ما أنفك الغزاة وحلف شياطينهم عن تطوير أساليبهم القذرة الهادفة إلى
تشويه صورة العرب المسلمين، والتركيز بثقل كبير على طلائع هذه الأمة،
ومن بينها تجربة البعث في العراق منذ عام 1968م، والتي رافقتها منذ
أيامها الأولى وحتى اليوم، وقد لا يكون أخرها حملة التشويه وتزوير
الحقائق التي استهدفت البعث ورجاله وتجربته وفكره، منطلقة من أفواه من
يمكن تصورهم على أنهم من بين الصفوف، وليس من خارجها، وهي تشابه
سابقاتها من حيث الأهداف، بوأد جذوة الأمل في هذه الأمة وحداة ركب
نهوضها الحضاري، لاستعادة دورها الذي تخلت عنه طائعة ومرغمة في آن
معاً، فكان البعث الفكر الخلاق لعملية النهوض، وكان رجاله الأفذاذ
المتسلحين بصدق الإيمان والمفعمين بمحبة كبيرة لله ورسوله والمؤمنين من
أبناء هذه الأمة، فلا غرابة في أن يتكالب الأشرار بشتى أحلافهم لتلفيق
الأكاذيب والافتراءات، وخلال عقود من الزمن لتشويه صورة البعث بمبادئه
وأفكاره وأهدافه ورجاله ومنجزاته أيضا، مرورا بعمليات التمهيد لغزو
العراق وخلاله وما تلاه.
ولقد قال بعض المسطحة عقولهم، لم يصمد أبناء العراق أمام الغزو سوى
ثلاثة أسابيع، خابوا وخابت عقولهم، فأبناء العراق صمدوا بوجه الغزاة
ثلاثة وعشرون عاما يصدونهم بصدور عامرة بالإيمان، ثلاثة وعشرون عاماً
بأيامها ولياليها وهم يكسرون هجمات الأعداء على ثغوره الشماء، أغدقوا
خلالها الكرم سخياً، دماُ طاهراً ساح على ثرى أرضهم من عروق شيبه
وشبابه ونسائه وأطفاله، فأي شعبٍ وأي أمة فرت فري العراق وأهله؟
ولأنّ محاولة التشويه السابقة لهذه قد فشلت، تلك التي استهدفت حرف
أصوات وأقلام بعض " المثقفين العرب" ممن كانوا يعرفون بالحس الوطني
والقومي، وممن يُعدون من المدافعين عن قيم العروبة وكرامتها، والواقفين
بصف أمتهم ضد أعدائها، والذين صُنع بريق نجوميتهم على أعينهم ومن
أموالهم، ومن ثمّ تفتقت قريحة المكر في ذهن آية الدسائس العظمى خامنئي
( دام ضلاله)، لتبدأ وفقا لتوجيهاته عملية تجنيدهم في مسار الهجوم
المبرمج ضد البعث ورجاله، والتشكيك في جهادهم وكفاحهم ضد المحتل الكافر
وحلفاءه وأذنابه، وقد كان أمر إفشالها صعبا، لكنه كان ذا مردود كبير
على هذه الأمة بفضل الله تعالى وصدق جهاد العراقيين وتوكلهم على خالقهم
سبحانه، فقد تمزقت كلّ الأستار، وصار كثير من العرب، حتى البسيط في
وعيه، يتوقف كثيرا عند كلّ ما يسمعه أو يشاهده أو يقرأه، يمحص، يقبل
ويرفض، بعد أن كان بفعل تزكية هؤلاء يتلقف طروحاتهم ويدافع عنها بكل
حماس، ويعتبرها حقائق مطلقة.
فكان لابد من مكر جديد، تنفذ سهام غدره إلى عقول العرب قبل صدورهم،
واعتقدوا أنهم وقعوا على كنزٍ ثمين، واهتدوا إلى ضالتهم، بأسماءٍ ووجوه
كانت فيما مضى تُعدُّ من علامات سِفر البعث،وشخوص مارسوا بعض
المسؤوليات في مسيرة الحزب والثورة الطويلة، فالوسيلة في هذه المرة
ستكون مختلفة بعض الشيء و أكثر تأثيرا، لأن الأدوات ستكون من بين
الحداة أنفسهم، أو بتعبير أدق، من بين الذين كانوا ضمن الحداة، ثم ما
لبثوا أن تخلفوا عن المهمة لأسباب شتى، أبرزها:
1- انقطاع أنفاس بعضهم لوعورة المسلك الذي تدمي أشواكه وعثراته القلوب
قبل الأقدام.
2- أو من كان يسعى ليكون بين صفوف الحداة على أمل مكسب أو مطمع فلم يجد
الطريق الذي سلكه مفضيا على حيث أراد فانسحب على حيث يبتغي.
3- أو ممن استنفذ كل طاقته في مراحل المسير السابقة فثوى في إحدى
محطاته.
4- أو ممن خالطت أهداف مسيرته وساوس الشيطان فنكص على عقبيه.
5- أو ممن توقف يلتقط أنفاسه ليعاود المسير فسبقته القافلة، فضاعت
خطاه في طريق اللحاق بالركب فما معه دليل.
