قالت زهرة: العالم دموي ينظر إلينا بعين مغمضة، مَن قتل والدي وفرق
أسرتي، وسلبني ألعابي وطفولتي ؟
أطفال العراق بين الضياع والأمية والتشرد، أطفالنا سلعة باعها الضمير
الإنساني, والعالم دموي حسب ما قالت زهرة , شاهد متفرج يحمل خطايا
الاحتلال بصمت عجيب, يجرح الطفولة البريئة بقلب جامد . أطفالنا الذين
استحالوا لعجائز وأيدٍ عاملةٍ يملئون شوارع الغربة الباردة والأرصفة
الجافة, يبحثون عن لقمة عيشٍ لسد رمقهم ورمق عوائلهم، ترى في هذه
اللحظة وأنت تقرأ عن نوارس العراق المذبوحة بسكين الغدر والاحتلال
بماذا ستحدث نفسك ؟ أو كم ستدوم اللحظة التي تشعر حيالهم بالأسى على
هؤلاء الصبية الذين كبروا وشاخوا بوقت قياسي عبروا مراحل النمو
والتكوين الإنساني فصاروا بلا مستقبل ؟ نحن لا نسأل مَن المسؤول أو عن
الأيادي الكثيرة التي ذبحتهم...بل كم ستدوم اللحظة التي تشعر حيالها
بالوجع؟ ترى هل ستطول هذه اللحظة أم ترحل بعد اقل من ثانية وكأنك تشاهد
فاصلاً قصيراً تلعن المسئول عنه ؟ بماذا ستحدث نفسك والعيد قاب قوسين,
والذي سيزيد من أعباء هؤلاء الأطفال ليغرس بذاكرتهم صورة بشعة لعالم
اغتال مراحل حياتهم أمام أمة كبيرة تعد من أكبر الأمم وصاحبة الحضارات
الإنسانية ودين التسامح ؟
الأهم كيف سيتحدث رجال الدين, وعن أي شيء في خطبة صلاة العيد عن الزكاة
والخمس أو عقوق الوالدين وأطفالهم عرضة للانتهاكات والاغتصاب والألم
والموت, أو قد يكون التسامح هو الجزء المهم في قضية أمة صمتت عن جور
الظلم ورضخت لتقسيمات الامبريالية والصهيونية, التسامح في هذه الحالة
مع مَن ولمصلحة مَن ؟ وهذا ليس بموضوعنا !! ترى هل سيتطرق رجال الدين
لذكر أطفال يتمهم الاحتلال ودمر منازلهم ومستقبلهم ثم أجبرهم على العمل
وحمل الأعباء قبل الأوان ؟ كيف ستكون خطبة الوداع لهذا الشهر الفضيل في
بيت الله الحرام ؟ أسئلة كثيرة تطرق أبواب ضمير الإسلام , تقف متفرجة
على هؤلاء الصبية الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا ليشيخوا قبل الأوان
في بلد عاقبه الله بجعله أغنى بلدان العالم ؟
أطفال العراق أو شيوخها يتمرنون على تحمل المشاق والمسؤولية في سن أبكر
من المبكر لثبتوا جدارة ما قام به الاحتلال من تدمير وصل إلى عمق
طفولتهم البريئة، ليؤكدوا الادعاءات الكاذبة للمنظمات التي أبت أن
تلتفت إليهم .
زهرة طفلة قي الثانية عشر من عمرها تعمل في بيوت الخدمة وبأجر يدفع لها
على عدد ساعات العمل ( بدون تعليق ) تقول : قتل والدي واعتقل أخي وعمي
وبقيت الأسرة بلا معيل حتى جاءت مليشيات الاحتلال وأخرجتنا عنوة من
المنزل , ثم جاءت بنا والدتي إلى سورية، بقينا لشهور مضغنا خلالها ما
نملك لأننا كنا نعتقد أن العودة للوطن ستكون سريعة . ولأننا أسرة كبيرة
من احد عشر شخصا لهذا اضطررنا للعمل أنا وأخي مع خالي الرجل المريض
المسن .
