لعل من أهم المقاييس التي يقاس
بها التقدم الحضاري للدول , هو
مقدار أمتلاكها لناصية العلم
وأستخدام التكنولوجيا , وقدرتها
على وضع هذه الوسائل في خدمة
التطور البشري , والارتقاء
بالانسان الى مراتب أنسانية
متقدمة , يستطيع من خلالها أن
يحقق ذاته من اجل خدمة الجماعة
ويطوع عناصر الطبيعة التي حباها
الله له من أجل مستقبل أفضل . لكن
الحلم الاستعماري الذي راود أذهان
الدول الكبرى جعلها تفكر في
أحتكار التطور العلمي , ومحاربة
كل الدول الاخرى التي تسعى في هذا
المجال , رغبة منها في الهيمنة
على أرادات الشعوب وتطلعاتها
الوطنية والابقاء عليها مجرد
أسواق أستهلاكية لما تنتجهه
الشركات العالمية . ولم تتوانى
تلك القوى في أحتلال دول وأسقاط
أنظمة وأضطهاد شعوب من اجل ذلك
للحد من سيرها في طريق التطور
العلمي والتكنولوجي , بل أن
أجهزتها الاستخبارية صرفت الكثير
من الجهد والوقت في سبيل محاربة
وأيقاف هذه المشاريع الوطنية ,
وأستخدمت أقذر الوسائل في تنفيذ
ذلك أبتداءا بالتجسس التكنولوجي
على تلك الدول , والتهديد
والترغيب , واخيرا الاغتيال لعدد
كبير من العلماء والخبراء ذوي
الاختصاصات النادرة .
ولقد سعت عدد من الدول العربية
ذات التوجهات القومية , لتطوير
قدراتها العلمية الذاتية في سبيل
خلق مجتمع متطور أولا ,ولمواجهة
التهديدات العدوانية الصهيونية
ثانيا , وكان العراق أحدى هذه
الدول , حيث عمل على مدى عقود
طويلة من الزمن في هذه الاتجاه ,
ووضع أموالا طائلة لخدمة هذا
التوجه , حيث أرسل العديد من
البعثات العلمية للجامعات
العالمية , كما قام بتطوير
جامعاته وتوسيع الاختصاصات
العلمية فيها , وأستقدم العديد من
الخبراء العرب والاجانب للتدريس
فيها , كما قام بالتوقيع على
أتفاقيات لاستخدام الطاقة النووية
للاغراض السلمية مع فرنسا وروسيا
وايطاليا . وقد أخذ التطور العلمي
العراقي حيزا واسعا من أهتمام
الدولة الصهيونية وحليفتها أمريكا
, حتى بلغ التنسيق الاستخباري
بينهما في هذا الجانب ذروته عندما
أقدمت المخابرات الاسرائيلية على
عرقلة شحن بعض الاجهزة والمعدات
الفرنسية الى العراق , وأغتيال
عدد من الخبراء الذين كانوا
يعملون في البرنامج النووي
العراقي , ثم توج هذا التوجه بقصف
موقع التويثة للابحاث النووية
العراقية بداية الثمانينات من
القرن الماضي .
