كان
الشيخ صبحي الهيتي إمامنا في الصلوات ، وخطيبنا في الجمعة ، مقتحماً
منابرها في جسارة ، وقد اهتزّت وارتجّت عاطفةً وانفعالاً ، يذكّرنا
كلّما وقف يخطب بمشاهير الخطباء .. الشيخ عبد الحميد كشك ، والشيخ
المحلاوي ، والشيخ محمد الغزالي ، فيلهب العواطف ، وتخشع قلوب المصلين
، وتسبق عيونهم العبرات ، ويقلّبون الطرف في الأرض والسماء ، إذا ذكر
الله والدار الآخرة .. بينما هو يشتدّ ويحتدّ في نزاله المنبري ، فتراه
يهدر كالموج ، ويزأر كالليث ، ويقصف كالرعد ، ويزمجر بصوت متعال ، حتى
أنك لتحسبه في بعض ما يخطب مقاتلاً في معركة !.
وكان يلقي علينا دروساً فقهية ، ومواعظ ، في أماسي رمضانية في المسجد
الكبير بالرمادي ، الذي يسمّيه آخرون بـ ( مسجد الشيخ عبد الجليل
الهيتي ) ، ويتلو في الصلاة قوله تعالى : ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر
الله ) ، فتنزل دمعته ، ويقنت بنا قنوت النوازل ، وكان من دعائه في هذا
القنوت : ( اللهم فك بقوتك أسرنا ، واجبر برحمتك كسرنا ، وتولّ بعنايتك
أمرنا ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، اللهم عليك بالظالمين ) .
وإذ عرف العرب منذ عشرات القرون ، أنواعاً من الخطب ، فهناك الخطبة
البتراء ، والعصماء ، والشوهاء .. ثمّ الخطبة التامّة ، والناقصة ،
والبليغة ، والمؤثرة ، فان الشيخ الهيتي كانت له رؤيته ، فهو يعتقد أن
خطبة الجمعة جريدة أسبوعية ناطقة ، قبل أن تعرف الدنيا عالم الصحافة ،
حيث كان المنبر الجمعي وما يزال ، تعلّق عليه مشاكل الأسبوع ، وان
الخطيب إذا أراد النجاح في خطبته ، فان عليه الاهتمام بمشاكل من حوله
من الناس ، وأن يستشهد بالآية الكريمة في مكانها ، والحديث الشريف في
موضعه ، والمثل في موقعه ، والحكمة في منزلها ، وبيت الشعر فيما يناسب
المقام .
وتعرض الشيخ صبحي الهيتي في حياته إلى حملات من بعض ( المتدينين ) ،
وتحمّل استفزازات لا قبل له بتحمّلها ، ولكنه تقبّلها بمنطق الكاظمين
الغيظ ، والعافين عن الناس ، وهاجمه بعض ( المتعالمين ) ، وطعنوا فيه ،
لأنه لم يرق لهم أن يحارب خرافاتهم ، وأباطيلهم العدمية ، فيرسل عليهم
شواظ من نار ، وكانوا يحاولون أن ينالوا منه بكلّ إسلوب ، ويلحقوا به
الأذى عن قصد وعمد ، وهيهات أن تستسلم الجبهة المؤمنة ، ومن المحزن
أنهم وصلوا حدّاً ، سمّاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ( الفجور في
الخصومة ) !.
عرفت الشيخ صبحي الهيتي ، وكان منّي غير بعيد ، مستقيم التديّن ، لم
يضع نفسه وسط التيارات المتضاربة ، ولم يتهالك على المناصب ، يتحرى
الحق ويسأل عنه ، يظنّ أن المذاهب الإسلامية أمر عائلي ، وحين سأل
عائلته ، وقالوا له : أنهم على مذهب الإمام الشافعي ، فإنه قرأ فقه
الإمام الشافعي ، وعندما أكمل دراسته ، اختار الفقه الحنفي ، على طريقة
الفقهاء ( إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ) ، وكان يخشى الإفتاء ، لكنه إذا
سئل ، ووجد في نفسه القدرة على الفتيا ، استعان بالله ، وأفتى السائل
.. وكم مرة استوقفتني أدعيته المأثورة وهو يتلوها تقرّباً إلى الله
وطمعا .. وقال لي : انه ارتقى المنبر أول مرة في (1 حزيران سنة 1953)
في ( جامع السادة ) في بعقوبة ، وكان من عادته كتابة الخطبة منذ يوم
الأحد ، ثمّ يزيد عليها وينقص منها ، حتى يلقيها في صلاة الجمعة ، وخطب
مدة ستة شهور يحرّر بالورقة ، وفي ( الأول من كانون الثاني سنة 1954 )
حدث ما لم يكن في الحسبان ، ووجد نفسه أمام مأزق ، إذ عندما أذّن
المؤذن ، لم يجد الشيخ الهيتي الخطبة التي أعدّها ، وكان موقفاً حرجاً
، وخطب متردّداً ، ومرتبكاً ، وفي الحقيقة فان تلك الخطبة ، كانت
البداية إلى الارتجال ، والعفوية .. بعيداً عن التكلّف ، والتعقيد ،
والورق .