وتضيف زهرة:ـ أعمل في البيوت أخذ أجري على قدر ساعات العمل، ويعمل أخي
بمرتب شهري قدره 4000 ليرة، نعيش كالموتى، لم أنم منذ غادرة العراق
بمعدة ممتلئة . بالإضافة إلى ما أتعرض له من اهانة وضرب وتحرش في
البيوت التي عمل بها . لا يوجد ما أقوله سوى أن هذا العالم الذي نعيشه
دموي وقاسي ينظر إلينا بعين مغمضة، مَن قتل والدي وفرق أسرتي، وسلبني
ألعابي وطفولتي ؟
الكل يعرف الإجابة إلا نحن أطفال العراق , لا نعرف لماذا؟ وماذا حل
بنا؟ وكيف وصلنا إلى ما نحن فيه .
( وأدارت زهرة ظهرها لي وراحت تمشي بخطى ثقيلة لما تحمله من أغراض ومن
ثقل الهم الذي بات عبئاً على طفولتها .
عموري طفل صغير ترك المدرسة في الصف الثالث ابتدائي وبالكاد يعرف
الحروف الأبجدية العربية التي أدارت له ظهرها وتركته وحيدا في غلظ
وغفلة الحياة وجفاف المستقبل . عموري (شغيل ) يعمل لدى أكثر من محل
تجاري يحمل الأغراض ويوصلها إلى المنازل، يعيل عائلة كبيرة هو الآخر .
يقول عموري :ـ في صباح يوم اسود تحولت من طفل مدلل يأكل أكثر من ثلاث
وجبات ويذهب إلى المدرسة إلى حمال يركض بين المحال التجاري يكسب من كل
حمولة عشرة أو عشرين ليرة حتى تغيب الشمس ليعود محملا بالخبز إلى
عائلته التي لا تجد ما تقتات عليه . كنت ابن ضابط في الجيش العراقي
واليوم يتيماً بائساً توجه له الإهانات والشتم من كل صوب حتى صارت
الشتيمة والاهانة جزء من حياتي . فكرت في الفرار من أسرتي لكن أين أذهب
ومن سيهتم بأخوتي وأمي المرأة الوحيدة . لعنة الله على بوش ومَن وقف
معه وساعده في تدمير أسرتي وتشريدها .
بسام المراهق الذي ينتعل نصف حذاء ويرتدي بلوزة مهلهلة في هذا الصيف
الحار، بسام لا يعرف سوى كتابة اسمه واسم أبيه وأمه والعراق، هكذا
أخبرني والدموع تفر من عينيه وهو يستذكر أيام العراق الجملية، وحماية
والده، وعطف أخويه الذين ضاعوا مع الجثث المجهولة الهوية يعفرون أرض
العراق بدمائهم البريئة الطاهرة . بسام يعمل في أحدى ( الكافيتريات
الشعبية ) يوصل الطلبات إلى البيوت.
وبالرغم من ملامحه المتعبة المنهكة إلا انه مازال يحمل تلك الوسامة
التي تمَيز بها العراقي . يقول بسام والألم يأكل أحشائه التي انزوت
داخله واختفت :ـ لأحصل على لقمة العيش علي أن أركض من الصباح وحتى
المساء، الحياة مريرة وطويلة، لقد نسي الله العراق وأطفاله . لم أشعر
بطفولتي أو أعرفها لأني ولدت لأكون رجلاً كبيراً لا يحلم بشيء سوى أن
تكبر هذه الأفواه التي تركها والدي لي، وأم يأكل المرض جسدها .
ويسأل بسام بيأسٍ :ـ سيدتي هل كل الأطفال في العالم مثالنا ؟ هل يدرك
بوش وبلير وكل مَن كانت له يد في تدمير أحلامي , ما فعلوه بي . لماذا
هذا الصمت ؟ أين أطفال العالم الذي تربطنا بهم الأحلام والسرير الدافئ
والطعام والملابس النظيفة ؟ أين والدي ليأخذني في أحضانه يرمم جسدي
العجوز الذي بات عاجزاً عن حملي ؟ أين أنت يا والدي لقد تعبت، حتى
الموت أبى أن يأخذني وأرتاح، هل تعلمين أن الموتى أكثر أماناً وراحةً
منا .وبكى بسام بصوت جريح مرتميا في أحضاني التي لن تستطيع أن ترمم ما
يشعر به وما فاته من حياة الطفولة .
