يخيَّل إليّ أحيانا أنّ العرب في
إدارتهم للصراع مع الصهاينة لا يخرجون عن إحدى فئتين، فهم إمّا
منخدعون.. أو مخدوعون. والفرق بين المفردتين يتمثل في أنّ المنخدع مدرك
لمخطّطات خصمه عارف بأهدافه، ولكنّه يسهّل عليه عملية الخداع فيطاوعه،
بل يمكن أن يصل في لحظة ما إلى أن يستلذّ مخادعة العدوّ له ويستمرئها
فلا يطيق صبرا عليها. أمّا المخدوع فإنّه لم يتواطأ مع العدوّ، ولكنّ
حسن نواياه قاده إلى العمى عن كشف حقيقة العدوّ وإلى انتظار بادرة
طيّبة منه.
إذا صحّ هذا التقسيم فإنّ أغلب الحكّام العرب منخدعون.. كما أنّ كثيرا
من أبناء الأمّة العربيّة مخدوعون..
المنخدعون قالوا إنّ السلام خيار استراتيجيّ، وإنّ التعايش ممكن مع
الأعداء الذين اغتصبوا أرضنا وشرّدوا أهلنا.. مثلما قالوا إنّ مقاومة
الاحتلال لن تؤدّي إلا إلى مزيد من الموت والخراب وتعطيل قطار
التنمية(!)..ظلوا يردّدون أنّ لاءات الخرطوم انتهت صلاحيتها،
فاستبدلوها بلاءاتهم: لا مقاومة، لا مقاطعة، لا إنكار.. ثمّ أيقظونا من
غفلتنا لنقرأ في صحفهم وبياناتهم أنّ الصراع ليس عربيّا صهيونيّا،
وإنّما هو صراع فلسطينيّ "إسرائيليّ"..
المخدوعون في الدولة القطريّة قيل لهم إنّنا لا علاقة لنا بما يحدث
"هناك"، وأقصى ما نستطيع فعله هو التوسّط بين الطرفين المتنازعين، لأنّ
تخصيص ميزانيات ضخمة للتسلح من شأنه أن يرهق الموازنات الماليّة ويحدّ
من فرص الاستثمار ويرفع من نسب البطالة ويعطّل عجلة النموّ.. مثلما قيل
لهم إنّ "إسرائيل" أمر واقع لا يمكن إنكاره، وإنّ عدم اعترافنا بشرعيّة
وجودها لا يعني شيئا طالما أنّ دول العالم كله اعترفت بها منذ نشأتها..
وقيل لهم إنّ العرب أضاعوا فرصا تاريخيّة كثيرة، فلو قبلوا قرار
التقسيم لكانت الدولة الفلسطينيّة قائمة، ولو استمعوا لنصيحة الزعيم
بورقيبة لكانت دولة فلسطين حقيقة واقعة، ولو انخرطوا في مشروع السادات
للحكم الذاتي لكان للفلسطينيين اليوم دولتهم..
ترسانة هائلة من الأكاذيب يعتمدون عليها بعد تجميلها لإيهامنا
وخداعنا.. وللأسف فقد نجحوا إلى حدّ.
مخدوعين كنّا.. ومخدوعين ما زلنا..
ولننظر كيف تعمل آلات المنخدعين الإعلاميّة هذه الأيّام على شطب ما
تبقّى من ذاكرتنا.. إنّهم يحاولون إقناعنا بأنّهم يرفضون الاستيطان
الصهيونيّ في القدس والضفّة الغربيّة، وبأنّهم لن يستأنفوا المفاوضات
ما لم تتوقّف حركة الاستيطان، وبأنّهم لن يطبّعوا مع العدوّ إذا لم
يجمّد بناء المستوطنات..
ورغم أنّني لم أفهم حتّى الآن الفرق بين وقف البناء الاستيطانيّ
وتجميده أو تعليقه، بل بدا لي أنّه من قبيل اللعب بالمفردات المترادفة
في جوهرها، إلا أنّ اللافت أنّ الشعار الذي كان مرفوعا قبل سنوات قليلة
لم يكن (التطبيع مقابل السلام). بل إنّ "مبادرة السلام العربيّة" التي
صاغها المخدوعون في قمّة بيروت سنة 2002 لم تتحدّث عن التطبيع إلا
باعتباره مقابلا للانسحاب الكامل.
اليوم يتبارى المنخدعون في إظهار رفضهم لإصرار رئيس الحكومة الصهيونيّة
بنيامين نتنياهو على عدم وقف البناء الاستيطانيّ، بل إنّ بعضهم أعلن
ولو على استحياء رفضه ربط التطبيع بوقف الاستيطان..
ماذا تعني كل هذه الضجّة التي يثيرونها حول الاستيطان؟ وما الذي يعنيه
أن تلخَّص المشكلة كلها والصراع كله في المستوطنات؟ هل يعني هذا أنّ
الحلّ يكون في وقفها أو تجميدها؟ هل قاتل الفلسطينيّون والعرب كلّ هذه
السنين من أجل وقف الاستيطان؟ ألأجل تجميد بناء المستوطنات قدّمت
الأمّة العربيّة قوافل الشهداء من خيرة شبابها وأبنائها؟ هل ذهبت كلّ
تلك الدماء هدرا إذن؟ وفي هذه الحالة لماذا نحتفل بأبطالنا ونعدّد
تضحياتهم؟ .. بل كيف يكون الشهيد شهيدا؟
إنّنا أمام خدعة جديدة يتمّ بمقتضاها تقليص مؤقّت للأنشطة الاستيطانيّة
في مقابل انفتاح أبواب التطبيع، فبعض المنخدعين سيفتحون ممثليات
"إسرائيلية" في بلدانهم، وبعضهم سيمنحون تأشيرات لرجال أعمال وسياح
"إسرائيليين"، في حين سيعقد آخرون لقاءات علنية على مستوى رفيع مع
مسؤولين "إسرائيليين"، ويسمحون للطائرات "الإسرائيلية" بالتحليق في
أجواء أقطارهم والهبوط في مطاراتها.
أمّا محمود عبّاس الذي تقول الروايات إنّه يصنَّف ضمن كبار المنخدعين
فقد برّح به الشوق للقاء نتنياهو، ولن يجد أفضل من التجميد المؤقّت
للاستيطان فرصة لممارسة عاداته الحميدة في العناق والتقبيل.. |