تشير كل الدلائل في أعقاب الجولة الرابعة للحوار الفلسطيني التي اختتمت
في القاهرة أواخر الشهر الماضي إلى أن هذا الحوار سوف يشهد بعد الجولة
الخامسة التي اتفق عليها أواسط أيار / مايو الجاري جولة سادسة وسابعة
وثامنة ، إلخ. ، أو يعلن فض الحوار لفشله في التوصل إلى "اتفاق الرزمة"
الذي تم التفاهم أصلا على إطلاق جولات الحوار على أساسه ، كما تشير إلى
أن أحد طرفي الحوار إنما يريد الحوار لذاته ، ويريده أن يستمر دون
اتفاق ، بهدف كسب الوقت ، مراهنا على مؤشرات إقليمية ودولية ينتظرها أن
تنضج لترجح كفته في الانقسام الفلسطيني الراهن ترجيحا يغنيه عن مواصلة
الحوار ، وبالتالي عن التوصل إلى اتفاق وطني فلسطيني على أساس وحدة
وطنية أساسها الشراكة .
والمراقب ليس بحاجة إلى معاهد أبحاث إستراتيجية أو إلى ضرب المندل لكي
يتبين من هو الطرف الذي يسعى إلى المماطلة في الحوار من أجل كسب الوقت
، فهو بالتأكيد الطرف الذي ما زال يتشبث في الحوار ببرنامجه السياسي
الذي أسقطته تطورات عشرين عاما من الاحتكام لمفاوضات عقيمة كانت
نتائجها عكسية ، ولوساطة أميركية غير نزيهة ما زالت مرجعياتها
إسرائيلية منحازة ، طرف ما زال يرفض التنحي عن القيادة أو في الأقل
مشاركة اجتهادات وطنية أخرى فيها ، كما يحدث في كل المجتمعات الحرة في
العالم ، بالرغم من سقوط برنامجه السياسي ، وما زال يتشبث بمواقعه في
سلطة الحكم الذاتي وفي منظمة التحرير ، وباحتكاره لصنع القرار
الفلسطيني ، وبرفضه لأي شراكة وطنية حقيقية في صنعه إلا بشروطه التي
أملاها الاحتلال الإسرائيلي عليه مباشرة وبالوكالة الأميركية على حد
سواء .
وبما أن الموافقة على الحوار تنطوي ضمنا على الموافقة على إجراء
تغيير في البرنامج السياسي وفي تكوين القيادة وفي المؤسسات الوطنية
وأجهزتها (السلطة والمنظمة) ، فإن الإصرار على عدم تغيير البرنامج
السياسي بحجة عدم استعداء المجتمع الدولي حد شمول الضفة الغربية
بالحصار المفروض على قطاع غزة ، والمراوغة في تغيير القيادة على أساس
الشراكة كما أثبت الانقلاب المتواصل على نتائج الانتخابات التشريعية
الأخيرة ، والمحاولات المستمرة لفرض الشروط الإسرائيلية – الأميركية
لأي تغيير في المؤسسات الوطنية وبخاصة حكومة السلطة ، ما هو إلا إصرار
ومراوغة وشروط لا تفسير لها سوى رفض التغيير ، وبالتالي توفر نية مسبقة
لإفشال الحوار ، لأن إجراء التغيير هو شرط مسبق لنجاح الحوار في التوصل
إلى اتفاق ، أما فرض الوضع الراهن دون أي تغيير جوهري فيه على الطرف
الذي يطالب بالتغيير في الحوار (وهو حركات المقاومة وفي مقدمتها
"حماس") فإن القبول به يعني فقط انتحارا سياسيا ذاتيا لحركة مثل حماس
خاضت انتخابات وفازت فيها وهي رافعة شعار "التغيير والإصلاح" ، مما
يعني في المحصلة أن هذا الطرف يشارك في الحوار دون أن تتوفر لديه النية
في إنجاحه .
