نعى إلي الناعي يوم الثلاثاء 30 / آب / 2005 رحيل مفتي الديار العراقية
، فضيلة العلامة المجتهد الشيخ عبد الكريم محمد بيارة المدرس ، وقد
أطبق الموت عينيه ، وآبت روحه إلى ربها ، راضية مرضية ، وقضى عن عمر
تجاوز به القرن بعام واحد .. وما لبث نبأ وفاته يسري حتى نعته جوامع
العراق ، ومساجده ، ومصلياته ، ومآذنه ، وقبابه ، ومنائره .. وكان
وداعه إلى مثواه الأخير في مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني طوفان دموع
تسبح فوق النعش ، وهو يشيع من محبيه ، وطلابه ، ومريديه ، الذين غصت
بهم الدروب ، وهم يتدفقون حول جثمانه بالألوف .
اقتربت من الشيخ المدرس في حياته مدة عشرين عام ، فوجدته عن كثب ،
صواماً ، قواماً ، مقبلاً على ربه ، مشتاقاً ، راغباً في نصرة دينه ،
إنسانا رقيق القلب ، قريب الدمعة ، نقي السريرة ، صافي الروح ، حلو
المعشر ، رفيع الخلق ، باسم الثغر ، موطأ الأكناف ، عذب الحديث ، سريع
النكتة ، بسيطاً ، متواضعاً ، هيناً ، ليناً ، بعيداً عن التكلف ،
والتعقيد ، والتظاهر ، والادعاء ، تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع ، أو
رأى موقفاً إنسانيا ، ويهتز خشوعاً وتأثراً إذا ذكر الله والدار الآخرة
.
ولقد أتيح لي أن أراه عشرات المرات ، وكنت ألتقيه بمنزله في ( منطقة
جميلة ) ببغداد ، وألتقيه في الحضرة القادرية ، وتحت أفياء منارة القطب
الغوث الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وهو يمتشق لسانه الذهبي ، ويقرر
لطلبته دروساً فقهية ، أو أصولاً في منطق العلوم العقلية ، والنقلية .
وكنت اجلس في غرفة دروسه مع حشد من طلابه, وهم في صمت يصيخون السمع
إليه , ويغترفون بحورا من الحكمة , وقد تماسكت نبرات صوته , واتصلت
عباراته ببعضها , وتدفق كلامه .. يعلم الأبناء والأحفاد ، من دون عصا
التربويين القدامى ، ومن دون زخارف من متع الدنيا .
مرة يرتفع صوته وفيه قوة فصاحة الضليع بقواعد الدرس .. ومرة يتناهى
صوته بالإشارات الهامسة , تعبيرا عن لغة رمزية خفيضة الوقع , يعرفها
عادة أهل الدرس الفقهي , وكان منظره العام كله من حيث جلست أخاذا ,
ومؤثراً .. وبدا لي وجهه صبوحا متسقا في ملامحه ومريحا , والبريق في
عينيه شديد .
والحق أني كنت أخشى أن ادخل إلى عقله , أو لسانه , فاقطع حديثه , حتى
إذا فرغ في لحظة من لحظات انقطاعه عن الدرس , قاطعته عن الرغم عني
ابتسامة لم استطع كبتها على شفتي , ومد إلي عينيه في جلال , وباشراقة
تضيء , كل المساحة التي تحتويني في تلك اللحظات .
هو الشيخ محمد عبد الكريم بيارة المشهور بلقب ( المدرس ) , ولم يكن هذا
اللقب مشتقا من اسم عشيرته إنما جاءه من اختصاصه في تدريسه للعلوم
الدينية .. هو العالم ، والعلامة ، والإمام ، والمجتهد ، والفقيه ،
والحجة ، والمتصوف ، والزاهد ، والعابد ، والناسك ، والورع ، والواعظ ،
والمؤلف ، ومفسر القران الكريم ، ومدرسة الطرق الصوفية .. تأخذك مهابته
إلى أغوار العلم , فتتذكر السلسلة الذهبية من علمائنا المجاهدين في
العلم والورع والتقى , وهو , على أي حال , من العلماء المعدودين الذين
مزجوا الدرس الفقهي بمعرفة الله , واخلص لقلبه العرفان , إخلاصا لا
مثيل له , وفي سماحة تمتد إلى حيث تمتد جوانحه الروحانية , وفي زهد
يتبدى في عينيه , لعله هو اللغة التي تفسر ورعه وتقواه .
