إن سقوط حركة فتح الفلسطينية في حمأة الجدل الساخن ، الذي يقول أطرافه
في بعضهم ما لم يقله فيهم خصومهم السياسيين من خارج الحركة ، حول قضايا
إجرائية مثل مكان انعقاد المؤتمر السادس للحركة وزمانه وعدد أعضائه ،
إنما يخلق بلبلة في الرأي العام الفلسطيني تشتت الأنظار والأفكار بعيدا
عن قضايا حركية ووطنية ينبغي أن يكون الجدل حولها ساخنا وحادا حقا .
ولا مهرب هنا من التساؤل عما إذا كان البعض من المسؤولين عن هذه
البلبلة يقصدها عامدا متعمدا لإخفاء حقيقة أن الجدل لا يدور مثلا حول
البرنامج السياسي للحركة ، وللإيحاء بوجود إجماع حركي عليه ، وإلا
لماذا لا يكون البرنامج السياسي للحركة هو العنوان الرئيسي للجدل
الدائر حول مؤتمرها السادس ، وإذا كان هناك إجماع حركي على البرنامج
نفسه فعلام الصراع والاصطراع الدائر حاليا في صفوف الحركة !
لقد منحت قيادة الحركة مهلة استمرت منذ انعقاد مؤتمر فتح الخامس عام
1989 لتطبيق برنامجها السياسي الذي كانت قد نجحت في العام السابق في
تحويله إلى برنامج وطني لمنظمة التحرير الفلسطينية بإعلان الاستقلال
الفلسطيني (الاسم الفلسطيني لحل الدولتين) عام 1988 ، لكن لا يساور احد
الشك الآن في أن القيادة والبرنامج معا قد فشلا بعد مهلة استمرت عشرين
عاما ، وعندما أدرك مؤسس الحركة وقائدها التاريخي المغفور له ياسر
عرفات أن الحركة وبرنامجها أصبحا يدوران في حلقة مفرغة وحاول تغييرا
تكتيكيا في معادلة الصراع دفع حياته ثمنا للمحاولة .
فالبرنامج السياسي للحركة هو "مربط الفرس" كما يقول المثل العربي ،
فهذا البرنامج من الناحية النظرية في الأقل لم يسقط المقاومة ، التي
اعتبرتها الحركة في مؤتمراتها الخمس السابقة هي الثابت والمفاوضات هي
المتحرك في استراتيجيتها ، لكنه تمخض عمليا عن "عملية سياسية" وقٌعت
فيها قيادة الحركة على إلغاء المقاومة كثابت ومتحرك معا واعتمدت
التفاوض استراتيجية واحدة وحيدة .
ولا يفوت المراقب هنا ملاحظة أن المسائل الإجرائية الجاري الجدل حولها
علنا الآن ليست إلا عنوانا لصراع غير معلن يدور حول "ترتيب" مؤتمر سادس
يقود عمليا إلى تغيير في البرنامج السياسي المقر في المؤتمر الخامس
لينسجم مع ما تمخضت عنه "العملية السياسية" الجارية ، لتتحول مرجعيات
هذه العملية إلى برنامج سياسي بديل لبرنامج الحركة وميثاقها الذي يطالب
شركاء قيادة الحركة في هذه العملية بتعديله على طريقة تعديل ميثاق
منظمة التحرير ، فمطالبتهم بتعديل ميثاق حركة حماس ليست استثناء .
وفي هذا السياق يلاحظ أن هناك في الحركة من يحرص على تغليب الإجرائي
على السياسي وقد نجح هؤلاء مثلا في التعتيم الإعلامي على الأسباب التي
حدت بناصر القدوة إلى الاستقالة من اللجنة التحضيرية للمؤتمر وكذلك على
الأسباب التي حدت بهذه اللجنة إلى التحفظ على مسودة البرنامج السياسي
التي قدمها نبيل شعث .
والجدل المعلن حول المسائل الإجرائية يخفي الصراع المستتر حول قضايا
سياسية مثل البرنامج السياسي ، وتعديل هذا البرنامج تعديلا يقزم فتح من
حركة تحرر وطني تتحرك في إطار مجموع الشعب الفلسطيني إلى "حزب سياسي"
مقيد بالاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال وما انبثق عنها من "قانون
أساسي" وقوانين أخرى مكتوبة وغير مكتوبة ويتحرك في الإطار المحدود
لسلطة الحكم الذاتي المحدود تحت الاحتلال المباشر ، وتقويم المرحلة
الممتدة من توقيع "إعلان المبادئ" مع دولة الاحتلال في واشنطن عام 1993
واتفاقيات "أوسلو" المنبثقة عنه مرورا ب"تفاهمات مؤتمر أنابوليس" عام
2007 وما بعدها حتى الآن ، وتقرير ما إذا كان من المجدي الاستمرار في
الارتهان للتفاوض كخيار وحيد ، والاستمرار في تعظيم دور سلطة الحكم
الذاتي على حساب منظمة التحرير ، واستمرار الخلط بين الحركة وبين هذه
السلطة ، واستمرار الرهان على الولايات المتحدة حد ارتهان القرار
الفلسطيني لها ، وبالتالي استمرار الانحياز في الانقسام العربي بما
ينسجم مع هذا الرهان ، وملف استشهاد عرفات ، إلخ.
