لم يكن الرماد وحده شاهدا حيّا على
ديمقراطية طائفية عنصرية تتغذى على دم العراقيين ولحمهم وما تبقى لهم
من أمل في حياة عادية كحياة معظم البشر. فطاحونة الموت لم تتوقّف عن
الدوران يوما واحدا وكأنها في سباق مع الزمن. وليس ثمة أدنى شك
بأن"قادة"عراق اليوم, ومعظمهم تتلمذوا وتخرّجوا على يد أكثر المخابرات
الأجنبية عداءا وحقدا على العراق, عقدوا العزم على تصفية حساباتهم
وترتيب أمورهم على جثث وأشلاء الشعب العراقي الذي يدّعون زورا وبهتانا
بأنه إنتخبهم ومنحهم ثقته ليقودوا البلاد الى عصر جديد. وما إنفكّوا
يطالبونه بالمزيد من التضحيات من أجل تثبيتهم مرّة أخرى على كراسي
السلطة, دون أن يحصل بالمقابل الاّ على المزيد من الموت والدمار
والحرمان وفقدان أبسط الخدمات الضرورية لحياته اليومية.
لكنّ مشروع إبادة العراقيين على مراحل, والذي شرّعته أمريكا ووضعت خططه
الجهنمية, أوكلت مهمّة تنفيذه على ما يبدو الى جارة السوء إيران
والكيان الصهيوني. فدولة الملالي في طهران تتحكّم بشكل مطلق بشبكة من
الأحزاب والعصابات وفرق الموت, باسماء وصفات وأهداف مختلفة وحتى
متناقضة, ظاهريا على الأقل. لكن غايتها الأولى تبقى إزالة العراق وطنا
وشعبا وحضارة وتاريخا أو تحويله, في حال لم يحصل ذلك, الى كيان هزيل
عاجز عن الحركة والفعل ورد الفعل. امّا الكيان الصهيوني, وبالتعاون
الغير مباشر مع حكام مشيخة الكويت الحاقدين, فقد سلّم مهمّة شرذمة
العراقيين وتمزيق وحدتهم وزرع بذور الشقاق والفرقة والاحتراب بينهم,
الى الأحزاب الكردية العميلة في شمال العراق, وتحديدا الى حزب العميل
بالوراثة والفطرة مسعود البرزاني.
لم يحصل في أية دولة وفي أية ظروف وفي ظل أي نظام سياسي, أن يُقتل
ويُصاب أكثر من 700 مواطن في ساعة واحدة دون أن يقدّم وزيرالداخلية أو
قائد عمليات العاصمة أو مدير المخابرات العامة إستقالته أو أن يتم
إستدعاءه الى البرلمان, ولا نقول الى القضاء, للمساءلة والمحاسبة
ومعرفة الحقيقة. لكن برلمان المنطقة الخضراء, الذي إهتزّت أركانه
وعمّته الفوضى بفعل شدّة الانفجارات, يختلف عن جميع برلمانات العالم.
لأن مهمّته التي إختارها له أبناء العم سام ودولة الملالي المجوس, هي
ليس التشريع ومراقبة ومحاسبة عمل الحكومة, فهو تابع لها بهذا الشكل أو
ذاك, بل السعي المتواصل للتآمر على العراق والعراقيين والتفنّن في وضع
العراقيل أمام أية خطوة, وأن كانت صغيرة في أهميتها وتأثيرها, يمكن أن
سيتفيد منها الشعب العراقي.
إن جريمة بهذا الحجم الهائل في الضحايا والدمار والخراب, لو حصلت في أي
دولة, حتى وإن كانت أفغانستان, مع إحترامنا للشعب الأفغاني, لقامت
الدنيا ولم تقعد على رأس حميد كرزاي. لكننا لم نسمع من قبل أكثر من مئة
كرزاي في المنطقة الخضراء سوى اتهامات باطلة لا تستند على أي دليل أو
برهان ودائما لنفس الجهات, اي"القاعدة والبعثيين والتكفيريين والوهابية
.. وووووو". كما جاء على لسان عادل عبد المهدي نائب"رئيس" الجمهورية
الكارتونية, وبعد أقل من ساعة على حدوث الانفجارات وتناثر أشلاء البشر
واليوت والسيارات. مع أن أبسط الجرائم تحتاج الى بضعة أيام من التحرّري
والتحقق وجمع الأدلة والبراهين والمعلومات وفرزها ودراستها وربط بعضها
بالبعض ناهيك عن إعتقال أشخاص وجلب شهود عيان وغير ذلك.
إن "قادة" العراق الجديد الذين ضربوا أرقاما قياسيا في الفشل على جميع
المستويات وعجزوا حتى عن الاتفاق على أبسط الأمور فيما بينهم, أدركوا
أن"الغنيمة" العراقية بدأت تتسرّب من بين أناملهم خصوصا مع تركيز
أمريكا المتزايد على القضية الأفغانية ووضع كل ثقلها هناك, مما جعل
عصابة المنطقة الخضراء تعيش في هلع وخوف مستمرّين. ولم يبقَ أمامهم,
بعد أن أرغمهم باراك أوباما على خلع أقنعتهم ومواجهة بعضهم البعض, غير
اللجوء الى أساليبهم وطرقهم الارهابية التي أفنوا حياتهم من أجلها
وتدرّبوا عليها لسنوات طويلة في طهران وتل أبيب ودول أخرى.
ولعل العميل نوري المالكي, الذي يملك ميليشيات وقوات عسكرية خاصة به,
اراد أن يبعث برسائل صريحة المعاني الى مسعود البرزاني, عبر الهجوم على
وزارة الخارجية التابعة للكردي هوشيار زيباري, والى"المجلس اللاسلامي
الأعلى" من خلال الهجوم على وزارة المالية الخاضعة لهيمنة الجلاد
الشهير باقر صولاغ. والاّ كيف تستطيع سيارات مفخخة باطنان من المتفجرات
قطع مسافات طويلة في العاصمة والوصول الى أكثر الأماكن تحصّنا وحماية
ومراقبة, فضلا عن وجود العشرات من نقاط التفتيش المزوّدة باحدث الأجهزة
التكنولوجية التي تكشف عن المتفجرات على بعد عدة أمتار؟ ناهيك عن أبراج
المراقبة الثابتة التي تحيط بالوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى.
ولولا هذا العدد المأساوي المرعب من الشهداء والمصابين الأبرياء لقلنا
عن عصابة المنطقة الخضراء "نارهم تاكل حطبهم".
ومن المؤكد إن الأيام القادمة سوف تكشف لنا أن العميل نوري المالكي
إستطاع أن يضرب عصفورين بحجر واحد, ولو على أشلاء ودماء أكثر من 700
عراقي بين قتيل وجريح. وما إعتقال بضعة ضباط ورجال شرطة وربما فتح
تحقيق لاحقا, كما أعلنت حكومة المنطقة الخضراء, بسبب مسؤولية هؤلاء
المباشرة عن حماية المناطق التي وقعت فيها الانفجارات فهو من قبيل ذرّ
الرماد في العيون. لكن العراقي, كما يُقال, مفتّش باللبن. ومن الصعوبة
إن لم يكن من المستحيل الضحك عليه بعد أكثر من ست سنوات عاشها في ظل
الاحتلالين الأمريكي - الايراني وأذنابهما, والتي تعتبر من أحلك وأبشع
سنوات عمره على الاطلاق. |