وفي حافظة أوراقي المهنية ، مجموعة حوارات ، ولقاءات ، كنت أجريتها على
امتداد عشرين عاماً ، مع فضيلة الشيخ المدرس ، أعود لها اليوم ،
مقتطفاً بعضاً منها ، من دون زيادة ، أو نقصان ، على حواشي الكلام ،
وبلا رتوش ، أو تزويق ، وفي حسابي احترام الأمانة الصحفية ، وردها إلى
أهلها ، فلا أنسب لغائب قولاً على عواهنه بما لم يقله ، وذلك من باب
إكرام الموتى وهم بعيدون عن هذه الدنيا في الملكوت الأعلى .
ومن بين تلك اللقاءات ، والحوارات ، أذكر أني في أحد الأيام ، ذهبت
قاصداً لقاء الشيخ المدرس ، حيث كان يقيم ، رحمه الله ، في الحضرة
القادرية ، وفي نيتي أن أناقشه في مسائل متشعبة ، ومتشابكة ، وربما
مرتبكة ، تتعلق بالإفتاء والتصوف والطريقة والعقيدة وحوار الأديان ،
والمعجزات والكرامات ، وقد تحقق لي هذا الحوار الذي نشرته ، حينها ،
بخمس حلقات ، في صحيفة الرأي التي كنت ذات يوم رئيس تحريرها .. كل حلقة
أخذت مني صفحة كاملة .
ومرت الأيام ، وتباعدت السنين .. وافترقت الدروب ، وان لم تفترق القلوب
، لم أر الشيخ المدرس ، ولم أسأل عن أخباره ، وهو عزيز علي وغال ..
وسمعت أنه غدا جثة هامدة فوق تخته الخشبي ، تؤذي صحته حتى فلاشات
التصوير ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ، ولم أطق صبراً على رؤيته ، حتى
وجدت نفسي أجلس أمامه .
مشيت نحو غرفة الشيخ عبد الكريم المدرس ، فرأيتها مظلمة ، فاعترتني
رعدة من الخوف حين خطر ببالي أنه ربما أصيب بمكروه .. وتهيبت الدخول
إليه حتى لا أهجم عليه الفجاءة ، وخرجت من المسجد ، ودرت حول فنائه حتى
دخلت إلى الروضة الصغيرة المسورة ، التي بها ضريح الإمام الشيخ القطب
الغوث عبد القادر الكيلاني ، لأنظر من نافذة غرفته المطلة على الضريح ،
فوجدته في فراشه ، وسمعت نشيجاً ودندنة تشبه الدعاء .
ولما دنوت من طرف الشباك ، وأصخت إلى الصوت ، سمعته يقول : ( رب أوزعني
أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح
لي في ذريتي إني تبت إليك واني من المسلمين ) .. ثم نشج نشجة عميقة ،
سمعته يقرأ بعدها قول الله تعالى : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم
ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ) ، ثم
رفع يديه إلى السماء ، واعول في البكاء ، وهو ينتحب ويقول : اللهم
جنبنا مصارع السوء برحمتك يا أرحم الراحمين .
هنا .. عدت أدراجي إلى المسجد عجلاً ، وقد أرعدني البرد القارس ، فدخلت
على الشيخ قبل أن يأذن لي ، فلما راني ، قال : لا تخف .. إنني لا أزال
حياً .. ولكني مريض .. فبادرت أسأله : ما الذي كان يبكيك يا مولاي ؟
وبماذا كنت تدندن ؟ .
قال الشيخ : إنها وحشة الشيخ الفاني ، إذا شعر بدنو أجله .
قلت : العمر الطويل يا مولاي .
قال : لقد طال يا بني .. ومن نعم الله على عبده أن يقبضه إليه قبل أن
يصير إلى أرذل العمر .. وما كنت أبكي من خشية الموت ، ولكني كنت أضرع
إلى الله في وحدتي ، فانه ، سبحانه ، يحب من عبده أن يدعوه تضرعاً
وخفية .
