في بدء شهر رمضان ، أقف احتراما ، وأنحني إجلالا ، وأطوي الجوانح على
الآلام والذكريات ، وأرثي بحزن عميق ، كل الأرواح التي زهقت من شهداء
مذبحة الأربعاء ، فكانت قرابين ، وأضاحي قبل أن يأتي عيد الأضحى ..
وأرثي معهم كل شهداء العراق ، الذين أضاءوا كالبروق وجوهنا ، وأثبتوا
بالوجه الشرعي أن دماءهم كانت رخيصة ، أرخص من شربة ماء ، كما ثبت
بالوجه الشرعي رؤية هلال رمضان ، وماتوا في لحظة غابت عن العالم آدميته
، من دون أن يرتدوا بدلة عسكرية يواجهون بها الموت ، ومن دون أن يحملوا
مسدسا يطلقون منه رصاصة تعبر عن شعورهم بالقدرة على حمل السلاح ، ومن
دون أن يشبعوا من تنفّس الهواء ؟!.
ف ( واحر قلباه ) وقد تفوقنا على العالم باستنباط نوع من القتل لم
يعرفه ( آل كابوني ) ، ولا عائلة ( مانسون ) ، ولا عرابو جميع المافيات
.. وهل فكر أحد قبلنا في العالم ، أن يسرق بلاطات المآذن ، ونقوش
المساجد ، وقناديل الجوامع ، والمصاحف ، والقباب ، والقبور ، والنذور
.. وأن يقتل بائع خبز ، أو بائع حليب ، أو صبيا يبيع الصحف عند إشارات
المرور ؟!.
يأتي رمضان هذا العام ، مثل كل مرة ، مجللا بكثير من الحزن ، والشجن ،
والتفجع .. متشحا بكثير من الوحشة ، وملابس الحداد ، واللافتات السود ،
والخيبات والمناحات ، والتعازي .. فهذا العراقي يمارسون ضده كل أنواع
القهر ، والابتزاز ، بلا عطف ، أو شفقة ، وهو ما يزال يخزن حبوب الصبر
في صدره ، كما كان يخزنها سيدنا أيوب .. وصار قدره ( أن يسكن في جفن
الردى وهو نائم ) ، ثم يأتي من يسأله بعد هذه العذابات : هل آذاك الوجع
؟!.
لا الدم العراقي ينتهي ، ولا الدمع العراقي ينتهي ، ولا دفاتر الحزن
تنتهي .. ولم يكن هذا هو الذبح العراقي الأول ، ولن يكون الذبح الأخير،
ما دام الظلاميون ، والثأريون ، يتنازعون على من يقيمون الحد ،
ويحتربون على القصاص ، ويصبغون أيديهم بالحناء ، فضاعت الديات بين
القبائل ، وتوزعت دماؤنا حصصا على الأحزاب والمليشيات ، لكل حزب
وميليشيا حصة من دمنا المنساب .. ثم من أين يأتي العزاء ، إذا كانت
الضحية تشرح مأساتها بأسلوب المستضعفين ، وأمّا الجلاد فانه يتحدث عن
نفسه باسلوب الشهداء ؟!..
يوما ، كنا نخبئ أشواقنا تحت البلاطات ، وندسها في سلال الورد ،
وأكاليل الغار .. ويوما ، كان العراقيون يحيطون درعا من الفولاذ بواحد
من أجمل الأوطان وأحلاها وأغلاها .. ثم أصبحت المسافات ، والمساحات
بينهم بعيدة .
والعراقي صبور حد الشعور باليأس ، والإحباط ، يغص بلقمة تبدو يابسة
ومرة من شدة الفقر ، والعسر ، والعوز ، وتأنيب الذات ، لكنه لا يمل
الانتظار ، فتظل عيناه ترقب باللهفة ، والحسرة بابا قد يطرقه حبيب يأتي
، أو غائب ربما يعود .
يأتي رمضان .. والعراقي ما يزال مرتحلا بعمره ، مبثوثا في الريح ،
تائها في السراب ، شاردا في التيه والعذاب ، حاملا قلبه على كفيه ،
وحاملا وطنه في حقيبة اليد ، وبطاقات السياحة ، وطوابع البريد ،
والمطارات ، ووكالات غوث اللاجئين .. يعرف من أين ، ولا يعرف إلى أين
.. ؟ ، فأين يمضي وكل المنافي ضاعت من يديه .. وأين يمضي ولا بيت يأوي
إليه ؟!.
حسن ، سيشترع العراقيون في رمضان مواسم جديدة ، ويجمعون نثارات صور
ممزقة ، علهم يفرحون .. وسيتهجدون حتى مطلع الفجر .. رمضان مبارك . |