واذا كان التوجه الامريكي –
الصهيوني واضحا في هذا المجال ,
ولم يكن مفاجئا للقائمين على
المشروع النهضوي العلمي العراقي ,
في ضوء وضوح أهداف وغايات الحلف
الامريكي-الصهيوني , فان عنصر
المفاجاة كان هو دخول الاهتمام
الايراني على الخط , وبروز سعي
السلطات الايرانية في عرقلة
التقدم العلمي العراقي خاصة بعد
العام 1991 , حيث نشطت الاجهزة
الاستخبارية الايرانية في جمع
المعلومات عن هذا الموضوع , ودفعت
بالكثير من عملائها الى العراق ,
لمحاولة تهريب العديد من الاجهزة
والمعدات عالية الكفاءة , مستغلة
أخلاء العديد من المصانع الى
المزارع والبساتين , خشية تعرضها
للتدمير من قبل الطائرات المعادية
التي كانت تقصف كل شيء في العراق
, حيث أكتسحت الوسط العراقي
مجاميع ممن يسمون تجار قادمين من
شمال العراق , والذين كانوا
يبحثون عن كل ماغلى ثمنه وخف حمله
من الاجهزة الدقيقة ذات
التكنولوجيا العالية , وخاصة مادة
تسمى(الزئبق الاحمر) حيث كانوا
يعرضون مبالغ مالية طائلة من أجل
ذلك , ثم توج هذا التوجه بالقرصنة
الايرانية الواسعة النطاق بعد
الغزو والاحتلال الامريكي , الذي
وفر فرصة ذهبية للسلطات الايرانية
في سرقة المئات من المعامل
والمصانع العراقية ,والتي تشير
الكثير من التقارير وشهادات
الشهود الى أنها في نطاق الخدمة
الفعلية حاليا في أيران , بل أن
بعض الجهات أشارت الى أن أجزاء
مهمة من البرنامج النووي الايراني
الحالي, يعتمد على أجهزة ومعدات
سرقت من العراق , كان لعناصر بعض
الاحزاب الطائفية القادمة مع
الاحتلال , وضباط المخابرات
الايرانية الذين أكتسحوا العراق ,
دور كبير في أخراجها الى أيران .
أن الاستهداف العدواني للعقول
والخبرات العراقية, كان قد دفع
الجامعات العراقية للتفكير بايفاد
الطلبة العراقيين الى جامعات غير
معروفة عالميا خاصة في دول جنوب
شرق أسيا وبعض الدول الاسيوية
الاخرى , على أعتبار أنها خارج
اهتمامات المخابرات المعادية ,
مما يؤمن ملاذا أمنا للطلبة
العراقيين لاكمال دراستهم في بعض
الاختصاصات العلمية النادرة ,
وكان غالبتهم على أبواب التخرج
عندما حصل الغزو والاحتلال , مما
أضطرهم للبقاء والاقامة في تلك
الدول , خاصة أنها تدين بالدين
الاسلامي وعاداتهم وتقاليدهم
قريبة للمجتمع العربي , غير أن
الانباء الواردة من هؤلاء الطلبة
, تشير الى تحرك ضباط الاجهزة
الاستخبارية الايرانية العاملين
بغطاء دبلوماسي عليهم , بعد أن
حصلوا على ملفاتهم من السفارات
العراقية في تلك الدول , بواسطة
عملائهم من أبناء واقرباء السلطة
العراقية الحالية العاملين في تلك
السفارات حيث يتعرضون اليوم
للترغيب بالعمل في المشاريع
النووية والعسكرية الايرانية تارة
, والترهيب بالوشاية بهم الى
المخابرات الاسرائيلية في حالة
رفضهم العرض الايراني تارة أخرى ,
كما أن الملحقيات الثقافية في
السفارات الايرانية بدأت تستغل
علاقاتها بالمسؤولين في وزارات
التعليم العالي والجامعات في تلك
الدول , للضعط عليهم لانهاء عقود
عمل الخريجين العراقيين أو
الوشاية بهم من خلال تلفيق بعض
التهم عليهم , لتسريع أرتمائهم في
الاحضان الايرانية بعد أن شنت
عليهم حملة محاربتهم في أرزاقهم .
أن النهب المنظم للمصانع والمعامل
العراقية , والاختطاف والسجن
والقتل للمئات من اساتذة الجامعات
والخبراء والعلماء العراقيين ,
واليوم التهديد والترغيب ضد
الخريجيين العراقيين في بعض الدول
, هو القاسم المشترك الاعظم بين
مخابرات أمريكا وأسرائيل وأيران ,
وهو دليل أخر على أن الطموحات
والاهداف لهؤلاء جميعا أنما هو
الطمع بالعراق أرضا وشعبا .
أن المسؤولية القومية والانسانية
والاخلاقية تحتم على الدول
العربية خاصة المتمكنة ماديا ,
أحتضان هؤلاء والاستفادة من
خبراتهم في التنمية العربية ,
باعتبارهم ثروة قومية يجب عدم
التفريط بها , وتفويت الفرصة على
كل الاعداء لاستغلالهم لاغراض
ومشاريع معادية للامة . |