قلت : ما هذا الذي كنت تدعو به الله يا مولاي ؟ .
الشيخ : لكل منا آلامه ، وآماله ، ومخاوفه ، وذكرياته ، وكل يدعو بما
يتصل بذات نفسه .
ثم حول الشيخ وجهه عني نحو النافذة ، والدمع يجول في عينيه .. وقال ،
وهو يتشاغل بإغلاقها ، ليصرفني عن النظر إليه :
إن برد الخريف أضر من برد الشتاء .
ولما دنوت من سريره ، وانحنيت عليه ، أحس الشيخ أني أشرق بالدمع ، فقال
لي في شبه مؤاساة : ( وخلق الإنسان ضعيفاً ) .. ورحت أسأله :
بعد هذه السنوات المائة التي عشتها .. ماذا تريد ؟ .
قال : إذا أبقاني الله سالماً ، أشتغل بالتوبة من الله وحسن العاقبة .
قلت : وهل كنت محظوظاً في دنياك ؟ .
الشيخ : حظي من الدنيا ، أني جاملت الصالحين ، والعقلاء من أهل العلم
والدين ، والذين تفيد المجالسة معهم في جلب خير ، أو دفع شر ، أو
استقامة على خير .
سألت الشيخ عبد الكريم المدرس : هل أنت تخاف من الله ، أم تخشاه ؟ .
فنظر إلي الشيخ نظرة طويلة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، ثم قال :
وارحمتاه لكم يا شباب هذا الجيل ! .. أنتم المخضرمون بين مدرسة الإيمان
من طريق النقل ، ومدرسة الإدراك من طريق العقل ، تلوكون قشوراً من
الدين ، وقشورأ من الفلسفة .
واستطرد يجيبني عن سؤالي :
الخوف عام ، والخشية سمة روحية تمنع الإنسان عن سوء الأدب ، علماً ، أو
عملاً ، وأنا في الحالين أخاف وأخشى بعضاً مما أقدر عليه .. قال تعالى
: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) .
قلت : وبعد أن عشت مائة عام .. هل يقلقك الموت وتخاف منه ؟ .
الشيخ : كل ذي حياة يخاف من موته ، ولا يعجبه موته ، ولا بد لكل مسلم
وعاقل أن يخافه .. لا بد من تحسين ما ينفع عند اللقاء .. وفي ذلك
يحضرني قول أبي العلاء المعري :
يموت قوم وراء قوم
ويثبت الأول العزيز
يجوز أن تبطئ المنايا
والخلد في الدهر لا يجوز
وفي لحظة ، وجدتني أستدرك على الشيخ ، قائلاً :
لكن آخرين يشتاقون إلى الموت ، عملاً بقوله تعالى : ( وعجلت إليك ربي
لترضى ) ؟! .
الشيخ : هذا اشتياق في حسن الأدب .
سألته : وماذا أعددت ليوم الفزع الأكبر ؟ .
قال : أعددت له شيئين : العمل بقدر الإتيان .. والتوكل على الله المنان
.
قلت : أندمت في حياتك ، يا مولاي ، على فتوى اجتهدت بها فأخطأت ؟
الشيخ : الإنسان لا يخلو من النقص عنده ، ولكني إن شاء الله قليل
الندامة .
سألت : ما الحقيقة العظمى ، التي وصلت إليها بعد أن عشت قرناً من
الزمان ؟ .
الشيخ : استفدت العلم ، وجعلت لذلك العلم مفتاحاً لباقي العلوم التي
أريدها .
سألت الشيخ : ما أعظم كتاب قرأت بعد القران الكريم ؟ .
قال : كتب الصحاح الستة .
قلت : وما أعزها إليك ؟ .
قال : أعزها في عالم الإسلام وأنفعها كتاب ( الموطأ ) للإمام مالك .
*** وأعظم الفلاسفة ؟ .
*** قرأت الفلسفة ولم أتعمق فيها .
قلت : أليست الفلسفة طريقاً دالاً وصحيحاً إلى معرفة الحقيقة ؟ .
الشيخ : الطريق الصحيح هو إتباع الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه
وسلم : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) .
سألت : من أقرب العلماء إلى نفسك ؟ .
