من المؤكد أن المذكرات الشخصية اذا ما كانت لمجرد سرد
الخواطروالانطباعات والانفعالات الشخصية ستكون محاولة هابطة وبلا أية
قيمة أدبية أو فكرية وبالتالي لن تستحق الالتفات اليها, لكن في الوقت
نفسه ستصبح المذكرات نقطة ارتكاز مهمة جدا" في حال اعتمدت التوثيق
الموضوعيّ والملتزم بغية تسليط الضوء لا على التجربة الشخصية فحسب
وانما على اتساقها وتناغمها مع تجارب أخرى لا تقلّ عنها ثراء وغنى
ومكابدة وتمسكا" بالثوابت الوطنية والعربية الأصيلة وترفض منطق الرضوخ
والا ستسلام للأمر الواقع المفروض بقوة حاملات الطائرات والصواريخ
الغبية العابرة للقارات .
بعد التاسع من نيسان عام 2003 م اي بعد غزو العراق واحتلاله قامت
سلطات الاحتلال بحل وزارة الثقافة والاعلام واغلاق الصحف اليومية
والاسبوعية فضلا" عن حل العديد من الوزارات والمؤسسات العسكرية
والأمنية والعلمية كوزارتي الدفاع والداخلية وهيئة التصنيع العسكري و
منظمة الطاقة الذرية الأمر الذي أدى الى قطع أرزاق مئات الآلاف من
الموظفين والجنود والمراتب و الضباط والاعلاميين وتهديد عوائلهم
بمستقبل مظلم ناهيك عن لوائح وقوائم الأسماء المعدّة في كل من تل أبيب
وقم وطهران لكي تتم تصفية الكفاءات الوطنية على يد الموساد الصهيوني
والمليشيات الطائفية الممولة والمدعومة من قبل ملالي ايران.
قد تكون هذه المرحلة بداية قصتنا – علما" أن جذورها تمتد الى أبعد من
ذلك مرورا" بسنوات الحصار المريرة وصولا" الى حرب القادسية الثانية –
لكننا نراعي هنا وقت المتابع الكريم ونحاول أن نركّز على العوامل
المباشرة التي أدت الى هجرة عدّة ملايين من العراقيين لأن الاغتيالات
الديمقراطية باتت تتخطف أرواح الأبرياء بالجملة , خصوصا" أن الشعب
العراقي الأصيل قد احتمل السنوات العسيرة التي سبقت ومهّدت للاحتلال
ولم يغادر البلد وقتها سوى أعداد محدودة جدا" اذا ما قورنت بأعداد
المهاجرين قسريا" بعد الاحتلال .
ومع كل ما تقدّم لم أقرر مغادرة العراق الا في أواخر عام 2006 م بعد
أن استمر قلمنا
بمقاومة الاحتلال وأذنابه كلّما سنحت الفرصة لذلك وحيثما تيّسر منبر
يسمح بنشر ما نكتب
وبعد اغتيال اكثر من 160 صحفيا" معظمهم أصدقاء وزملاء مقربون وبعد وصول
التهديدات المباشرة لنا بشكل شخصي لم يعد أمامنا الكثير من الخيارات
خصوصا" بعد أن اضطررنا لتغيير سكننا أكثر من 5 مرات خلال ثلاث سنوات في
محاولات متواضعة لتفادي وقوعنا فريسة سهلة بيد فرق الموت.
