في
العلاقة التي حاك القدر خيوطها بين ليبيا وإيطاليا يقف شهر سبتمبر
شاهرا أسلحة الفجيعة والموت والخراب، حتى لكأنّ ثورة الفاتح من سبتمبر
جاءت اقتصاصا ممّا أصاب ليبيا والليبيّين خلال شهر سبتمبر في محطّات
مؤلمة من التاريخ المعاصر. ففي 27 سبتمبر 1911 م وجّهت إيطاليا إنذاراً
إلى الدولة العثمانيّة، واتهمتها بأنها تحرّض الليبيّين على الرعايا
الإيطاليّين وتضطهدهم. ومن الغد انتهى أجل الإنذار، ودخلت السفن
الحربيّة الإيطاليّة مياه طرابلس. وفي 29 سبتمبر أعلنت روما الحرب على
تركيا.. حاصرت طرابلس وقصفتها ثم احتلتها خلال أربعة أيّام.
كان الخطاب الإيطاليّ شأن كلّ خطابات المستعمرين مفعَما بالكِبْر
والعنجهيّة والاستخفاف بالآخرين. وتعزّز هذا الصلف بالقوّة العسكريّة
التي كانت عليها إيطاليا إبّان تلك الفترة، إذ كانت القوّات الإيطاليّة
التي حاصرت طرابلس مؤلفة من 39 ألف جنديّ و6 آلاف حصان وألف سيّارة و
نحو خمسين مدفع ميدان.
في 11 سبتمبر 1931م نشبت معركة بئر قندولة والوديان المجاورة بين قوّات
الاحتلال الإيطاليّ والمجاهدين الليبيّين وقع خلالها الأسد في الأسر..
عمر المختار يقع أسيرا في قبضة القوّات الإيطاليّة.. شهر سبتمبر
دائما.. شهر الفواجع والمآسي..
في 15 سبتمبر، أي بعد أربعة أيّام من الاعتقال انعقدت المحكمة الخاصة..
وأصدرت الحكم المنتظر. وبعد يوم واحد تمّ تنفيذ حكم الإعدام شنقاً في
عمر المختار في بلدة سلوق أمام جموع غفيرة من أبناء وطنه.
من الضروريّ أن تعلم أجيالنا العربيّة الشابّة أنّ الاستعمار الإيطاليّ
لليبيا ارتكب أبشع المذابح، واقترف أفظع الجرائم ضد المواطنين العرب
الليبيّين أطفالا ونساء وشيوخا.. وكان احتلاله لليبيا بمثابة حرب إبادة
حقيقيّة هُتكت خلالها أعراض النساء، وأعدم الكثيرون دون تحقيق أو
محاكم... ونُفي الآلاف..
من قلب الصحراء الليبيّة برز شيخ الشهداء عمر المختار الذي لا تزال
آثار أقدامه وحوافر جواده ماثلة على الرمال الليبيّة لتسطّر ملحمة
مقاومة عزّ مثيلها ولتقدّم للعالم كله درسا في الثبات والصمود
والمقاومة.
لم يحتكم عمر المختار إلى نظريّات فلسفيّة.. كما لم يؤسّس مقاومته
للغزاة على إيديولوجيا متعالية. لخّص كلّ موقفه وجهاده في كلمات هي
أقرب ما تكون إلى جواهر الكلِم. قال: "إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل
في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار
غير ذلك."
كانت المعادلة في ذهنه في منتهى الوضوح: قتال المحتلّ واجب دينيّ
ووطنيّ، فإمّا حرّيّة أو شهادة. وبسبب هذا الوضوح فقد شارك في الجهاد
بين صفوف المجاهدين في الحرب الليبية الفرنسية في المناطق الجنوبية
(السودان الغربي) وحول واداي. كما عاش حرب التحرير والجهاد منذ بدايتها
يوماً بيوم. وبعد سنوات تولى بنفسه القيادة العامة، واستطاع أن يهزّ
عرش روما في أكثر من معركة سلاحه الإيمان والصدق. وبعد سقوط اجدابيا
مقر القيادة الليبية، ثمّ الجغبوب تحمّل عمر المختار العبء كاملاً بعزم
العظماء وتصميم الأبطال.
أغراه الاستعمار الإيطاليّ بالأموال.. لكنّه رفض الاستسلام وفاء لدينه
ووطنه وقيمه. وبداية من أوائل سنة 1930 قام الغزاة بتنفيذ خطة إفناء
وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ في وحشيّتها وفظاعتها وعنفها، إذ
تمّ إقفال الحدود الليبيّة المصريّة بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن
والذخائر، ونُصبت المشانق في كل مكان، وحوصر المجاهدون في الجبل الأخضر
وتمّ احتلال الكفرة ومرزق وغات.
قال القائد العسكريّ الإيطاليّ غراسياني عن أسيره الشهيد عمر المختار:
"عندما حضر أمام مكتبي خُيّل لي أنّ الذي يقف أمامي رجل مهيب ليس
كالرجال رغم أنه يشعر بمرارة الأسر.. ها هو واقف أمام مكتبي نسأله
فيجيب بصوت هادئ وواضح: (حاربت من أجل ديني ووطني).. وعندما وقف
ليتهيّأ للانصراف كان جبينه وضّاء كأنّ هالة من نور تحيط به، فارتعش
قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية
ولقّبت بأسد الصحراء. ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن
أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن."
|