الشيخ : أقربهم إلي الشيخ عمر بن الشيخ محمد أمين المعروف بابن القره
داغي .. فلقد تخرجت على يديه ، وله نحو ثلاثين تأليفاً في الدين
والفلسفة .
*** لمن استمعت من قراء القران الكريم ؟ .
*** استمعت إلى الحافظ خليل اسماعيل فهو قارئ كبير .. وهناك كثيرون من
القراء المجيدين والمجودين أمثال عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق
المنشاوي ومحمد رفعت .
قلت : ما بيت الشعر الذي لازمك طوال مائة سنة من حياتك ؟ .
فقرأ علي الشيخ المدرس :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
سألت الشيخ : أكنت حكيماً في حياتك ؟ .
الشيخ : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرأ )
، والحكمة هي القيام بأمور الدين والدنيا ، علماً وعملاً لخدمة البشرية
.
قلت : أسافرت في طول البلاد وعرضها ؟ .
قال : لم أسافر إلا إلى الحجاز ، وكنت طوال حياتي مقيماً في بلادي .
*** وعشت حياتك بالزهد والتقشف .. أليس كذلك ؟ .
الشيخ : لم أقع في قحط وبلاء ورزقت منها بصورة مناسبة .
سألت : من تعتقد فيه خليفة لك من العلماء ؟ .
الشيخ : بغداد لا تخلو من أهل العلم والعلماء ، ( وهنا ذكر لي عدداً من
الأسماء ) .
******
في السنوات الأخيرة ، كان الشيخ عبد الكريم المدرس يتكلم كما لو أن
الملل أصابه ، يقول كلمة ويسكت ، أو يقتضب مقطعاً من دون أن يكمله ،
وكان يقضي يومه بين اليقظة والنوم ، ما اضطره أن ينقطع عن مجلسه في
الحضرة القادرية ... وأراني الشيخ المدرس بعض مخطوطاته ، وكانت أوراقها
هشة بسبب تقادم الأيام ، وطول السنين ، فهو يوم كتبها لم تكن لديه فرصة
للبحث عن ورق يقدر على مقاومة عوامل الزمن .. وتحملني أكثر مما هو جائز
، وأنا أقف ربع ساعة أمام كل مخطوطة ، في مكتبة أصيلة عتيقة ، موحية ،
بكل محتوياتها وبينها الكتب صفوفاً على الرفوف ، بنوع من الجلال
والكبرياء .
*******
ومرت سنون تجر وراءها السنون ، ظل الود متصلاً بيننا ، وأنا أزوره في
منزله ، وأتابعه بالصلوات والهمهمات والدموع .. وذات يوم ، وبالتحديد
يوم الجمعة 19 تشرين الثاني 1999 ، سمعت أن الشيخ المدرس ، يرقد على
فراش خريفه في مستشفى التمريض الخاص ببغداد ، وكان مريضاً لا يقوى على
حركة ، فهرعت إليه .. ووجدته نائماً في سريره مغطى إلى ما فوق الوسط
ببطانية من الصوف ، تظهر من تحتها الملاءات البيض ، وبجانبه ابنه صلاح
، فأيقظته ببطء ، وقد أومأ إلي بعينيه ، ووجدني أجلس أمامه ، وقال لي ،
وهو يضغط على كلماته ضغطاً :
انه على السرير يزداد شعوره بالمرض من دون داع ، ثم أنه يجد صعوبة في
متابعة الزائرين له ، ويضطر طول الوقت إلى لفت رأسه وبصره ، وهذا
يضايقه .
وقمت من مكاني أقبل جبهته الناصعة البياض .. وتبادلنا النظرات ،
وتكلمنا بالأعين ما لم تستطع أن تبوح به الألسن .
ولم يمض يومان حتى خرج الشيخ العليل من المستشفى بنصف عافيته ، ونصف
جسده ، ونصف دمه .. ومن جديد ذهبت أزوره في منزله ، ووقعت عينه في عيني
، وكانت نظرة أسى ممزوجة بنظرة عتاب ، ولقد عرفت أسباب الأسى إلا أنني
لم أعرف أسباب العتاب ، وجلسنا نتجاذب الخواطر ، وشربنا كوبين من اللبن
أعدته لنا إحدى حفيداته ، وكان الشيخ المدرس متمدداً على أريكته .. ثم
بدأت أسأله عن انقطاعه عن مجلسه في الحضرة القادرية .. وهو يرد علي :
لم أنقطع عن مجلسي ، ولكن المرض ألزمني فراشي ، ولي الأمل أن أعود إلى
مجلسي في الحضرة القادرية ، ما دام الله يتفضل علي .
