يبدو أن جولات وصولات المبعوث الأمريكي جورج ميتشل الى المنطقة لم
تستطع تحريك المياه الراكدة في عقول ونفوس القادة الصهاينة رغم تصريحات
الطرفين, والتي تُطلق خصّيصا أمام عدسات التلفزة, حول تحقيق تقدم ملموس
أو أن المفاوضات كانت إيجابية ومثمرة جدا. غير أن واقع الحال على
الأرض, كما عوّتنا جميع حكومات الكيان الصهيوني, مختلف تماما ولا يمكن
لجورج ميتشل أو لسواه نكرانه أو غض الطرف عنه. فبناء المستوطنات وقضم
الاراضي الفلسطينية والانتهاكات اليومية على المسجد الأقصى من قبل
المستوطنين المتطرّفين ماضية على قدم وساق وأمام الملأ وتحت حماية
ورعاية جيش الاحتلال الصهيوني.
وكأن كيان إسرائيل العنصري يريد تأكيد ما هو مؤكد بآلاف الأدلة
والبراهين, منذ تأسيسه وحتى هذه اللحظة, بانه"دولة" فوق القوانين
والشرائع وضد أرادة العالم أجمع, بما فيه الأمريكان حُماته وسبب بقاءه
واستمرار غطرسته وعدوانيته وتجاوزه على القوانين السماوية والوضعية,
وكل ما أرتكب وما زال يرتكب من قتل ودمار وإنتهاكات وعدوان لا مبرر له
على شعب أعزل ذنبه الوحيد أنه متمسك حتى الموت بجذوره العميقة رافضا
التنازل عن حقّه في البقاء والعيش الكريم على أرضه التي توارثها أباً
عن جد منذ آلاف السنين.
إن القضايا الأساسية في صراعنا المرير مع العدو الصهيوني أنحدرت, منذ
وصول المتطرّف بنيامين نتنياهو الى السلطة, الى أسفل القائمة. وأصبح
الحديث يدور بين أصحاب الشأن حول وقف الاستيطان فقط. وكأن كلّ مشاكلنا
المختلفة والممتدة منذ ستين عاما مع هذا العدو الغاصب إنتهت الى حلول
مرضية جدا لصالحنا, ولم يتبقَ منها الاّ بضع مستوطنات "عشوائية" ما
زالت تعكّر صفو الحياة الرغيدة والهانئة والمزدهرة جدا التي يعيشها
الشعب الفلسطيني تحت سماء أوسلو الصافية.
والغريب هو أن حتى إدارة الرئيس الأمريكي"المنفتح" بعض الشيء والساعي
كما يزعم الى إيجاد حلّ شامل للصراع العربي الفلسطيني - الاسرائيلي,
رغم ضبابية وغموض هذا الحلّ, لم تكفّ عن الضغط بكافة إشكاله على
الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية مطالبة أياها بالتطبيع الفوري مع
العدو الصهيوني, طبعا بثمن بخس جدا وغير مضمون أصلا. لأن كيان إسرائيل,
كما هو معروف للجميع, لم يحترم في حياته قرارا أو يلتزم بمعاهدة أو
ينفّذ ما أتّفق عليه من قبل من تفاهمات.
وحسب ما ورد على لسان بعض المسؤولين الأمريكان فان الرئيس باراك أوباما
طلب خطّيا من رؤساء سبع دول عربية, منها طبعا مصر والسعودية والأردن,
اتخاذ خطوات ملموسة للتطبيع مع العدو الصهيوني. وبما أن التطبيع
المُراد أمريكيا وإسرائيليا اصبح قميص عثمان فقد أرسلت الادارة
الأمريكية الى المنطقة في ظرف عدة أيام أربعة من رجالها من العيار
الثقيل, كوزيرالدفاع ومستشار الأمن القومي. وجميعهم ألتقوا بمن
يسمّونهم "الأطراف المتنازعة" ومن ضمنهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وكانت زبدة هذه اللقاءات وفحواها هو "وقف الاستيطان" ولا شيء سواه.
حتى الرئيس الفلسطيني محمود عباس إشترط "وقف بناء المستوطنات" للعودة
الى المفاوضات مع العدو الصهيوني. ولم يشترط مثلا, كما يُفترض به كرئيس
لجميع الفلسطينيين, إطلاق سراح آلاف الفلسطينيين من سجون العدو, أو
إزالة عشرات الحواجز التي تقطّع أوصال الضفة الغربية, أو رفع الحصار
الظالم عن مليون ونصف مليون من أبناء شعبه في قطاع غزّة. مع العلم ان
الرئيس الفلسطيني خرج خالي الوفاض من عشرات اللقاءات والاجتماعات
والجلسات المطوّلة بما فيها العائلية مع صديقه إيهود أولمرت رئيس حكومة
الكيان الصهيوني السابق. لكن الظاهر أن الرئيس أبو مازن وفريق أوسلو
أدمنوا, وليس ثمة علاج شافٍ لهم, على الاجتماعات واللقاءات والأضواء
البراقة والحضورالمكثّف لرجال التلفزة والاعلام وعقد المؤثمرات
الصحفية.
لقد إستطاع المتطرّف بنيامين نتنياهو, بخبثه ومراوغته وسياسته
الثعلبية, ان يحوّل مجمل الصراع المرير بيننا وبينهم الى مجرد قضية
استيطان. وظلّ يصرّ بعناد وغطرسة وتحدّي سافر بانه دائما على حق فيما
يقوم به. لأن قطعان المستوطنين الآتين من كل زوايا وأطراف الأرض يملكون
الحقّ الالهي, برأي نتنياهو طبعا, في"النمو الطبيعي" على أرض إستبلوها
بالقوة والعنف والقسوة من أصحابها الشرعيين الذين لا يحقّ لهم, حسب نفس
منطق نتنياهو وعصابته, الاّ الموت البطيء محاصرين معزولين مكدّسين فيما
تبقى لهم من أرضهم التي إغتصبها منهم شعبُ الله المختار.
|