غادرت العراق متوجها" الى لبنان الشقيق على أمل أن يتلقّفني مكتب
المفوضية العليا لشؤون اللاجئين ويسارع في تأمين الحماية القانونية الى
حين مغادرتي الى وطن بديل ولكن الصدمة الكبرى كانت في المفاجأة غير
السارة لمعظم اللاجئين العراقيين في لبنان لأن وثيقة اللجوء التي
تقدمها المفوضية غير ملزمة للسلطات اللبنانية فالحكومة اللبنانية غير
موقّعة على الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية اللاجئين وبالتالي على
اللاجيء أن يعيش حياة اللصوص والمطاردين
لتحاشي المفارز ودوريات الأمن العام اللبناني الذي لن يتردد كثيرا" في
ايداعه في المعتقلات وتسفيره الى العراق عنوة بعد أن يؤّمن هو تكاليف
رحلة الطيران فضلا" عن غرامات مالية تتفاوت من شخص لآخر وحسب مزاج
المسؤول الأمني ساعة اعداد ملف المهجّر, مع وجود الكثير من رجال الأمن
الشرفاء والمتعاطفين مع العراقيين لكن القوانين واضحة و صارمة ( لا
اعتراف رسمي بوثيقة مفوضية شؤون اللاجئين وعلى العراقي الموجود على
الأراضي اللبنانية
أن يتدبّروسيلة للاقامة تعترف بها الأجهزة الأمنية) .
( أتباع صدام ) احتضنونني و عائلتي
بعد دخولي الى لبنان بشكل قانوني و لحاق عائلتي بي بدأت مشكلة تمديد
الاقامة وانتظار اتمام اجراءات مكتب اعادة التوطين التي اكتشفنا في وقت
متأخر أنها تستغرق سنوات مما يعني أننا امام مشكلة عويصة فتكاليف
الاقامة مرتفعة جدا" ولا نقوى عليها خصوصا" في ظل عدم وجود فرص عمل
مناسبة أو وجودها مع استغلال بشع من قبل العديد من أصحاب المؤسسات
الاعلامية التي ما برحت تتباكى على العراقيين في الوقت الذي لا يتورّع
أصحابها عن سرقة أتعاب صحفيين عراقيين كانوا وما زالوا يحملون قلم
المقاومة وسام شرف على صدورهم ومن المؤكد سوف نتناول هذا الموضوع في
وقت لاحق ونفضح كل أولئك السيئين الذين أساؤا الى شرف الصحافة وقيم
العروبة ونحن نعرف أكثر من غيرنا ان العديد منهم كان يقف مستجديا" على
أبواب المسؤولين العراقيين قبل الاحتلال بأيام.
في مثل هذه الظروف العصيبة التقينا بالسيد محي الدين حميّة و زوجته
المصون بهيجة حلمي شبو من أهالي أقليم الخروب في ( برجا ) و هما
يمتلكان ويديران مدرسة المستقبل وهي من مدارس القطاع الخاص الواسع
الانتشار في لبنان وعرفناهما بصفتهما الحزبية فهما مسؤولان رفيعا
المستوى في حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي ومنذ اللحظة الأولى
أبلغتهما بأني لست بعثيا" ولكنني عراقي وطني مقاوم , فما كان منهما الا
أن قالا لي : ( وما المشكلة ما دمت من العراق وفيك ريحة صدام فأنت
وعائلتك في ضيافتنا حتى يتحرر العراق أو ترى أنت راحتك في مكان آخر ) .
ترددت قليلا" في قبول العرض الكريم مع أنني كنت بأمّس الحاجة لتأمين
حياة كريمة لزوجتي و ابنتيّ تراث وترانيم , لكن صديقا" آخر نصحني بقبول
الاستضافة فأهالي الأقليم كلهم يحبون العراق وأهله وهكذا كان , اذ قدم
لنا السيد محي الدين سكنا" خاصا" لنا مع تأثيثه وهو ملاصق لبيته وبيت
أخويه الحاج مصطفى والحاج سليم وقاموا بتوفير كل مستلزمات العيش الكريم
ابتداء من حل مشكلة الاقامة من خلال تقديم كفالة مالية قيمتها (1000)
ألف دولار أمريكي فضلا" عن التعهدات الخطية والشفوية أمام مؤسسات الأمن
فضلا" عن دفع تكاليف الاقامة السنوية البالغة 300 دولار أميركي مع
ادخال ابنتي تراث في مدرسته الخاصة وتأمين كل مستلزمات الدراسة من
قرطاسية الى الزي الموحد والنقل الخاص أسوة بابنته الصغرى أريج ومن
المؤكد أن العائلة الكريمة كبارها قبل الصغار كانت تعمل على راحتنا
وباختصار نستطيع أن نقول أننا قد وجدنا بفضل الله من لديه الاستعداد
والرغبة الصادقة لاحتضاننا وسط أسرته واقتسام رغيف الخبز عن طيب خاطر.