قلت للشيخ : علمت أن المرض قد هجم عليك بشدة .. فمن ماذا تشكو ؟ .
قال : أشكو من ضعف عيني ووهن عظمي وضعف قوتي .
سألته : وكيف تمضي يومك الآن ؟ .
الشيخ : كما تراني بين اليقظة والنوم ، والخلوة إلى الله ، والرد على
مسائل العلماء والطلاب .
***********
كان الشيخ عبد الكريم المدرس يعيش في تلك الأيام شبه وحشة ، أو لعلها
غربة الفقيه الذي لم يأخذ مكانته ، التي يستحق في مجتمع انقطعت فروعه
عن أصوله ، وأوائله عن أواخره ، والأحفاد عن ميراثهم ، والدين عن جوهره
، وتحولت الشعائر والمناسك والفرائض إلى مجرد ممارسات طقوسية ، وأصبحنا
كلنا في حاجة إلى من يعيد لنا سيرة القرون الأولى .
**********
سألت الشيخ عبد الكريم المدرس : كم من الكتب ألفت ؟ .
الشيخ : لا أذكرها فهي كثيرة .. فقد ألفت كتاباً في الفقه والتفسير
والسيرة النبوية وترجمت بعض الكتب ، ك ( مواهب الرحمن ) ، وترجمت ل (
كاكه أحمد الشيخ ) .
قلت : يعتقد بعض العلماء ، إن كتابك ( تفسير القران ) كان من أرقى
التفاسير ، فما الذي أضفت فيه ؟ .
الشيخ : الإضافة هي ذكر ما يناسب مع الزمن ، وذكر ما يناسب القول ،
وذكر ما يناسب الناس ، في أن تختار أدب ما يناسب أهل زمانك ديناً ودنيا
، ويكون من المضافات حسن الترتيب ، وحسن العبارة ، ويكون من المضافات
الفنية الخالصة في سوق الكتاب .
واستدركت قائلاً : والبعض يخالفك الرأي ؟! .
الشيخ : كل من خالف طرق الأولياء فقد خالف اتباع طريق الرسول صلى الله
عليه وسلم ، لأن الله تعالى يقول في كتابه العزيز : ( الله ولي الذين
امنوا ) ، و ( إنما وليكم الله ورسوله ) ، و ( إن أولياؤه إلا المتقون
) ، و ( نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا والآخرة ) ، و ( يا أيها الذين
امنوا اتقوا وكونوا مع الصادقين ) ، و ( لا تكن مع الغافلين ) .
قلت : ألهذا السبب كان الإمام الغزالي أكثر تنويراً واعتماداً من غيره
من العلماء ؟ .
الشيخ : مؤلفات الإمام الغزالي هي الكتب المعتمدة في أن تكون للمسلم
شيئاً ، لأنه كان نادراً في علماء الإسلام ، فجزاه الله عنا كل خير .
سألت الشيخ المدرس : هل كان لقب ( المدرس ) مشتقاً من اسم عشيرتك ؟ .
وكان رده : جاءني اللقب من اختصاصي في تدريس العلوم الدينية ، وأنا في
العشرين من عمري ، امتهنت تدريس الطلبة ، وتحديداً عندما كنت في منطقة
( بيارة ) بمحافظة السليمانية شمال العراق .
قلت : وكثير من الكتاب ، قالوا : بأن ( المدرس ) عشيرة .. فهل تضيف
تصحيحاً على ما يقولون ؟ .
قال : أنا من عشيرة ( هوز قاضي ) ، أي جماعة القاضي .. وأنا عبد الكريم
بن محمد بن فتاح بن سليمان بن مصطفى بن محمد .. ولدت سنة 1904 في قرية
( دره شيش ) من قرى محافظة السليمانية .. أما والدي فقد كان رجل دين ،
وقد ولد في ( تكية خرمان ) وتخلق بالعلم ، وتلمذ لعلماء كثيرين في شمال
العراق .
