كلما اقترب موعد انتخابات في العراق ، وبدأت مواسم إطلاق الشعارات ،
شعرت بخيبة أمل من سياسيين بكائين ، مدانين بأخطائهم ، لا وزن لهم إلا
في الطائرات ، اتفقوا على توحيد الله ، وتقسيم الأوطان ، فبعثروا
العراق إلى ( كانتونات ) ، وشرذموه إلى ( جيتويات ) طائفية تحت مسميات
، وعناوين ظرفية ، وفي كل مرة ، تحفزني هذه الخيبة بهم ، أن أعيد قراءة
رواية ( أخوة كرامازوف ) من جديد ، هؤلاء الأخوة الأعداء الخصوم !.
السياسيون العراقيون على مختلف حجومهم ، وتلاوينهم ، وهوياتهم ،
مختلفون في كل شيء ، وفي كل يوم يبتدعون المعارك الوهمية ، لتسوية
حسابات مؤجلة ، ويتبارزون بحرب من كلمات ، أشد من الحرب الكلامية بين
الأمين والمأمون ، وبين جرير والفرزدق ، وبين الأخطل والراعي النميري ،
وبين المعتزلة والأشاعرة ، وبين الأوس والخزرج ، ثم ما أن يقترب موعد
انتخابات جديدة حتى تراهم متفقين ، متصالحين ، يعقدون التحالفات ،
ويبنون ائتلافات ، ويوزعون الابتسامات ، ويتعانقون ، ويتبادلون القبلات
بعد الشتيمة ، إذ ليس أمامهم غير التشبث بالآخر ، والتودد إلى الآم
الناس ، والتغني بعذاباتهم ، والتكسب بأحزانهم ، وكتابة المراثي في
مواجعهم .. والنتيجة ، لا من لقمة عيش ، سوى رغيف خبز يابس منقوع في
كثير من الأحيان بالذل .
ولا يقولن لي أحد هذه هي لعبة الديمقراطية في الوضع الناشئ الجديد ،
فما هذا إلا المنطق النفعي الضئيل ، واللهاث الأعمى لجني المال ،
والفوز بالمنافع ، والمناصب ، وكسب المغانم ، وقد أصاب العري هذه
الجماعات ، والأحزاب المشلولة ، واستلبها شعور بالهزيمة ، واتسع الخرق
على الراقع ، كما اتسع حجم الاختلاف السياسي ، وثبت بالوجه الشرعي أنها
كتل غير متجانسة ، تعطي لنفسها ميزة أداء دور الضحية قبل أن يأتي عيد
الأضحى .
وإذا صح أن يقال .. فهؤلاء بألف وجه ، وألف لسان .. وهم أساتذة النفاق
بلا منازع ، يقولون كلمات من العسل ، ويخدعون الغافلين .. ولمّا كانت
السيرة قد انفتحت ، فإننا نود أن نسأل هذه الكيانات العليلة : على
أكتاف من قامت .. ومن لحم من أكلت .. ومن دموع من شربت ؟.. ثم إذا كانت
هذه الأحزاب ، كما تدعي ، ذات رصيد من الجمهور ، وأفكار واسعة الانتشار
، فلماذا لا تتفضل إلى صناديق الاقتراع من دون الحاجة إلى الدخول في
تحالفات مترهلة ، غير متجانسة ، لا لون لها سوى لون الطائفة ؟!.
تكفي العراقيين ست سنوات من خطابات طائفية ، كادت تحرق الأخضر واليابس
، ما تزال شواهدها يقظى ، ولم تكن تلك السنين الست وصلة من الموشحات
الأندلسية ، ولا مشهدا دراميا ، ولا فنا استعراضيا ، ولا صورة بلاغية
من صور البلاغة العربية ، ولا عملا من أعمال الاستعارة ، والتشبيه ،
والبديع ، والبيان .. ولكنها سنوات كان العراقي في جفن الردى وهو يقظان
، اختصر إلياذة الصبر ، كما لم يختصرها ألف خطيب ، وألف أديب ، وألف
هوميروس .
سنوات ست ، أعطونا البرلمانات ، وأخذوا الحرية .. أعطونا الأراجيح ،
وأخذوا الأعياد .. أعطونا الحليب المجفف ، وأخذوا الطفولة .. أعطونا
الجوامع والكنائس ، وأخذوا الإيمان .. أعطونا الحراس والأقفال ، وأخذوا
الأمان .
ويحي على العراق . |