نعم قلت أتباع صدام وأنا هنا لا أقصد الاساءة قطعا" فهم يتفاخرون بهذه
التسمية وأنا أعلنت غير مرة أن صدام حسين رحمه الله هو الرئيس الشرعي
للبلاد شاء من شاء و أبى من أبى و حسب الرجل شرفا" حسن الخاتمة والثبات
على الموقف الأصيل وقد أكدت التجربة بما لا يقبل الشك أن كل أعداء صدام
حسين هم أعداء العراق والعروبة والانسانية ابتداء من أبو درع سيء الصيت
مرورا" بالجعفري والمالكي وانتهاء بالأرعن بوش الأب والابن.
وبودي هنا أن أشير الى حقيقة أذهلتني ففي معظم بيوت الأقليم اذا لم نقل
كلها تجد صورا" للرئيس الشهيد صدام حسين فضلا" عن الشوارع والأزقة و من
المؤكد أنهم غير منظّمين حزبيا" مما يعني أن الرجل قد نجح أيّما نجاح
في خلق جيل مؤمن بعدالة القضية التي حمل لواءها حتى الرمق الأخير.
لقد استغرقت عملية اعادة توطيني أنا وعائلتي أكثر من عامين ونصف تمكنت
خلالها من بناء صداقات أتشرّف بها تعادل علاقاتي التي أقمتها على
امتداد أكثر من أربعة عقود ونصف من حياتي , فقد أصبحت وبكل فخر واحدا"
من أهالي الأقليم ولم تمر مناسبة الا ودعيت لها كواحد منهم فشاركتهم
أفراحهم و أتراحهم ولم أشعر ولا للحظة أنني خارج بلدي أو بعيدا" عن
أهلي وللأمانة فلم يكن السيد محي الدين حميّة حالة متفرّدة وانما واحد
من آلاف الشرفاء الذين فتحوا لنا قلوبهم قبل بيوتهم فمن أذكر وكلهم قد
حفر اسمه في خاطري وذاكرة أطفالي الذين ما زالوا يذكرونهم ويبكون شوقا"
لرؤياهم : خضر سعيفان القاضي وعائلته الكريمة , عائلة الاستاذ أسعد
معروف أبو الحكم ,الأخوين عماد ويوسف كايد , أبو سامر, أم محمود,
المختار والمختارة وأولادهما, عائلة أبي علاء, طبيب الأسنان زياد سعد,
فريق العمل في مستوصف برجا الذي قدّم لنا خدماته الجليلة مجانا" على
امتداد اقامتنا في لبنان , أم الشاعر الكبير رامز الدقوقي وعائلته
الرائعة وأخيرا" وليس آخرا" السيدة أمية وعفيف المهتار ؟
بفضل الله ورعاية هؤلاء الشرفاء ودعمهم المعنوي والمادي تمكّنت من
اصدار كتابي الأول
( لمحات من المقاومة الاعلامية العراقية ... في
مواجهة الاحتلال والدم ...قراطية ) .
ولكم أتمنى أن يحضى كل عراقي مهجّر برعاية أخوية كريمة كالتي حصلنا
عليه لكي يتمكن من تجاوز محنته , لعلّه يستطيع أن يبدع أو أن يقدم
شيئا" متواضعا" يخدم فيه الشعب والأمة
نصرة لقضايانا العادلة والمشتركة وهي فرصة حقيقة لكل الأخوة العرب
لمراجعة الأخطاء التي
ارتكبت بحق الشعب العراقي الصابر المحتسب الذي بذر فلذات أكباده شهداء
في كل الأرض العربية من فلسطين الى سوريا ومصر الكنانة واليمن السعيد . |