أعلن "رئيس إقليم كردستان" في
العراق مسعود البرزاني الأسبوع
الماضي، وفي مؤتمر صحافي مشترك مع
وزير الخارجية التركي، عن دعمه
للمساعي التركية لحل القضية
الكردية.
البرزاني يعرف جيدا ان "الحل
التركي" لا يُعطي أكراد تركيا، ما
حصل هو عليه في العراق.
ويثير هذا الوضع خمسة أسئلة، كل
واحد منها أكثر مرارة من الآخر:
1ـ لماذا يريد السيد البرزاني
لاخوته الأكراد في تركيا أقل مما
يريده لنفسه؟
2ـ إذا كان "الحل التركي" جيدا
لأكراد تركيا (وهم 20 مليون
نسمة)، فلماذا لا يكون "حل مماثل"
جيدا لأكراد العراق (وهم 5 مليون
نسمة)؟ بمعنى آخر، لماذا لا يكون
ما هو جيد للغالبية العظمى من
الأكراد، جيدا لأقليتهم؟
3ـ أليست "القضية القومية
الكردية" قضية واحدة؟
4ـ إذا كانت "قضية واحدة"، فأيهما
أفضل، تجزئة "القضية القومية
الكردية" على اربعة حلول متضاربة
ومتفاوتة (بين تركيا وايران
وسورية والعراق)، أم حلها على
سوية واحدة؟
5ـ ألا يشكل تفاوت الحلول مصدرا
لإدامة المشكلة؟
والإجابات، بمقدار تكون واضحة،
فانها تزيد مأزق البرزاني وتكشف
عورة الأساس الخاطئ الذي بنى عليه
إمتيازات سلطته الإنفصالية.
يقتضي الأمر الإعتراف، بان القضية
الكردية واحدة من اعقد القضايا
العالقة التي عرفتها المنطقة.
ويعود مصدر التعقيد الى عدة
عوامل:
1ـ أنها قضية مجزأة. فالأكراد
يعيشون في محيط أربع دول هي تركيا
وإيران والعراق وسورية.
2ـ أن الأكراد ليسوا موحدين على
رؤية واحدة لمطالبهم القومية.
3ـ أن الحل "القومي" للمسألة
الكردية يتصادم مع الكيانات
السياسية التي نشأت عقب انهيار
السلطنة العثمانية. في مقابل ان
حل المسألة، في كل بلد على حدة،
يتصادم مع سياسات واستراتيجيات
متضاربة بين هذه الكيانات نفسها.
4ـ ان القيادات الكردية من نوعين
متناقضين، إيديولوجي- قومي يمثله
بالدرجة الرئيسية حزب العمال
الكردستاني التركي، بقيادة
عبدالله اوجلان، وإقطاعي عشائري
يمثله بالدرجة الرئيسية حزبا
مسعود البرزاني (نجل الراحل مصطفى
البرزاني، عميد الحركة الكردية
المعاصرة) وجلال الطالباني.
وبينما يميل الاكراد في إيران الى
نموذجهم السياسي التركي، فان
الأكراد في سورية، وهم الكتلة
الأصغر، يقيمون روابط أقوى مع
النموذج الإقطاعي العراقي.
وفي خضم الصراعات، تطورت القضية
الكردية لتقدم نفسها على احوال
تبدو متناقضة. وهذا بحد ذاته،
يمكن أن يُعد تعقيدا خامسا.
فبينما لا يتمتع الأكراد في تركيا
(الذين يمثلون نحو 70% من مجموع
الأكراد في المنطقة) بأي حقوق
سياسية او ثقافية او حتى اعتراف
بصفتهم القومية المستقلة، فان
أكراد العراق كانوا يتمتعون بهذه
الحقوق مجتمعة، بل ان اتفاقية 11
آذار-مارس عام 1970 منحتهم حكما
ذاتيا واعتبرت الأكراد القومية
الثانية في العراق، وجعلت التعليم
باللغة الكردية، الأول في المناطق
الكردية، والثاني في المناطق
العربية.
وفي حين، ظل حال الأكراد في إيران
وسورية قريبا من حال الأكراد في
تركيا، فان القيادات الكردية
الإقطاعية العراقية تآمرت مع
الغزاة الأميركيين من اجل زيادة
نفوذها ودفعه ليكون بمثابة انفصال
واقعي، في إقليم يبدو اليوم
مستقلا بدستوره وجيشه ومليشياته
وعلمه الخاص.
العنصر الأساسي في الإمتيازات
الإنفصالية التي حصل عليها
إقطاعيو الأكراد في العراق، لا
صلة له بالمشروع القومي الكردي.
