بينما كان جواد البولاني وعبد القادر العبيدي وزيرا الداخلية والدفاع
في الحكومة العراقية المعيّنة يتبادلان الاتهامات بخصوص مسؤولية كل طرف
عن حماية أمن بغداد، كان اللواء عبود قنبر قائد عمليات بغداد صامتا،
وقريبا منه جلس وزير الأمن الوطني شروان الوائلي لا همّ له سوى ألا
تطال الاتهامات بالتقصير وزارته. ويبدو أنّ الاتفاق تمّ بين الوزيرين
الأوّلين على أنّ حماية بغداد تقع على عاتق "قيادة عمليات بغداد"، وهو
الجهاز الذي شكله نوري المالكي في أعقاب موجة القتل الطائفي التي
اجتاحت العراق قبل حوالي ثلاث سنوات.
حدث كل هذا في جلسة البرلمان العراقي المعيّن التي لم يحضرها سوى ستّين
نائبا من جملة 275 نائبا. وفيما برّر بعضهم غياب النواب بالعطلة
السنويّة، فإنّ آخرين لمّحوا إلى أنّ ذلك الغياب يكشف عن حجم ولائهم
لوطنهم لا سيما في ظروف كالتي مرّ بها العراق خلال الأسبوع الماضي.
وقد توقف المراقبون عند تزامن تفجيرات بغداد مع الذكرى السادسة للتفجير
الذي هزّ مقرّ الأمم المتحدة في قلب العاصمة العراقية وأودى ساعتها
بحياة المبعوث الخاص للمنظمة الدولية إلى العراق سيرجيو فييرا دي ميللو
و 21 آخرين.
وإذا كان وزير الخارجيّة العراقيّ المعيّن هوشيار زيباري قد قال إنّ
هذه التفجيرات تكشف عن انخرام الأمن وعجز القوّات العراقيّة وتواطؤ بعض
قياداتها وعدم جاهزيّتها في غمز مبتذل للقوّات الأمريكيّة للعودة إلى
داخل المدن، فإنّ المراقبين توقّفوا عند كون التفجيرات الأخيرة هي
الأعنف منذ حوالي سنة ونصف من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار الذي
أحدثته.
ويبدو أن أهداف التفجيرات الأخيرة التي سقط ضحيّتها أكثر من 700 بين
قتيل وجريح قد تمّ اختيارها بدقّة من قبل الجهات المخطّطة والمنفّذة.
فلقد استهدفت العمليّة قصفا وتفجيرا وزارات الخارجية والدفاع والمالية
والإسكان والتربية والبيئة إضافة إلى رئاسة الوزراء ومبنى البرلمان.
لو كانت هذه التفجيرات وقعت في دولة حرّة ذات سيادة، لقلنا إنّها
استهدفت مقرّات السيادة. ولكن لأنها حصلت في العراق الجريح الذي
تتناوشه كلاب الداخل والخارج، فإنّ علينا البحث عن مفردات مختلفة لوصف
الذي حدث وتحليل أبعاده.
من الملاحظ أنّ تصريحات المسؤولين العراقيّين قد تباعدت وتضاربت في
سياق تفسيرها لما حدث ومحاولة تحديد الجهة التي تقف خلف التفجيرات
المروّعة. لكنّ أولئك القابعين في وكر الضباع يعلمون علم اليقين أنّ
حزب البعث -الذي اتفقوا في الأخير على إدانته وتحميله مسؤولية
التفجيرات- أبعد ما يكون عن مثل هذه الممارسات. والعراقيّون اليوم
يعرفون من الذي يقف خلف كل الأعمال التي تستهدف أمن الوطن والمواطن
تمويلا وتخطيطا وتنفيذا، مثلما يدركون أنّ هوس السلطة استبدّ بكلّ
أطراف العمليّة السياسيّة لا سيما قبل الانتخابات المقبلة..
لقد قـُدّمت كثير من التفسيرات لتفجيرات بغداد الأخيرة.. غير أنّ قليلا
منها حمّل الاحتلال الأمريكيّ مسؤوليّة ما حدث، وكأنّه بما زعمه من
انسحاب خارج المدن قد أصبح بعيدا عن المساءلة.. بعيدا عن المحاسبة، بل
لكأنّه أصبح مجرّد حكم بين أطراف متصارعة في حين أنّ المسؤوليّة
الرئيسيّة تقع على عاتقه. أمّا الآخرون الذين يتقاتلون على بقايا
المائدة العامرة فلا أحد بإمكانه أن يعفيهم من تبعات ما حدث وما سيحدث،
وهم الذين أظهروا استخفافا عجيبا بالدم العراقيّ...
في قائمة المآثر التي أنجزها الاحتلال وأعوانه طالعتنا آخر الإحصائيات
بالقول إنّه تمّ استحداث 1300 مقبرة جديدة في العراق منذ الغزو في
2003 وحتى الآن... مآثر الاحتلال وأعوانه تعسر على العدّ، فعدد المقابر
في الفلوجة يفوق عدد مدارسها ومساجدها، بل تقول الإحصائيّة إنّ مقبرة
في أحد أحياء الفلوجة يفوق ساكنوها من الأموات عدد الأحياء في ذلك
الحي!!!
من يدري؟ فلعلّ أتباع أمريكا في العراق يهيّئون المقابر أوّلا، ثمّ
يستقدمون ساكنيها. فإذا صحّ هذا الاحتمال فإنّ العراقيّين يجب أن
يحذروا موجات أخرى من القتل والتفجير لا يعني أصحابَها كثيرا من هم
السكان الجدد بقدر ما يعنيهم امتلاء المقابر التي شيّدوها. |