من أدب المقاومة / يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة - العنوسة تنخر قلبي من الداخل

﴿ الحلقة الثانية ﴾

 
 

شبكة المنصور

كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية
نهاية الشهر، يستدعيني محاسب الدائرة لأتقاضى الراتب بعد أن يُنهي توزيع رواتب جميع المنتسبين الذين احتشدوا في غرفته على شكل طابور طويل عريض تكون الابتسامات قد علت وجوههم وأنارت غرفة المحاسب المقطوع عنها الكهرباء.


يسألني في كل مرة عن سر عدم تلهفي على استلام الراتب فأجيبهُ بأني عانس، وأنّ الراتب مصيره في الجيب أن تقدم أو تأخر فلن يضرني متى ما استلمه لكن أم سيف صديقتي في الغرفة تلحُ وتلجّ بقوة لاستلامه، وتسحبني من يدي بقوة لنذهب إلى المحلات الكمالية القريبة من الدائرة لنسدد ما علينا من ديون متراكمة، ونقتني سلعا جديدة من إكسسوارات وأصباغ شعر ومكياج وجه وملابس يقول عنها صاحب المحل بأنها آخر صيحات الموضة.


أعودُ إلى البيت وأحشرُ الأكياس في الخزانة لأتأملها في وقت لاحق، ارتدي أحياناً بعض ما اقتنيتهُ، وأحياناً أخرى أهب بعضها لجارتي فضيلة التي قتل زوجها بعد انفجار سيارة ملغومة قرب المخبز الذي يعمل فيه وترك لها ثلاث بنات، وصبيا لا يتجاوز التاسعة من العمر.


البنات في سن المراهقة اعتدن على دلال الأب وحنانه لكن الموت قطفه من شجرة حياتهنّ فأصبحن أيتاما يشعرن بالنقص، وفضيلة تشعرُ بالعجز ومصابة بالشلل بعد رحيل وفاة الأب فلم يعد بإمكانها تدليل البنات كما كان يفعل زوجها، والمال القليل الذي تتقاضاه عن أجرتها في صنع الخبز داخل البيت لبعض الأسر من المحلة التي تسكن فيها يكاد يسد رمق الأسرة من الطعام والشراب.


أحياناً أهبُ الأكياس جميعها لفضيلة ولاسيما حين تطغي فكرة إني عانس على رأسي، وبأن قميصا جديدا أو تنورة مزركشة أو حذاء بكعب عال لن يمحي من قلبي هذا الإحساس القاتل ولاسيما أن هناك من ينعشه دائماً: رتل أميركي يجتاز الشارع وإنا ذاهبة إلى الدائرة، رتل أميركي يقف أمام نافذة غرفتي الٌمطلة على الشارع العام، رتل واقف في الطريق وإنا عائدة إلى البيت، جندي، ثلة من الجنود يتمشون في الطرقات وإنا ذاهبة إلى السوق، يتماثلون أمام عيني وأنا نائمة، يتسكعون في مخيلتي ليل نهار، أحياء أموات.


تنصحني أمي أن اقرأ المعوذات كلما يحضرون في مخيلتي، ولتجنب أذاهم أرتلُ بصوت مسموع {وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدأ فأغشيناهم فهم لا يبصرون}.


يكرر عادل طلبه مجدداً ويحاول أن يرشي خالتي وداد التي وعدته بالتأثير على تغيير قناعاتي بعد أن توضح له أني لازلت شابة، ولم أبلغ مرحلة العنوسة، وشعوري بالعنوسية شعور طارئ وليد مرحلة الاحتلال ستزول بزوالها.


تجاهد خالتي وداد في إقناعي بأن عادل مقاول ثري ينام على كنز من بيوت وأرصدة في البنوك وسيارات حديثة إنتاج 2009. وعادل شاب وسيم مثار إعجاب كل فتاة وتدمدم مع نفسها: لو كانت لي ابنة لما ترددت في تزويجها من مقاول ثري.


أدير ظهري لخالتي وأتركها دون أن تتم حديثها، تغادر بعد أن تؤثر في قناعات والداتي وتجعلها تنقلب وتتخذ موقفاً متشنجاً ضدي. ولم تتوقف عند هذا الحد أسمعها تحرِّض أمي ضدي قائلة لها: ابنتك مسحورة، هناك من عمل لها سحراً وعمل هوة بينها وبين الرجال.


امرأة مثل أمي ومثل خالتي وداد لن تصدق أن إحساسي بالعنوسة إحساس طبيعي ولِد تلقائياً دون أن يتدخل فيه ساحر أو مشعوذ، بل أن كل سحرة العالم ودجاليها ومشعوذيها لو اجتمعوا معاً لما تمكنوا من التأثير في قناعاتي، فأنا مثل كل نساء الأرض أقدس الحب، فالحب عندي ضرورة حياتية لا يمكن التنازل عنها، وأنا مثل أي فتاة أرسم ملامح فارس يمتطي جواده أراه في أحلامي ويهيمن على مخيلتي وقبل الاحتلال كانت مخيلتي تحمل ملامح لأكثر من فارس: هذا وسيم، وذاك رجل أنيق، والآخر ذو شخصية قوية يجذب أية فتاة، لكن اليوم والاحتلال ببشاعته غيرّ نظرتي فلم أعد تلك الفتاة الحالمة الرومانسية التي تنظر للجمال بمنظار خاص.