( حسبنا الله ) هدير الطفل الرابع الرائع الذي يضحك باستمرار وكأن
الدنيا فتحت ذراعيها واحتضنته، هذا الصغير يعمل لترويج بضاعة أحد
الباعة المتجولين من مناديل ورقية وقطع من الأقمشة للتنظيف، هذا الصغير
الضعيف البنية الذي أكل الفقر نصف ملامحه وترك النصف الآخر يشيخ تحت
الشمس وبرد الشتاء، هدير لا يعرف الكتابة والقراءة مطلقاً، لأنه لم
يدخل المدرسة فرت به والدته مع إخوته الصغار من القتل والموت لتنفذ بهم
حكم الإعدام جوعاً وفقراً وغربة، يقول هدير:ـ أتنمى أن أدخل المدرسة
وأرسم صورة والدي الذي بقيت عالقة في ذهني وهو مضرج بدمائه، كان يتوجع
قبل أن يفارق الحياة، أرسم هذه الصورة (أرسلها إلى أطفال العرب )
ليعرفوا أن هناك أطفالاً من إخوانهم يتمهم الاحتلال ونسيهم الصغار
أمثالهم وتخلوا عنهم،( حتى يأتوا معنا لمحاربة بوش واستعادت أبائنا ) .
هكذا تحدث الصغير الذي لم يبلغ من العمر سوى ثمان سنين والابتسامة تمر
من بين شفته وعينيه الحزينتين ليتدارك بها شقائه . هدير يركض بين
الشوارع العامة منتظراً الإشارة الضوئية ليعرض بضاعته على المارة
وأصحاب السيارات التي لم يملك ثمنها ولن تكون له يوما . كيف يعيش هذا
الصغير ؟
يقول هدير :ـ أعمل حتى وقت متأخر من الليل يعطيني صاحب البضاعة 100
ليرة بالإضافة لما أحصل عليه من المارة، ويصل مورد اليوم الواحد 200 ـ
250 ليرة أشتري ببعض منه ما تحتاجه الأسرة من طعام والباقي نجمعه
للإيجار، لكني لا أحبذ البقاء متأخرا في الليل حيث تقل الحركة ويبقى
السكارى واللصوص وأنا أخاف كثيرا لان هناك رجالاً يتحرشون بالصغار .
ـ وهل تخاف منهم ياهدير ؟
يقول هدير :ـ ولدنا في زمن الخوف والرعب , في زمن لا أمان فيه ومعه ,
ماذا يفعل مَن في مثل عمري برجل كبير ضخم ؟ مَن لا وطن له الخوف
والضياع رفيقيه . صرخ هدير وكانت آخر كلماته معي , حرام عليكم ما
تفعلوه بنا , اتركونا وشأننا .
رحل هدير وأنا أراقبه بقلب مجروح ابكي معه أيام العز والحرية . رحل وهو
راكض بين السيارات عسى أن يبيع بعض مما يحمله إلا الألم الذي كتب عليه,
والذي لن يشتريه أحد . لم يبكي هدير بل ضل يضحك ويضحك على الدنيا وعلى
مأساته، وأنا مَن بكيت على هدير وعدي وعلي وسرور وعمر وبسام ، ستة عشر
طفلا عراقيا التقيتهم, لكل واحد منهم قصة تكبي ضمير العالم , إن بقي له
ضمير، لم أسألهم ماذا يريدون أو بماذا يحلم هذا الأب الطفل للأسرة,
لأني من الذين يدركون الجريمة التي قام بها الاحتلال, ونعرف جيدا مَن
صفق له من الخونة والمرتزقة, ومَن فتح سمائه وأرضه ليكون هؤلاء الأطفال
هم الضحايا. لكني أتسأل هل ارتاحت ضمائرهم وهي تعبر مجسات الغيرة
العربية والقيم الإسلامية والسماوية تبحث عن الثراء وعن الكيفية التي
تسرق بها لقمة الصغار الذين ضاعوا بين التشرد والمسؤولية . ترى متى
تنتفض ضمائرهم وتثور كرامتهم؟ متى ينكسوا رؤوسهم معترفين بالجريمة التي
اقترفوها, وما سببوه من ماسي للأطفال وطني الحبيب وشعبه ؟ لا نقول سوى
حسبنا الله عليهم . حسبنا الله على كل مَن مَد يده لمساعدة ومساندة
ومصافحة الاحتلال.
تنويه إلى القراء الكرام : وأنت تقرءا عن أطفال العراق أو فلسطين لا
تنسى الدعاء بالخير والبركة لكل الحكام العرب الذين قدموا ما بوسعهم من
تنازلات وتسهيلات أرضاً وسماءً ومالاً لاحتلال العراق , وباعوا بذلك
شرفهم لتدميره وتحطيمه .
|