تصلي من أجل العراق ، تغمض عينيك طويلا
لتراه كأنك تحلم ، ترسم تراجيدياه في مخيلتك ، تلامس مواجعك مواجعه ،
تتأمله في السراب ، فتكتشف باليقين :
كم في العراق من عسس ، وعساكر ، وجيوش ، وعروش ، وكروش ، ونعوش ،
وبنادق ، وخنادق ، وبارود ، وجنود ، ورماد ، وخناجر ، وسكاكين ، وحراب
، وأنياب ، وذئاب ، وشطار ، وعيارين ، ومماليك ، وبرامكة ، وخلفاء ،
وأمراء ، وزعماء ، ووزراء ، وسلاطين ، وولاة ، وتيجان ، وحكام ،
وطواغيت ، وكوافير ، ومهراجات ، ومفتين ، وأناشيد ، وقمصان مزركشة ،
ومرقطة ، وسوداء ، وسراويل ، وجياد ، وحتوف ، ورايات ، وغارات ، وغزوات
، ولثامات ، وسيوف ، وحتوف ، وكر وفر ، ودم طلول ، وخوف ، وأفلام رعب ،
ونهايات غير سعيدة ، وكوابيس ، وفقدان أمن ، وميليشيات ، وسيطرات وهمية
، وفرق موت ، وعصابات خطف ، وزنازين ، وقضبان ، وسجون ، وسراديب ،
ومعتقلات ليس لها اسم ، وأقبية ، وقبور ، وجحور ، وجماجم ، ونحور ،
ينحرونها نحر الأضاحي من دون أن يقرأوا بسم الله.
وكم في العراق من ظلمة بلا كهرباء ، وجفاف بلا ماء ، ونفط بلا مردود ،
ومرضي بلا علاج ، وسرطانات بلا عقار ، وأضاحي بلا أعياد ، وأجساد بلا
رؤوس ، وتوابيت بلا جثامين ، ومجالس عزاء بلا معزين ، وأحزان بلا دموع
، وأشواق بلا تذكارات ، وجامعات بلا أساتذة ، ومدارس بلا طلاب ،
ومكتبات بلا قراء ، وصحف بلا صحفيين ، ودوائر بلا موظفين ، وبيوت بلا
ساكنين ، وأسواق بلا متبضعين ، ومتنزهات بلا متنزهين ، ومقاه بلا رواد
، وشوارع بلا أرصفة ، وحارات بلا شوارع ، وأطفال بلا طفولة ، وشيوخ بلا
شيخوخة ، ونساء بلا رغبات ، ومنابر بلا خطباء ، ومآذن وقباب بلا عصافير
خضر ، وحمر ، لأنها صارت تخشى أن تمزقها القنابل وهي علي أهبة التحليق
!.
وكم في العراق من أحزاب : ( كل حزب بما لديهم فرحون ) ، وقيادات بلا
قواعد ، وقواعد بلا قيادات ، وأدعياء بلا شرف ، ومنظمات حقوق إنسان لا
تهش ، ولا تنش ، ومنظمات مجتمع مدني ما أكثرها ، ومسميات ، وعناوين ،
وسياسيين ، وزعماء ، وقادة ، لو أن مركزا للبحوث والإحصاء تكفل
بإحصائهم لظهر أن لكل عراقي زعيما ، ولكل عراقي سياسي ، ولكل عراقي
قائد ، ولعل ذاك ما قصده علي الشرقي في بيت شعره الشهير : قومي رؤوس
كلهم .... أرأيت مزرعة البصل ؟!
وكم في العراق من فقر ، وعوز ، وبؤس ، وشقاء ، ويباس ، وعذاب ، وانتظار
، وغصة ، وحرمان ، وشعب يلهث من أجل لقمة العيش ، واحتلال يتلذذ
بالجريمة ، وفقراء صاروا قرابين علي مذابح الأغنياء ، وجوع ، وجياع ،
وصدق السياب القائل : ( ما مر عام والعراق ليس فيه جوع ) ، والمتنبي
القائل : ( جوعان يأكل من زادي ويمسكني ) ، والجواهري حين قال ( نامي
جياع الشعب نامي ) لم تحرسها آلهة الطعام التي فرت من المفخخات
والتفجيرات والاغتيالات والقتل الطائفي .
فلا تيسرت من حيث كانت تعسرت ، ولا عدلت من حيث ظلمت ، بل صار العراقي
مغدورا به ، وحيدا في ملاقاة الحتف الذي يداهمه كل يوم قسرا ، منفيا
بلا منفي ، مهاجرا بلا نصير ، مسافرا بلا وداع ، يكابد أمواج العذاب ك
( تايتانيك ) لينجو بروحه قبل أن يمخر قاربه البحر فيهلك بالحسرة . فمن
سيقول الكلمة الأخيرة في المأساة الطويلة التي يمر فيها العراق ، من
دون لوم الذات ، والآم الندم ، و ( قفا نبك ) ، والنحيب علي الأطلال ،
وتقبيل الجدران ... ثم من يجفف الدموع ، ويدمل الجروح هذه المرة ؟ . |