قامت الدنيا ولم تقعد ، وقامت القيامة ، من سياسيين عراقيين ، على
خلفية الكشف عن لقاءات جرت في تركيا بين مسؤولين أميركيين ، وممثلي
جماعات مسلحة ، فيما يعرف ب ( المجلس السياسي للمقاومة العراقية ) ،
وبدأت عاصفة مثيرة من التصريحات ، والخطابات ، والمعلقات ، والعنتريات
التي ، يكاد يصدق على أصحابها قول أحمد شوقي ، من أنهم : ( غلبوا على
أعصابهم فتوهموا ..... أوهام مغلوب على أعصابه ) .
حملوا الفؤوس ، والبلطات ، وحبال الشنق ، ونفخوا الأبواق ، ودقوا
الطبول ، ودوخوا الناس .. إلى حد لم تبق تهمة لم يلصقوها بالولايات
المتحدة .. ابتداء من الانحلال ، إلى الزندقة ، إلى التعهر ، إلى
الإباحية ، وانتهاء بالتآمر على العراق ومصالحه العليا .. طاشت السهام
، و ( تكسرت النصال على النصال ) ، ووصل الأمر ببعضهم أن وقف يخطب على
طريقة عمرو بن كلثوم التغلبي : ( إذا بلغ الفطام لنا صبي ..... تخر له
الجبابر ساجدينا ) ، وأننا ( نشرب إن وردنا الماء صفوا ...... ويشرب
غيرنا كدرا وطينا ) بما يشبه العنفوان القومي الذي عرفناه في الخمسينات
، لكننا نحن من شربنا الوحل والطين ، في حين كان غيرنا يشرب من مياه
دافنشي .
قالوا في أميركا ما لم يقله مالك في الخمر .. واجهوها بالحقيقة ،
وقالوا : لن نقبل منها أن تغش في أوراق اللعب .. حاصروها من الجهات
الأربع ، وأروها أن أنيابهم حادة ، وقاطعة ، ومفولذة ، وأن عضاتهم
موجعة .. كل سياسي يدخل المعركة الكلامية الصاخبة ، مدججا بسيوفه ،
وسيافيه ، وبترو دولاراته ، وشعاراته ، التي لا معنى لها ، ولا مبنى ،
حتى ليبدو كأنه الأميرال ( نلسون ) صاحب معركة ( الطرف الأغر ) ضد
نابليون بونابرت .. وعندما يأتي دور ( الجوجلة ) فلن يبقى في الغربال
سوى من عصم ربك .
على الطرف الآخر ، لم تكترث الولايات المتحدة بهذا النوع من
الاستعراضية ، والخطب العرجاء ، والجوفاء ، والهوجاء ، وديوان الحماسة
، ومقامات الحريري ، والعقد الفريد ، وحنجرة قس بن ساعدة الايادي ،
والخمسين ألفا ، الذين نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب ، على حد
تعبير الشاعر أبي تمام ، فهي تعلم بحق ، أن طواحينهم مثل طواحين ( دون
كيشوت ) لا تطحن إلا الهواء ، وأن الفرزدق الذي زعم أن سيقتل مربعا ،
لن يستطيع أن يقتل ذبابة ، ف ( أبشر بطول سلامة يا مربع ) ، وأن
الخطابة وحدها لا تكفي لتحرير عصفور واحد ، إذا لم تقرر العصافير أن
تأكل قضبان الزنزانة وتخرج إلى الهواء الطلق .
أليس في الأمر مفارقة ؟!.. فالأمر لا يعدو كونه أكثر من مسرحية ، لكنها
، في كل الأحوال ، مسرحية هابطة ، سيئة التأليف ، والتمثيل ، والإخراج
، تفتقر إلى حبكة المسرح ، وعناصره .. وأنت لا تحتاج سوى قليل من
التأمل ، لترى بوضوح شكل المأساة بلا رتوش ، وتكتشف كم هم متبجحون ،
ومزيفون ، وأدعياء .. وكنا نتمنى لو أن تصريحاتهم كانت تنتمي إلى
الواقع ، إذن لطرزنا صدورهم بالنياشين ، وحملناهم على الأكتاف .. أو لم
تقل العرب : ( الخرس خير من الكذب ) ؟! .
لست منحازا إلى طرف ، لكنني توقفت كثيرا أمام هؤلاء الذين استعاروا
لغة الشجعان ، وهم من تحالفوا أمس مع قابيل ضد هابيل ، وعجزوا أن
يكونوا مثل الغراب يوارون سوأة أخيهم .
من حقنا كمواطنين ، أن نختار خطيبنا المفضل ، ونوع الخطبة التي نسمعها
، ولسنا مضطرين للإصغاء إلى زعيق ، وصراخ سياسيين من الدرجة العاشرة ،
يريدون أن يوهمونا أنهم ( كاتبو الوحي ) ، مع أننا متأكدون أنهم يغردون
خارج السرب .
|