل بها كي تفتح
سفارت لها في بغداد , ظنا منه بان
هذا الفعل يزيد من شرعية نظامه ,
بينما يصبح الدبلوماسيين أسرى في
المنطقة الخضراء , وبذلك يتعطل
الهدف الاساس من وجودهم الفاعل في
تنمية العلاقات , والجولات
المكوكية على الدول الاوربية
وحضور مؤتمرات الاستثمار التي لم
يلمس المواطن لغاية الان فعلها
الموعود , وعجزه الواضح في أجبار
الدول المجاورة على الرضوخ لمطالب
العراق بما يخص حقه في المياه ,
وحقول النفط المشتركه , والحدود
والاسرى والمفقودين , التي تضمنها
المعاهدات والمواثيق الدولية
أما على الصعيد الداخلي فلا زالت
فوضاه خلاقة في ترعرع الفساد
المالي والاداري , بسبب معارضته
أستجواب المفسدين ومحاسبتهم ,
وأستمرار النكوص عن الوعود التي
أطلقها بالنهوض بالخدمات
الاجتماعية ورفع المستوى المعيشي
للمواطن , والقضاء على البطالة,
وأعادة المهجرين الى منازلهم
وتعويضهم عن الاضرار التي لحقت
بهم .
أن المسؤولية الملقاة على عاتق من
يتولى خدمة عامة , تتطلب أن تكون
حركته ضامنه للتماسك الاجتماعي ,
وفاسحة المجال لكل القوى الخلاقة
القادرة على البناء الفوقي
للمؤسسات الشرعية , كي نضمن
مجتمعا قويا تتحق فيه العدالة
الاجتماعية , وأن المجتمع العراقي
اليوم لم يعد فيه أي فسحة أمل لكل
الذين ساهموا في تقسيمه وتشتيت
قواه وحاولوا صنع بطولات فارغه ,
لم تسمن من جوع ولم تشفي من مرض . |