ناهيك عن مسائل تنظيمية مثل تغييب مؤسسات الحركة إلا عندما تستدعي
"العملية السياسية" استدعاءها ، والفردية والتفرد اللذان غيبا ممارسة
القيادة الجماعية على مستوى القيادة ، والمماطلة في عقد المؤتمر السادس
، والرخاوة حد الانفلات في شروط العضوية حتى أصبحت فتح "تنظيم من لا
تنظيم له" و"تنظيما رخوا من نحو ربع مليون عضو تنقصه معايير الانضباط
والولاء" ، كما قال أحد المعلقين الفلسطينيين ، تنظيما تم توريطه
بالكامل في مؤسسة سلطة الحكم الذاتي حتى بات قاعدة سياسية لها مرتهنة
للوظيفة وراتبها ليتحول تأمين هذا الراتب بدوره إلى حجة "إنسانية"
للتراجع الوطني تستخدم لتسويغ استمرار ارتهان القرار الوطني للشروط
السياسية التي يفرضها مانحو التمويل لهذا الراتب ، وهي نفسها شروط
الاحتلال . وهذه الحالة ليست مؤهلة لتنظيم مؤتمر حركي مؤهل لمحاسبة
"الفساد والفاسدين" الذين "ما زالوا يسيطرون على حركة فتح" ، كما قال
رئيس المحكمة الحركية العليا رفيق النتشة ، والملف المالي الخاص بأملاك
الحركة واستثماراتها ، وتهميش أطر الحركة في المنفى والشتات حتى لو
كانت الحركة نفسها تقودها كما هو الحال مع الدائرة السياسية لمنظمة
التحرير ، وتفسير دور قيادة الحركة في تحييدها والسلطة التي تقودها في
الضفة الغربية خلال عدوان "الرصاص المصهور" الذي شنته دولة الاحتلال
على قطاع غزة أوائل العام الحالي ، إلخ.
إن الجدل الإجرائي المحتدم حاليا حول عقد المؤتمر السادس يعكس كل ما
تقدم وغيره من خلافات سياسية وتنظيمية ، وهذا الجدل ، وبخاصة حول عقد
المؤتمر داخل المحتل من الوطن أو خارجه ، هو في حد ذاته دليل فشل
للقيادة وللبرنامج السياسي معا ، ولو كان العكس صحيحا لما تحفظ قادة
الحركة في الخارج ومعهم كثير من إخوانهم في الداخل على انعقاد المؤتمر
في الداخل .
وهنا يميل الجناح المدافع عن تجربة العشرين عاما المنصرمة إلى الطعن في
الوزن "العددي" لإخوانه في الخارج ، ويسعى إلى إغراق الوزن السياسي
الهام لمواقفهم في "كم" عددي يحول المؤتمر إلى مظاهرة غير منضبطة مثل
تلك التي "عدلت" ميثاق منظمة التحرير في غزة ، بحيث لا يسع المراقب إلا
أن يقارن بين العدد المقترح لعضوية المؤتمر وبين عدد أعضاء مؤتمر الحزب
الذي يقود الصين ، أكبر بلاد العالم في عدد السكان وفي عدد أعضاء الحزب
الشيوعي الذي يقودها .
ولا يسع المراقب أيضا إلا أن يلاحظ العلاقة العضوية الوثيقة بين الأزمة
في حركة فتح وبين الانقسام الوطني الفلسطيني الراهن ، ولا يفوته مثلا
أن يلاحظ كذلك أن "البندقية" التي استشهد عرفات كي لا تسقط من يده ، مع
أنه ظل متشبثا ب"غصن الزيتون" كالقابض على الجمر ، قد التقطتها حركتا
حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من فصائل المقاومة ، وأن هذه الفصائل قد
شغلت "الفراغ" السياسي الناجم عن التناقض بين ميثاق فتح وبين مسارها
السياسي الراهن ، وأن إنهاء هذا التناقض سيوفر الأرضية الموضوعية
للوحدة الوطنية الفلسطينية ولنجاح الحوار الجاري باتجاهها .
إن من الظلم لحركة فتح وللديموقراطية أن توصف الفوضى التي تعصف بالحركة
حاليا بأنها أحد المظاهر الصحية للديموقراطية فيها ، ومن الظلم للحركة
الوطنية الفلسطينية بعامة أن يجد أي وطني في حالة التخبط والتمزق التي
تعيشها الحركة مصدرا للرضا أو الشماتة ، فذلك ليس مستساغا حتى ممن
يعارضون البرنامج السياسي للحركة ، فالاحتلال الذي يسعى إلى أن تعم مثل
هذه الحالة كل فصائل العمل الوطني ليس بريئا من وصول الحركة إلى الوضع
الذي آلت إليه والذي ، بدوره ، أوصل الوضع الفلسطيني إلى حالته الراهنة
.
ولأن ما يجري في فتح ، أو في غيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني ،
يعني كل شعب القضية ، فإن الجدل الدائر داخلها لا يعنيها وحدها ،
وبالتالي لا ينبغي أن يظل محصورا في نطاقها ، ومن واجب الجميع ألا
يكونوا على الحياد في قضايا الجدل الدائر فيها ، وربما يكمن المعيار
الحقيقي لديموقراطيتها في انفتاح حركة فتح بسعة صدر على المساهمات من
خارجها في هذا الجدل . |