وهو ، على أي حال ، من مواليد هيت 1926 ، وتخرّج من مدرستها الدينية في
( جامع الفاروق ) وتتلمذ في حضرة فقهاء كبار : عبد العزيز السامرائي ،
عبد الجليل الهيتي ، طه علوان السامرائي ، ضياء الدين الخطيب ، ولقد
وجدت في صبحي الهيتي ، وجهاً مشرقاً ، وثغراً باسماً ، ومزاجاً حادّاً
، وقامة طويلة ، محبّاً للمقام العراقي ويسمعه ، شرط أن يكون كلاماً
مقبولاً ، وكان يتساءل : ما المانع من تلاوة القرآن الكريم على أنغام
المقام ، ما دامت تحدث تأثيراً في نفوس المستمعين ؟!.
وقال لي الأديب الراحل يوسف نمر ذياب ذات مرّة : كانت في بلدة هيت
مدرسة أخرى، عدا الابتدائية ، هي المدرسة الدينية ، وكان ممن يدرس فيها
: الشيخ صبحي الهيتي ، ومدني صالح ، ورافع الكيلاني ، وانه لجأ يوماً
إلى الشيخ صبحي ، ليسأله عن إعراب كلمة ، فأعربها تمييزاً ، وبرغم أن
يوسف نفسه ، إنخرط في مهنة التعليم ، فإنه كان يسخر ، بقوله : (عندما
تكره السماء إنساناً تجعله معلما ) !!.
وفي أحد الأيام زرت الشيخ الهيتي ، وكان يرقد في مستشفى ابن البيطار
لجراحة القلب في بغداد ، ورأيته يتمدد على السرير ، بنصف عافيته ،
وبوجه شاحب ، وقد نقص وزنه بعض الكيلوغرامات ، وحلّ به التعب ، وأنهكه
المرض ، وأصيب بحالة موجعة من تقلّص في شرايين ساقيه ، وكان الأطباء
طلبوا منه أن يقلع عن التدخين ، فأطفأ سيجارته الأخيرة ، وقطع على نفسه
وعداً بأن لا يشعل سيجارة غيرها ، وكانت ترفه الوحيد ، ورفع عينه في
عينيّ ، وكانت تشتعلان كجمرتين ، وقرأ لي بصوت متهدّج منكسر عجز بيت من
الشعر ، يخاطبني : ( وكلّ ما يفعل المحبوب محبوب ) يا رباح آل جعفر ،
شارحاً صبره وتحمّله ، وقلت له أواسيه: إن هذا العمر ، يشبه القطار يا
أبا عبد الستار ، فكلّنا نعيش في وقت واحد ، ولا أحد بعرف متى تجيء
المحطة التالية ، وأين ينزل ، وكيف ينزل ، ومتى ينزل ، متى ..متى
لقد
كتبت ونشرت عن الراحل جزءا من هذا المقال في حياته ، وأذكر أنني قرأت
له ما كتبت عبر الهاتف ، ثم زرته الزيارة الأخيرة في منزله بمدينة هيت
العراقية الشاربة من نهر الفرات عطشا ، وكم كان يرحمه الله حفيا بي ،
وحانيا ، حافظا لصلات بيننا وعهود سبقت في حسابه كل حساب .. حتى يصح في
وصفنا قول البحتري :
لقد صدق البشير بما ابتهجنا
له لو كان يصدقنا البشير
لكن البشير ، لم يصدقنا ، حين سمعت بنبأ وفاته رحمه الله ، قبل ثلاث
سنوات ، وأنا مغترب خارج العراق غربة يوسف في الجب .. وكان من مناي أني
ألقي عليه سلام الوداع ..
فسلام عليك ، يا كبير الدعاة وقامتهم ، مع كل تكبيرة آذان ، وإقامة
صلاة ، وسلام عليك كلما استذكرناك ، فتبللت القلوب قبل المآقي بمطر
الأحزان .
|