كان محفوظ يمتلك أخلاق وصفات قديسين وعظمة رجال أثروا الحياة وأعطوها ومنحوا الناس أفضل ما لديهم، قد أكون مبالغاً في هذا إذا أنا قلته في غير محفوظ. أما محفوظ فقد أكون بخسته حقه وأنا أقول هذا عنه.. رجل يبكي لمحنة عصفور ولا شعار له وعنده ولديه إلا الحب، عالم لا يبخل بمنح علمه لمن يحتاجه..

كنت أتصل به من مكتبي في جريدة أو مجلة أسأله هاتفياً مسألة، فيستأذنني أن أبقى على الهاتف ويذهب إلى مكتبته ليحضر لي الجواب، على الرغم من أن الجواب حاضر في ذهنه، ولكنه يفعل ذلك ليتثبت من جوابه، لئلا يحتوي على نسبة واحد في الألف من عدم الدقة فيقال: قال محفوظ وذلك غير دقيق.

كان يمشي في الصلح بين الناس ويعدّه واجباً شرعياً، وعندما لم أفلح مرة في إقناع العلامة الراحل علي الوردي بالمصالحة مع جريدة (الجمهورية) التي كان يرأس تحريرها الأستاذ والزميل سعد البزاز في العام 1992 حمل محفوظ عصاه وانطلقنا معاً إلى بيت الوردي وحمله حملاً على زيارة الجمهورية ولقاء البزاز وتسوية الأمر والعودة إلى الكتابة فيها، وهي قصة ستنشر في كتابي (علي الوردي.. مجالسه ومعاركه الفكرية) ولذلك لا أريد أن أرويها هنا فأفسدها على قراء كتابي.

اذكر، مرة، أن هدايا ثمينة تلقتها جريدة (الجمهورية) في ذكرى تأسيسها في العام 1992ولكن محفوظاً أرسل بيدي ورقة قديمة جداً عمرها يتجاوز المائة سنة كتب عليها تهنئته للجريدة، ولم ترق الهدايا كلها للأستاذ سعد البزاز، إلا هذه الورقة المعمرة فأطرها وعلقها في ممر الجريدة قرب مكتبه، وكم كان محفوظ فرحاً بهذه اللفتة التي لا يحسنها إلا البزاز الذي كان يعرف كيف يداري شيخيه الوردي ومحفوظ وقد احتفظ له العلمان الكبيران بمودة وارتياح خاصين.
وأفخر أني كنت محل أسراره وأنه كان يفكر أمامي بصوت عالٍ، وأنه كان يستشيرني في أموره الصحفية ويأخذ بمشورتي فقد كنت أدير أعماله في هذا المجال، وكان لتواضعه يعلن أمام الناس بأنني سبب شهرته وآخرين، والواقع أنه كان علماً عالياً وكبيراً، ولكنه أراد أن يشعرني بأهمية ما أقوم به ووقعه في نفسه.. لذلك كان يجوز لي في حضرته ما لا يجيزه الآخرون لأنفسهم، وكان، رحمه الله يخفف من شدة حرجي التي تنتج عن اندفاعاتي، فمثلاً كنا قد ذهبنا معه، ونحن مجموعة من مريديه الذين يسمينا (الأحاسن) نسبة إلى اسمه، إلى مجلس فاتحة وكان هو يمشي أمامنا وأمشي أنا خلفه مباشرة والآخرون خلفي.. كانت قاعة الفاتحة واسعة، وكنا نمر بمقاعد خالية كافية لجلوسنا لكن محفوظ كان يتركها مندفعا إلى أمام، بالرغم من تنبيه (الأحاسن) له بأن ثمة مكاناً فارغاً، وفي المرة الثالثة التي نبهوه إلى مقاعد خالية ولم يستجب لهم التفتّ إليهم وقلت لهم: (دعوها فإنها مأمورة)، فعلا الضحك وسط الفاتحة من (الأحاسن)، وعندما خرجنا من الفاتحة استفسر محفوظ عن سرّ الضحك وسط مجلس الفاتحة، فبادرت لأقول له: كان سوء أدب مني يا دكتور، ورويت له القصة، فابتسم رحمه الله وقال: بالعكس فقد كان تصرفك منتهى الأدب.

بعد احتلال العراق افترقنا، فقد هجرت العراق وفارقت محفوظاً لكن الهاتف كان وسيلتنا في الاتصال، وفي هذا الظرف العصيب من حياة العراق حاول سياسيون من أزلام الاحتلال أن يجعلوا محفوظ ورقة رابحة بأيديهم ليكسبوا بها شرعية أمام الناس، لكنهم فوجئوا أن محفوظاً كان عصياً على أهدافهم، فكان يستقبل أكبرهم، وكلهم صغار، في ممر ضيق في حديقة بيته ولا يدخلهم منزله.

وتباكوا جميعا عندما رحل عن دنيانا وأقاموا الاحتفالات تلو الاحتفالات وحضروا الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة رحيله كلها ولكن محفوظاً خذلهم حتى في رحيله، فقد كان عراقياً صميميا وكانوا هم طائفيين عنصريين يهدفون إلى تقسيم ما وحده الله وأحبه محفوظ: العراق العظيم.

سيدي محفوظ اعذرني أني لم أرثك فأنا لا أحب الرثاء وهو لا يليق بك أصلاً، وها أني أكتب في عيد ميلادك كما تعودت سنوياً فأنت تولد في كل يوم ما دام العراق عراقاً وما دمت قد رفضت الطائفية والطائفيين والعنصرية والعنصريين إلى آخر رمق في حياتك الشريفة .