فاقطاعيو القضية الكردية لا
يستفيدون من الوحدة القومية
الكردية، وهم لا يريدونها، لأن
هذه الوحدة ستعطي الغلبة لأكراد
تركيا.
ولو قلت للقيادات الكردية في
العراق، اذهبوا لتتوحدوا مع
الأكراد في تركيا وإيران وسورية
لإقامة دولة كردية موحدة،
فسيكونون من أول المعارضين لها،
بل أنهم سيحاربونها، وقد يتآمرون
مع أي غزاة جدد لتحطيمها، لأنها
لا تلائم مصالحهم الإقطاعية
الخاصة، ولانها ستجعلهم أقلية
صغيرة وسط أمة كردية يبلغ تعدادها
نحو 30 مليون نسمة.
وبينما يتخذ الزعماء الأكراد في
العراق من "القضية القومية"
و"الحقوق الكردية" ستارا لتوسيع
مصالحهم ونفوذهم، فانهم ظلوا
يحاربون القوميين الأكراد الأتراك
ليس لأنهم يجدون فيهم خصما
أيديولوجيا، فحسب، بل لأنهم
يعتبرون المشروع القومي الكردي
الذي يمثله حزب العمال الكردستاني
تهديدا لإقطاعياتهم الخاصة.
ولهذا السبب فان القيادات الكردية
في العراق لم تأل جهدا في التحالف
مع الجيش التركي لضرب المناضلين
الأكراد الأتراك.
وما تزال أيدي هذه القيادات ملوثة
بدماء المئات من المناضلين
القوميين الأكراد الذين قضوا في
أعمال التواطؤ مع الغزاة
(الأميركيين والأتراك) ضد بني
جلدتهم.
الجهود التي يبذلها رئيس الوزراء
التركي رجب طيب أردوغان من اجل
إيجاد تسوية للقضية الكردية في
تركيا، يمكن أن تفتح أفقا تاريخيا
لحل يمكن، بل يفترض، أن يشمل
أوضاع الأكراد في الدول الأربع
مجتمعة.
القوميون العرب يكونون أكثر
إخلاصا مع أنفسهم لو أنهم دعموا
مطالب القوميين الأكراد في السعي
لبناء دولة كردية مستقلة وموحدة
على جميع الأراضي الكردية في
تركيا وإيران والعراق وسورية.
هذا هو المشروع الصحيح الذي يتوجب
على القوميين العرب الدفاع عنه.
القاعدة هي: أن تحب لأخيك ما تحبه
لنفسك. وبما ان من حق العرب ان
يتطلعوا الى الإستقلال والى شكل
من أشكال الوحدة القومية، فمن حق
الأكراد أن يتطلعوا الى الشيء
نفسه.
والعراقيون يكونون أكثر امنا
وإستقرارا وإزدهارا لو أنهم دفعوا
الإقطاعيين من القيادات
المليشياوية الكردية ليلتحقوا
بقوميتهم لعلها تتصرف معهم.
لم يكسب العراق من هؤلاء المجرمين
إلا الخراب والدمار والخيانة.
والتخلي عن جزء من الأرض لحساب
إقامة دولة قومية كردية موحدة، قد
يكون ثمنا مقبولا لوضع حد لجريمة
استمرت لعشرات السنين.
وما لم يمكن تحقيق هذا المطلب
القومي العادل للأكراد، فان ما
ترضى به الأغلبية الكردية في
مكان، يجب أن يكون مرضيا للأقلية
الكردية في مكان آخر.
الحل، لكي يكون راسخا، فانه يجب
ان يعطي الأكراد الحقوق نفسها.
وهذه الحقوق يجب ان تكون على سوية
واحدة. وذلك لكي لا يعود التفاوت
ليخلق مشاكل لدول المنطقة.
التخلي عن الأرض لحساب مشروع
تحرري قومي كردي يمكن أن يُنظر
إليه على انه تنازل من إخوة
مسلمين لإخوة مسلمين آخرين، ما
كان يجب ان ينشأ بينهم صراع أصلا.
فنحن لم نصنع اتفاقية سايكس بيكو
عام 1916 التي قسمت الدول
العربية، كما قسمت كردستان الى
اقليم موزعة على عدة بلدان.
ونحن لم نصنع "اتفاقية لوزان"
لعام 1923 التي تنكرت لبنود
"اتفاقية سيفر" لعام 1920 بعدما
نوهت بالحقوق القومية للأكراد.
إما إذا كان حل الدولة الكردية
الموحدة غير مقبول بسبب التعقيدات
الدولية المتعلقة بالكيانات
السياسية الأربعة، فان حلا يُرضي
الغالبية العظمى من الأكراد، يجدر
به أن يتكرر ويُستنسخ بالنسبة
للأكراد الآخرين.