الاحتلال جعلني أشعرُ بأني مثل شجرة هرمة شاخت فاصفرَّت أوراقها وتعرت من الحياة. أين لخالتي وداد أن تصدق بأن رؤية رتل أميركي تتقدم السيارات وهي تسير ببطء أحيانا وتقطع الطريق ساعات أحيانا أخرى يجعل امرأة مثلي تفقد رغباتها في الحياة وليس في الحب والارتباط، وتشعر بأنها عانس وبأنها عجوز ناهز عمرها الألف وليس المائة سنة.


تجلس أمي للصلاة اختلس إليها النظر واسترق السمع ويصل صوت دعائها وصلواتها إلى إذني: اللهم ابعد عنها العنوسة، وابعث لها رجلاً يسعدها ويخطف روحها، اللهم لا تحرمها من الحب ولا من المودة، وهيأ لها الفارس الذي تتمنى.


اقترب منها خطوات واقتحم عليها الخلوة واقبِّل رأسها أقول لها اطلبي يا أمي أن يخرج المحتل من بلدنا وتنسحب الأرتال وعندها سيزول عني الإحساس بالشيخوخة والعنوسة، وستجدين أمامك سُرى المنفتحة للحياة والحب والزواج، سُرى المرحة التي تصرع الأحزان وتقاومها.


تأخر عاصي في العودة إلى البيت، وبدأ القلق يساور أمي، تطلب من شقيقتي سهاد أن تتصل به على الجوال فتقول إن جواله مغلق، أحاول الاتصال به بنفسي دون جدوى، اخفق في إقناع أمي بأن الطرق في بغداد لم تعد سهلة وخالية من السيارات. أقدم لها احتمالات وفرضيات عدة، ربما عاصي لا يزال في الطريق، وهناك رتل أميركي قد توقف فجأة ومنع اجتياز السيارات أو ربما هناك عبوة ناسفة انفجرت وقطعت الطريق، ربما سيارة عاصي أصيبت بعطل، ربما ذهب عاصي إلى بيت صديق وتأخر لكن تبدي مخاوف من تعرضه لمحاولة اختطاف وتسليب، وتحديداً بعد إنصاتها لتقرير عن حوادث اختطاف آخرها اختطاف رجل وزجته في منطقة المنصور نقلته أكثر من قناة فضائية.


بعد ساعات انتظار مملة قاسية، يطرق عاصي الباب وهو متذمر يلعن الاحتلال ويشتم المسؤولين. ومثلما توقعت، رتل أميركي توقف في الطريق ومنع السيارات من اجتيازها وعلى أثرها تم التشويش على أجهزة الاتصالات.


تتلقى أمي اتصالاً هاتفياً من زوجة عمي نادر تدعوها لعقد قرآن ابنتها سهام على ابن الجيران ساجد، تشب نار الغيرة في قلب أمي، وأرى شرارة الحسد تتطاير من عيينها. نصف بنات القبيلة تزوجنّ وصرن أمهات إلا أنا سأموت دون أن ألاعب حفيداً.


أغرس عيني في الفيلم العربي الذي تعرضه قناة الأفلام الفضائية، وتأخذ فاتن حمامة بمخيلتي بعيداً عن تعليقات أمي التي توجه لي دون سائر البنات. تداعبها شقيقتي بشرى التي تصغرني بسنوات: العريس القادم سيكون من نصيبي، اتركي سُرى تعنسّ براحتها، تنهرها أمي فتغادر الغرفة، وهي تدمدم مع نفسها.


تزجرني أمي وأنا أغادر البيت إلى الدائرة وتنصحني أن آخذ أجازة زمنية، وأعود باكراً إلى البيت، يجب أن نحضر قبل حضور الضيوف. أغادر البيت وقبل أن أصل إلى الدائرة تتصل بي مجدداً: تأجلت الخطبة، خطيب سهام أصيب بساقه، بعد أن انفجرت عبوة ناسفة في الشارع الذي كان يقود فيه سيارته متجهاً إلى المدرسة التي يدرس فيها، اتصلُ على جوال ابنة عمي سهام، فأجدُ جوالها مغلقا وزوجة عمي لا ترد على جوالها.


العنوسة تنخرُ قلبي من الداخل، تتآكلٌ أحشائي من الألم، وروحي تصدأ يوماً بعد يوم.

 
 

يرجى الاشارة

إلى شبكة المنصور عند إعادة النشر او الاقتباس

كيفية طباعة المقال

الاثنين / ٠٩ شـوال ١٤٣٠ هـ

***

 الموافق  ٢٨ / أيلول / ٢٠٠٩ م

الرئيسية | بيانات البعث | بيانات المقاومة | مقالات مختارة | تقارير إخبارية | دليل كتاب شبكة المنصور