إن الأخطاء التي يتصيدها أطراف الحوار لبعضهم البعض ، لكي يضخموها في
حرب إعلامية لم تتوقف بالرغم من تكرار الإعلان عن الاتفاق على وقف
الحملات الإعلامية المتبادلة ، ليست كافية لكي تغرق في تفاصيلها حقيقة
عدم توفر النية في إنجاح الحوار ، فبينما يستمر حصار القطاع ، وتهويد
القدس ، واستفحال الاستيطان في الضفة ، لم يعد الشعب الفلسطيني الخاضع
للاحتلال يطيق صبرا على المماطلة والمراوغة في الحوار الوطني ، الذي
حوله الطرف نفسه الذي يريده لكسب الوقت إلى هدف في حد ذاته ، تماما
مثله مثل "عملية السلام" التي ما زال هذا الطرف يخدع نفسه بأنه ما زال
في الإمكان استئنافها ، دون أن ينجح في إقناع شعبه بذلك ، بالرغم من
حكومة الحرب التي تمخضت عن الانتخابات الأخيرة في دولة الاحتلال التي
أعادت وزارة خارجيتها في بيان لها يوم الاثنين الماضي التأكيد على
شرطها الجديد لاستئناف المفاوضات بضرورة الاعتراف الفلسطيني المسبق بها
ك"دولة يهودية" .
ويبدو أن القيادة الفلسطينية المفاوضة سوف ترتهن الحوار الوطني ، مثلما
ارتهنت عقد مؤتمر حركة فتح ، لموعدين ، أولهما ما ستتمخض عنه لقاءات
الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال الشهرين الحالي والمقبل مع نظرائه
محمود عباس ، وحسني مبارك ، وبنيامين نتنياهو ، وثانيهما انتهاء ولاية
المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي ومعها انتهاء ولاية الرئاسة
الفلسطينية أواخر العام الحالي . لكن ما ترى فيه هذه القيادة كسبا
للوقت سيكون في الواقع مضيعة لوقت وطني فلسطيني ثمين ، إذا ما انتهى
دون اتفاق على الوحدة الوطنية فإنه سيكون رهانا خاسرا للجميع عندما
يكتشف الجميع بنهاية العام أنهم عراة سياسيا في مواجهة فراغ رئاسي
وتشريعي ضيعوا الفرصة المتاحة لتفاديه في الوقت المناسب ، ليتحول هذا
الفراغ إلى ذريعة إسرائيلية مستجدة لاستئناف الحرب على المقاومة في
القطاع وللتنصل من أي احتمال للتفاوض في الضفة .
لقد أصبحت هذه القيادة أسيرة نهج سياسي في التعاطي مع الحوار والوحدة
الوطنية المأمولة منه ما زال يعطي أولوية للعامل الخارجي على العامل
الوطني ، وهو ذات النهج الذي قاد منظمة التحرير إلى الانقلاب على
استراتيجيتها الأصلية التي أملتها العوامل الوطنية والعربية كما وردت
في ميثاقها القومي ثم الوطني ، مما قاد إلى الوضع الراهن للقضية
الفلسطينية ، وهي اليوم ، سيرا على النهج ذاته ، تقرأ في مؤشرات سياسية
خارجية فرصة جديرة بالرهان عليها للتملص من أي التزام باستحقاقات
التغيير المطلوبة لإنجاح حوارات القاهرة .