سألته : كيف بدأت حياتك العلمية ؟ .
أجاب : بدأت الدراسة الدينية منذ أن بلغت سن التمييز ، فدرست الصرف ،
ثم النحو ، ثم المنطق ، ثم آداب البحث والمناظرة والبلاغة وعلم أصول
الدين والفقه .. وأجازني بها أستاذي المعروف العلامة الشيخ عمر القره
داغي في السليمانية سنة 1925 .
وبدأ الشيخ يسرد :
وأكملت دراستي في جامع مولانا خالد النقشبندي في السليمانية ، ثم عينت
مدرساً وإماما في ( حلبجة ) مدة ثلاث سنوات ، ومنها انتقلت إلى عدة قرى
كردية ، منها ( بيارة ) مدرساً في مدرستها الكبرى حتى سنة 1951 ،
منتقلاً منها إلى السليمانية مدرساً في مدرسة ( الحاج أخان ) .. وفي
سنة 1955 انتقلت إلى كركوك ، ثم قدمت إلى بغداد سنة 1960 مدرساً في
جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وقد سبقني لقب ( المدرس ) لعدة أسر
بغدادية ، وأضفت أنا كلمة ( بيارة ) قبل لقبي ( المدرس ) تمييزاً عن
لقب ( المدرس ) للأسر الأخرى ، فأصبح لقبي في بغداد منذ وصلتها عام
1960 ( عبد الكريم بيارة المدرس ) ، وصار هذا اللقب ملازماً لي ولذريتي
.
قلت : ماذا علمتك سنوات العمر ، وماذا أخذت منها ، وبماذا ترشد طلابك
ومريديك وتنصحهم ؟ .
الشيخ المدرس : إني عشت في حالة معتدلة ، وكنت طالباً للعلم والدين ..
أعرف بقدر حالي كيفية اتصالي بالأصدقاء والإخوان والزائرين والأساتذة
الذين أفادوني بالعلوم .. والإنسان إذا لم يكن معتدلاً في الدين
والدنيا لا يستفيد شيئاً ، وأن لا يكون هنالك إفراط وتفريط .. وانصح
طلابي ومن هم حولي برعاية الحياة ورعاية الفرص ، وأن لا يفوتوا فرصة
على أنفسهم ، ليستزيدوا منها ، أو ليعتبروا ، وأهم الأشياء الاعتماد
على الله ، ثم الاعتماد على النفس .
*******
لحظتها ، أحسست أن الوقت أزف ، فنهضت وودعت شيخي العلامة الكبير عبد
الكريم بيارة المدرس ، من باب لو دعوت أخاً لك إلى بيتك ، ثم طالت
إقامته فيه لضايق أهل البيت ، حتى وان ظللت أنت ترحب به كل يوم ! .
وأهداني الشيخ المدرس بعضاً من مؤلفاته ، بينها كتابه ( الوردة
العنبرية ) ، كما أهداني سجادة للصلاة كان يصلي عليها ، وطالبني بزيارة
أخرى دليلاً على تجاذبه الوجداني مع خواطري ، وأسبغت على مقامه من
الأوصاف دواوين شعر بأكملها ، وأسرفت في المديح ، وهو لا يحرك ساكناً ،
ولا يبش عن ابتسامة الرضا ، فعرفت أنه لا يرتضي مدحاً ، أو ثناء .
وفي صوته غصة من الأسى ، وحشرجة بكاء ، وأنا أراقب دمعة حارة نزلت على
خده ، لم يستطع إخفاءها برغم ما فعل .. وكان آخر ما سمعت منه ، وهو
يربت بيده على كتفي ، قوله لي :
إذا كانت لي فسحة في الأجل تلاقينا .. وإلا فترحم علينا .
*********
ونهضت والشمس في منتصف النهار .. ولم أره ، ولم أسمعه ، مثلما رأيته
وسمعته في ذلك اللقاء .. فقد كان ، لسوء الحظ ، آخر لقاء .. وكأن
السنين لا تمر .. وكأن أحداً لا يعي درس السنين ! . |