وهذا يعني انه إذا وجدت الأغلبية
القومية الكردية (في تركيا) انها
تستطيع ان تتعايش مع مستوى معين
من الحقوق والامتيازات الثقافية
والسياسية، فمن الأجدر بهذا
المستوى نفسه أن يعم على الأكراد
في إيران وسورية والعراق.
وهذا يعني انه إذا رضيت الأغلبية
القومية الكردية بحكم ذاتي، أو
بتمثيل سياسي محدد، وبحقوق ثقافية
محددة، فمن الجدير بهذه الحقوق أن
تشمل كل الأكراد على حد سواء، من
دون زيادة ولا نقصان.
أي زيادة او نقصان سيكون مصدرا
للتحريض على بقاء المشكلة.
المشروع الذي يعمل من أجله
أردوغان بالتنسيق مع القيادات
الكردية في تركيا، ينتظر أن يأخذ
في عين الاعتبار ما يوصف بانه
"خارطة طريق" وضعها المناضل
السجين عبدالله أوجلان لحل
المشكلة الكردية.
هذا المشروع يصح أن يصبح إطارا
للنضال السياسي للأكراد في إيران
وسورية. كما يصح أيضا أن يصبح
قاعدة لحل المشكلة الكردية في
العراق.
فإذا بدا أن الإقطاعيين الأكراد
في العراق حصلوا على أكثر مما
سيتقرر في ذلك المشروع، فان
الواقع سوف يُلزمهم بالنزول إليه
من الحصان الخشبي العالي الذي
يواصلون امتطاءه.
لقد دلت التجربة التاريخية على أن
القضية الكردية لا تٌحل على
أجزاء. لان حلولا جزئية، ومتفاوتة
في الحقوق، سوف تحرض على تجديد
التوترات.
لقد منح حكم الرئيس الراحل صدام
حسين الأكراد حقوقا وامتيازات لم
يحصل عليها أشقاؤهم الأكراد في
تركيا وإيران وسورية. وكان ذلك
حافزا لهم ليواصلوا النضال من اجل
حل متساو على الأقل.
صحيح أن الإقطاعيين الأكراد في
العراق ظلوا يرغبون بامتيازات
أكبر، وعندما لم يحصلوا عليها،
عمدوا الى التآمر على تدمير
العراق برمته، فالحقيقة، هي انهم
فعلوا ذلك ليس ليسحقوا الحكومة
الوطنية العراقية فحسب، بل
ليسحقوا العشائر الكردية المنافسة
(الجاف، الهركي، فضلا عن الأسر
المدينية الكبرى في اربيل
والسليمانية ودهوك) التي تشكل
الأغلبية العددية للقومية الكردية
في العراق.
دوافع الاستيلاء والنهب (التي
تمرنوا عليها جيدا) لم تسمح
لهؤلاء الإقطاعيين أن يقدموا
نموذجا عقائديا جديرا بالاعتبار.
وحولت مليشياتهم الى عصابات قتلة
يعملون من اجل السطو على المال،
لا من اجل الحقوق القومية الكردية
المشروعة.
ما هو المشروع "الفكري" الذي يعبر
عنه مسعود البرزاني او جلال
الطالباني؟
لا تستطيع أن تسأل هذا السؤال دون
أن تثير الضحك. فـ"العصبجية" ليست
لديهم أفكار.
وبرغم الكثير من المليارات التي
أمكن للقيادات الإقطاعية نهبها
بفضل التواطؤ مع الغزاة، إلا أن
المناطق الكردية ظلت محرومة من
الكثير من الخدمات. وظل أغلبية
الأكراد يعانون الفقر والحرمان.
ولئن كان ظهور الكوليرا دليلا على
ما آل اليه "العراق الجديد" الذي
صنعه الأفاقون في ظل الاحتلال،
فالمفارقة الأكثر إثارة للدهشة هي
ان مرض الفقر والتفسخ كان قد ظهر،
أول ما ظهر، في شمال العراق.
والحال، فلو أتيحت الفرصة لدفع
هؤلاء الى الانفصال، لكان ذلك
أرحم على العراق.
ودفعهم الى الالتحاق بدولة كردية
موحدة سيكون خيارا أفضل.
ولكن حتى تحين ساعة إقامة تلك
الدولة، فانهم يجب ألا يتمتعوا
بأي حقوق أو امتيازات تفوق ما
تحصل عليه أغلبيتهم.