وربما كانت أبرز هذه المؤشرات التصريحات التي أدلت بها وزيرة الخارجية
الأميركية هيلاري كلينتون أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب
عشية الجولة الرابعة للحوار عن رفض حكومتها التعامل مع أي حكومة
فلسطينية لا تلتزم ب"شروط الرباعية" المعروفة ، والتي كررها عباس غداة
انفضاض هذه الجولة ، والموقف الأميركي للإدارة الجديدة الذي ما زال
يكرر إعلان التزامه ب"رؤية" الإدارة السابقة التي راهن عليها المفاوض
الفلسطيني ، وتصريحات أوباما بأنه يريد أن يرى أطراف الصراع العربي –
الإسرائيلي تحرز "تقدما خلال أشهر" على أساس هذه الرؤية ، والخطط
الأميركية المعلنة لدعم "توسيع" برنامج الجنرال كيث دايتون الأمني
لسلطة الحكم الذاتي ، وهو برنامج يحظى بدعم الحزبين في الكونغرس ،
بزيادة المخصصات المالية لهذا البرنامج من 75 مليون دولار العام الماضي
إلى 130 مليون دولار العام الحالي ، وتعهد إدارة أوباما بمساعدات قدرها
840 مليون دولار لهذه السلطة ، بينما تحرك الأعضاء الثلاثة الآخرون في
"الرباعية" الدولية لتعزيز هذا التوجه ، ويلاحظ بخاصة إحياء الحديث عن
عقد مؤتمر موسكو للسلام في الشرق الأوسط قبل نهاية العام ، وتلويح
الإتحاد الأوروبي بأنه لن يرفع مستوى علاقاته مع دولة الاحتلال "حتى
تظهر الحكومة الإسرائيلية الجديدة التزاما واضحا بمواصلة مفاوضات
السلام مع الفلسطينيين" ، كما قالت مؤخرا مفوضة الاتحاد للشؤون
الخارجية بنيتا فيريرو – والدنر ، ناهيك عن حث وزير خارجية قوة عظمى
مثل الصين يانغ جيشي أطراف الصراع على البناء فوق ما أنجزوه في
مفاوضاتهم السابقة ، خلال جولته الإقليمية الأخيرة ، ثم عودة العاهل
الأردني عبد الله الثاني من زيارة وصفتها حكومته بأنها كانت "ناجحة"
لواشنطن التي توجه إليها الشهر الماضي باسم جامعة الدول العربية .
إن هذه البيئة "الخارجية" لا يمكن إلا أن تكون مغرية لمن أدمنوا نهج
الرهان على العامل الخارجي ، لكي يتخذوا منها حجة جديدة لمقاومة أي
تغيير تمليه العوامل الوطنية والمستجدات في معسكر الخصم باتجاه الوحدة
الوطنية على أساس الشراكة والمقاومة ، عبر الحوار الجاري في القاهرة ،
لكي يواصلوا الحوار دون أي نية في إنجاحه ، وبالتالي لكي يواصلوا بيع
وهم السلام العادل والشامل لشعبهم الذي لم يبق له نهجهم المستهلك أي
حيز لأي أمل في السلام والعدل والحوار والوحدة الوطنية في أي وقت قريب
، للخروج من الدوامة العبثية التي أدخلته فيها "عملية السلام" العقيمة
.
وفي هذا السياق تدور الشائعات التي راجت في الأوساط الفلسطينية مؤخرا
عن تأليف حكومة جديدة لسلطة الحكم الذاتي قبل زيارة عباس المرتقبة
لواشنطن أواخر الشهر الجاري ، فتأليف حكومة جديدة أو تعديل حكومة تسيير
الأعمال المستقيلة التي يرأسها سلام فياض ، قبل الزيارة أو بعدها ،
سيكون بالتأكيد إشارة إلى أن العوامل الخارجية قد نضجت بحيث تسمح
لقيادة عباس بالإقدام على خطوة كهذه خارج إطار التوافق الوطني وقبل أن
يصل حوار القاهرة إلى خاتمة ناجحة ، مما يعني بالتالي أن هذه القيادة
لم تعد معنية لا بالحوار ولا بخاتمة ناجحة له في ضوء إعلان حماس بأن أي
حكومة كهذه يتم تأليفها ستكون غير شرعية .
غير أن إغراق القضية الفلسطينية مجددا في "عملية سلام" مستأنفة لا سقف
زمنيا لها ، لا يوجد لدى راعيها الأميركي الجديد في البيت الأبيض حتى
الآن أي أجوبة على أسئلتها المعلقة منذ عقدين من الزمن تقريبا سوى
الأجوبة الغامضة المراوغة إياها لسيد البيت الأبيض السابق ، ربما لا
يجد تعليقا عليه أفضل مما قاله الملك الأردني أثناء زيارته الأخيرة
لواشنطن: "لقد رأينا ما يأتي من عملية لا تحرز تقدما" ، وكانت الإشارة
الملكية واضحة إلى تجربة أوسلو واتفاقياتها التي أوصلت الوضع الفلسطيني
إلى ما هو عليه الآن ! |