يوما كانت العروبة حجرا دارسا وأطلالا
وجدرانا يعلق عليه الشعراء معلقاتهم في سوق عكاظ ، وحلما يتغزلون به في
المربد ، وحالا من أحوال العشق في الحدائق السوريالية .. وكان العرب في
الجاهلية يسمون يوم الجمعة بيوم العروبة .. يوم كانت العروبة عروسة
سمراء يشبه وجهها الأبنوس وقد مرت بهودجها كإعصار ، تحمل الرايات في
يدها اليمنى ، وتكتب باليسرى قصة الآتين بالنار ، ثم لم يبق من العروبة
وأخواتها سوى دم ، ودموع ، وبقايا سور ، وقصائد عصماء معلقة على
الجدران .
وترجلت الفرسان عن جيادها ، وتجردت السيوف عن أغمادها ، وتنازلت الرماح
غير العوالي ، وتنافست المشيخات على الزعامات، واختلفت على الديات ،
وتقاتلت العروبة وأخواتها ، بين عبس وذبيان ، وسال دم أبناء العمومة
والخؤولة أربعين سنة في حرب البسوس ، وتقاتلت البطون والأفخاذ في
القبيلة العربية الواحدة حتى قال قائل منهم لما طلبت حبيبته الأخذ بثأر
أخيه : ( قومي همو قتلوا أميم أخي .... فإذا رميت يصيبني سهمي ) ..
وتذكرت القربى يوسف الذي ألقاه أخوته في غيابة الجب ، وقالوا أكله
الذئب ، ففاضت دموعها .
ويوما كان العرب ينجدون في تهامة ، ويتهمون في نجد ، ويعرقون في الشام
، ويشأمون في اليمامة ، ويتبغددون في المدينة المنورة ، ويتمدنون
متنورين في بغداد ، يوم كان الفرات والنيل وبردى والليطاني ونهر الأردن
متعانقين كالعشاق المعاميد ينبعون من القلب العربي ويصبون في القلب
العربي .
ووقفنا يوما مع شاعر العروبة سليمان العيسى ، منشدين : ( ناداهم البرق
فاجتازوه وانهمروا ) وكانت قصيدته مثار اهتمامنا ونحن طلاب ، نالها
الكثير من التأويل والشرح والإعراب .. وحفظنا عن ظهر قلب قصيدة عبدالله
البردوني ( زحف العروبة ) ، وفيها يقول : ( فكأن صنعا في دمشق روابي
.... وكأن مصر وسوريا في مأرب ) ، وانتسبنا إلى الشاعر القروي المهجري
رشيد سليم الخوري ، وهو يشدو من غربته : ( بنت العروبة هيئي كفني
..... أنا عائد لأموت في وطني ) .. ولم أكن أعرف لحظتها لماذا لا تكون
بلاد العروبة جديرة بالحياة بدلا من الأكفان ، وتزهو بأوطانها وأبنائها
، أم أن العروبة يتيمة ، فلا أم ، ولا أب ، ولا شقيق واحد لها ، ولا
شقيقة ؟!.
وأمسكنا نجوم السماء ، وكدنا نقطف الشمس والقمر معا ، وصفقنا بدفء
العشق والشوق ، وتسمعنا على نبض القلب ، واحتفينا بنزار قباني ، وهو
يلقي في بغداد قصيدته الميمية الرائعة ، التي مطلعها : ( أيقظتني بلقيس
في هدأة الفجر .... وغنت من العراق مقاما ) ( قبل عصر التوحيد نحن
اتحدنا .... وجعلنا راوه دمشق الشاما ) ، وتقاسمنا أوجاعه ، وهو يشكو (
أنا يا حبيبة متعب بعروبتي .... فهل العروبة لعنة وعقاب ) ؟!.
وكنا نقف في الصباحات الشتائية ننشد قصيدة فخري البارودي ( بلاد العرب
أوطاني ) ومن أين إلى أين ( من الشام لبغدان ... ومن نجد إلى يمن ...
إلى مصر فتطوان ) وكيف تكون الأوطان ملكنا ، وقد قطعوها مثل كعكة على
حافات السكاكين في سايكس بيكو قطعا متناثرة .. فمـن المطالب والقتيـل
القاتـل ؟.
كان المحيط هادرا في يوم من الأيام ، وكان الخليج ثائرا ، وكانت
أحلامنا فوارة ، وكنا شبابا حالمين نثور مع الخليج العربي ، ونغضب كلما
تلاطمت أمواج المحيط .. فماذا جرى الآن للمحيط ؟ وماذا جرى الآن للخليج
؟ وماذا جرى لأحلامنا الفوارة ؟ ماذا جرى لنا ؟.
وجاء زمن استعنا بالغريب على أخينا وابن عمنا ، ( وأحيانا على بكر
أخينا .... إذا ما لم نجد إلا أخانا ) ، واستبدلنا كتاب القومية
العربية بكتب التربية الوطنية ، ثم ألغينا هذه الوطنية من ثقافتنا
التربوية .. وكم كنا نقرأ لمفكري العروبة شبلي شميل ، وفرح انطون ،
وانطون سعادة ، وساطع الحصري ، وغيرهم العشرات ، من الطهطاوي إلى محمد
عبده ، إلى علي عبد الرازق ، والبساتنة ، وناصيف وإبراهيم اليازجي ،
الذي أطلق إنذاره الشهير للأمة بقوله : ( تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
..... فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب ) ولم تنتبه الأمة الى الذؤبان
والخصيان والشطار والعيارين والمماليك والنوكى ، وظلت عروبتها تغفو على
الضلال في عالم محنط الرجال .
ثم أصبح العربي يتلمس تذكرة السفر ، وتأشير الدخول إلى بلد عربي مجاور
، كما يتلمس رسالة غرام لم يفتحها بعد ، وينهض كالغزال الشارد ، وعيناه
مفتوحتان على الحدود ، أما قلبه فيكاد من شدة عنفوانه أن يطير .. ولكن
إلى أين ، وهو لن يجد من يستقبله ، أو ( طويل العمر ) الذي يقول له (
يا مرحبا ) ، ولا ذلك البدوي الذي يقدم له فنجان قهوة مرة ، وكل المدن
العربية فنادق صالحة للمبيت ليلة واحدة .. أو ليلتين على الأكثر ؟!.
فهل نقيم مأتمنا على روح عروبتنا ونتقبل التعازي ونقرأ سورة الفاتحة ،
ونكتب في رثائها معلقتنا الأخيرة .. فربما إذا كتبنا نتطهر من الخطايا
؟!. |