الذين يرون ما فعله الإقطاعيون
الأكراد بمصير العراق، حيث جلبوا
لبلدهم الخراب من اجل أن يكسبوا
بضعة مليارات من أعمال النهب، لا
بد وأن يُصلّوا أربعين ركعة أملا
بالتخلص منهم لحساب دولة قومية
كردية مستقلة، تأخذهم وتأخذهم
شرهم معهم.
ولعل هذه الدولة تمنحهم بمقدار
حجمهم المحدود، ولعلها تحاسبهم
على ما اقترفت أيديهم من جرائم ضد
الأكراد، دع عنك ما اقترفت أيديهم
ضد جيرانهم العرب، ودع عنك الخراب
الذي جلبوه للبلد الذي يهددونه
بالانفصال. ولكن أمرهم لن يكون
شأنا من شؤوننا.
يجب ان يعرف الذين باعوا العراق
ومزقوه، إن بقية العراقيين لا
يريدونهم بينهم. يكفي.
لقد بالغ الإقطاعيون الأكراد
بجرائمهم ضد العراق، بكل أقلياته،
الى حد أصبحوا معه عطبا لا سبيل
الى إصلاحه. وهم مثل الأصبع
"المتعفن"، فما لم يكن ممكنا دفع
دماء جديدة فيه (من بين العشائر
الكردية الأكبر) فان بتره هو الحل
الأمثل.
لقد ساعدوا في هدم وتدمير بلد
وشعب بأسره، بسبب أطماعهم
وأحقادهم وكراهيتهم للعراق. ومن
الأفضل التخلص منهم لكي لا
يفعلوها مرة أخرى.
و"التبرع" بهم لدولة قومية كردية
موحدة، قد يبدو "هدية مسمومة"،
إلا أنه يمكن القول للأشقاء
الأكراد في تركيا وإيران وسورية،
"هؤلاء أبناء جلدتهم، فتصرفوا
معهم، أما نحن فقد شبعنا من
جرائمهم ومن شرورهم".
ولكن إذا لم يكن هذا الخيار
ممكنا، وإذا لم تسمح لنا دول
الجوار بحل شامل للقضية الكردية
يُحررنا (او بالأحرى، يُخلصنا) من
مليشيات وعصابات ثنائي مسعود
وجلال، ومن كل "الشعب" الذي ينتفع
من جرائمهما، فان النموذج التركي
للحل، يجب أن يكون هو الحل
المشترك.
إذا وجد حزب العمال الكردستاني،
أن هذا الحل يلتقي مع "خارطة
الطريق" التي وضعها عبدالله
اوجلان، فمن الأولى بكل القوميين
الأحرار، من العرب والأكراد، أن
يعملوا من اجل جعل هذا الحل شاملا
ومتطابقا في كل مكان.
التفاوت في الحقوق والامتيازات
يجب أن ينتهي، لأنه، كما أثبتت
التجربة، لن يعدو كونه مصدرا
لتجديد النزاع، وميدانا لفائدة
أفّاقين يتخذون من القضية الكردية
غطاء لثقافة النهب والتوسع
والاستيلاء.
لقد آن الأوان لحل إقليمي شامل
يعطي الأكراد، في كل مكان، وعلى
حد سواء، ما يرضي أغلبيتهم،
ويطمئن الشعوب التي تعيش في
جوارهم.
هذا الحل، هو أفضل سبيل أيضا،
لوضع حد فاصل بين المناضلين
القوميين من اجل حرية وحقوق
شعبهم، وبين الذين يتخذون من حقوق
الأكراد ستارا للأعمال القذرة.
مسعود البرزاني وجلال الطالباني
لا يستفيدان من الحل الإقليمي
المشترك للمشكلة الكردية، ولا
يستفيدان من الحل القومي الذي
يتيح للأكراد بناء دولة واحدة،
وهما يريدان لنفسيهما ما لا
يريدان لأشقائهما الأكراد. بل
ويحاربان أشقاءهما ويتحالفان ضد
بقية الأكراد ولا يتمنيان لأحد
منهم خيرا. لماذا؟
لأنهما يمثلان حركة سطو مسلح، لا
علاقة لها بأي أهداف أو تطلعات
تحررية قومية كردية.
رجلا الإقطاعية الكردية في العراق
لم يقدما لهذا البلد إلا الحقد
والكراهية والثقافة العنصرية. كما
لم يقدما لقضية شعبهما القومية أي
فائدة. وها هما يحاربان اشقاءهما
لكي يحافظا على ما تمكنا من
الإستيلاء عليه زورا وعنوة.
وسواء كان قبولا بدولة قومية
واحدة، او حكما ذاتيا، او حقوقا
ثقافية وسياسية، فوحده الحل
الإقليمي المشترك هو الذي يمكنه
أن يحول دون تكرار او تمدد هذا
العفن. |