ربما لم تكن هناك أهمية سياسية عملية لزيارة الرئيس الأمريكي باراك
أوباما للقوات الأمريكية في العراق ، خاصة أنه كان قد أفرغ جيبه من كل
ما كان يحمله من رسائل موجهة لقواته في العراق أو للعراقيين وخاصة ما
يرتبط بالجداول الزمنية المحددة لسحب القوات ، سواء أثناء حملته
الانتخابية أو في خطاب التنصيب أو أمام الكونغرس في السابع والعشرين من
شباط /فبراير الماضي ، أو أثناء زيارته الأخيرة لتركيا والتي حاول منها
أن يطلق كل ما في خزانته من وعود لعهد جديد في علاقات الولايات المتحدة
مع العالم الإسلامي .
لكنه لم يكن بوسعه العودة إلى بلاده دون أن يسجل لنفسه ( شجاعة ) زيارة
قواته المقاتلة في العراق ، والتي توشك بموجب التعهدات التي أطلقها
بنفسه على العودة من حيث أتت ، وإلا فإنه وفي بداية عهده سيعرض نفسه
لسؤال من حجم كبير جدا عن السبب الذي منعه من تقديم الدعم لقوات تعاني
الكثير من الضغوط النفسية والخسائر البشرية والمادية نتيجة ما تواجهه
من مقاومة مسلحة ، لم تنفع معها التطويرات التي أدخلتها وزارة الدفاع
الأمريكية على معداتها العاملة في العراق .
زيارة أوباما هي زيارة المضطر دون زيادة أو نقصان ، وهي في وجهها الآخر
لم تكن للعراق إذ لم يخرج عن القاعدة العسكرية الكبرى في منطقة
الرضوانية قرب المطار الدولي ، حتى حين أراد أن يضفي عليها شيئا من
اللمسات البروتوكولية ، فإنه استدعى من كان ينبغي لو كان الوضع ضمن
سياقاته الصحيحة أن يضيفوه ، أن يلتقي بهم بعد مروره فوق البساط الأحمر
في مقارهم الرسمية ، ولكنه تحول وهو الطارئ على البلد إلى مضيف لمن
نصّبهم سلفه حكاما على العراق ، فكان كمن يريد أن يوصل إليهم رسالة
بأنهم غرباء على البلد مثله تماما ، ولهذا فكان اللقاء في منطقة محايدة
على الجميع ، وجلسوا أمامه كتلاميذ أغبياء يحاولون التقاط الأنفاس أم
معلم لا تنقصه الحيلة ، لمناقشة هموم الوطن المبتلى بهم جميعا ، ولعل
العبارة التي قفزت من بين أسنان الرئيس أوباما والتي قال فيها ( كلكم
يعي بأن الوقت قد حان لنقل السلطة للعراقيين ) هي التي رسمت أبعاد
اللوحة التي أراد رئيسهم وضعها على أرضية الحوار من طرف واحد ، وبرغم
أن هذه العبارة متناسلة عن سابقة لها من فم أوباما يوم تسلمه الرئاسة
حينما قال بأن إدارته ستعيد العراق إلى أهله ، فإن العبارة السابقة
تعنى بوضوح أن من يتولى حكم العراق اليوم ليسوا من أهله ، كما إن
الأخيرة تنسف أثر كل المهرجانات الصاخبة التي أقيمت في بغداد والكثير
من مدن العراق تحت لافتة نقل السيادة ، والتي تحشدت لها فضائيات تنهل
من مجاري الإنفاق الأمريكي من أموال العراق المشاعة ، وظن الكثير من
المراقبين أن ما ورد على لسان أوباما سيثير ردود فعل غاضبة من الخط
الأول من رموز العملية السياسية أو من مستشاريهم ، وكل واحد من تلك
الرموز يمتلك على الأقل عشرة أضعاف ما يمتلكه الرئيس الأمريكي من
مستشارين ، ولكن هؤلاء تقبلوا تلك الملاحظات بروح رياضية عالية ،
وقدروا أن الأمر لا يستحق عناء الرد ، فهم إن تفضل عليهم سيدهم الجديد
ومدد لهم البقاء والإقامة ، فتلك منة لن ينسوها له ، وإن خذلهم وترك
العراق للعراقيين كما تعهد ، فإن ذاكرتهم ستبقى متقدة في الدعاء للراحل
عن البيت الأبيض جورج دبليو بوش صاحب الفضل الأكبر بل والأوحد فيما هم
فيه من نعمة ، مما لم تجرؤ حتى أحلامهم على المرور بقربها ، فقد فاضت
أرصدتهم في البنوك حتى أتخمتها رغم أنف الأزمة الاقتصادية التي تعصر
العالم ، وتحولوا من ماسحي أحذية إلى مالكي أكبر العقارات في الخليج
العربي وأوربا ، ورحم الله أيام الجوع .
اللافت أن ملاحظات أوباما ليس فقط لم تواجه بقليل من الغضب المدروس فقط
على الأقل لذر الرماد في العيون ، بل أن جريدة الصباح التي تنطق باسم
حكومات الاحتلال المتعاقبة ، وربما تنطق باسم الاحتلال باعتباره ولي
نعمة العاملين فيها ، أو الذي يخصص ميزانيتها كي تحافظ على مسافة واحدة
من جميع أطراف العملية السياسية التي خرجت من رحم الاحتلال ، رحبت
بحرارة بعبارات أوباما سالفة الذكر واعتبرتها مؤشرا على ولادة جديدة ،
وأكثر الولادات في زمن الاحتلال الرديء ، وبالتالي قطعت الطريق على من
يرغب بتقديم احتجاج ناعم الملمس على ما قفز من فم أوباما من عبارات قد
تخدش مشاعر البعض إذا كان هناك متسع من الوقت .
|