6- أو ممن استسهل الحال وغرته الكثرة والمنجزات ليتصور أن الوصول إلى
الهدف المركزي بات سهلا وقريب المنال، فطلب الدعة والراحة.
فراح الأعداء يبحثون بين هؤلاء عمن يحقق لهم مبتغاهم – ولهم في ذلك
خزين خبرة وتجارب طويلة، امتدت على مدى قرابة الألف وأربعمائة سنة -
وبأساليب شتى، وجندوا لأجلها بعض المتسولين على أعتاب الأعداء ممن
جابوا الدنيا، يستجدون دوراً خيانياً، تُُملأ من جرائه الجيوب، فكانت
لهم مصائد الصليبيين والصهاينة والفرس الصفويين المجوس بالمرصاد، تشتري
منهم ما تشاء ومن تريد.
أما الذين صدقوا الله وعدهم وعهدهم، وطوعوا أنفسهم على تجاوز محنة
الصبر والامتحان، فقد خيبوا أمالهم رغم عوزهم وما حلّ بهم من حاجة،
وصفعوا بكبريائهم ووفائهم صلف المدنسين وخبث سرائرهم، ذلك لأنهم صادقون
مع الله أولاً ومع أنفسهم ثانياً، ولأنهم رضعوا عفة النفس، وطوعوا
بطونهم على اللقمة الحلال، فتلك تزكيتهم على رؤوس الأشهاد، لأنهم كانوا
بمواقع تؤهلهم لو أرادوا أن يكونوا من الأثرياء، لكنهم ليسوا مدنسين
ولا سُراق ولا تجار سياسة ومنافع، بل كانوا كما كان رفاقهم خدماً
لشعبهم وأمتهم ولرسالة ربهم، وما أرادوا لخدمتهم ثمنا، وكانوا في ذلك
من الصادقين مع أنفسهم ومع غيرهم، فما سبوا أنفسهم ولا شتموا من كانوا
برفقتهم، وإن كانوا وكنا معهم بشر، نخطيء ونصيب في مسيرة عملنا، فما
أدعينا بأنا ملائكة، ولا افترضنا لأنفسنا العصمة، إن نحن وهم إلا بُناة
أشداء وخدمٌ لشعبنا وأمتنا وثوابنا على الله.
أما الذين دنسوا شرفهم ومسخوا وجوههم بعدما سقطوا، بأي عذرٍ كان، في
حبائل الأعداء ليكونوا شهود زور على أنفسهم قبل غيرهم، لقاء حفنة من
الدولارات يحرقون بها بطونهم وبطون عوائلهم بسحتها، فإنهم بذلك جعلوا
من شخوصهم سِقط متاع، وأفقدوا أنفسهم قيمة وقدرا ومنزلة أمام الناس
والتاريخ، لو كانوا أهلا لها لعضوا عليها بالنواجذ، ولضحوا بالغالي
والنفيس دونها، لكنها والله ليست لهم، فأين هم منها وقد افتضحت سرائرهم
بما نطقت به أفواههم؟
وأما فضائيات العهر العربي، فقد كانت هي الأداة التي يمكر بها الفرس
الصفويين لأسيادهم الصليبيين والصهاينة، فمع إن للصليبيين واليهود
وللفرس فضائيات كثيرة تنطق بلسان عربي مبين، لكنهم كانوا، ومن باب
إحكام الخدعة، يجندون لأهدافهم تلك قنوات العرب، أو القابعة على أرضهم،
يبثون من خلالها سمومهم علينا وعليهم، فهل هذا محض غباء أم ماذا؟ إن
كانوا يفعلون هذا بحكم الغباء فتعسا للعرب حكامهم، وإن كان سببه شراكة
مصالح وأهداف بينهم وبين أصحاب المكر، فتعسين للعرب حكامهم، وإن كان
مرده رغبة الحكام في إلهاء العرب بفتن الصفويين لتسهيل إِحكام
الصليبيين والصهاينة سيطرتهم على مقدراتنا، فألف تعس وتعس للعرب
وحكامهم.
وليعذرني العرب في شتائمي لحكامهم وطغاتهم لأنهم لا يملكون من أهدافٍ
سوى المحافظة على كراسي حكمهم، خنوع وخضوع وانبطاح لقوى الكفر والضلال،
واستئساد وبطش بالشعب، وجهادهم عظيم وشجاعتهم فائقة وتضحياتهم سخيّة،
لكن ليس في سبيل الله تعالى ولا امتثالاً لأمره، إنما من أجل الكرسي
اللعين وامتيازاته الفاحشة، ولا شيء غيرهما البتة.
وكأن الله تعالى يعاقب العرب وحكامهم على تفريطهم بالأرض والمقدسات،
وموالاة قوى الكفر والطاغوت والضلال، لذلك ما جعل من اغتصاب الفرس لأرض
العرب في الأحواز إلا ليستثمروا عائدات نفطها – وهم لا يملكون غيره -
في التأمر عليهم وشراء ذمم الحمير الناهقة منهم بحب الفرس، والذود عن
مكائدهم ومكائد حلفائهم اليهود بالعروبة والإسلام، وأبعد من هذا فقد
جعل من موارد العرب النفطية التي بأيدي حكامهم الأراذل أيضاً وقوداً
تُحرَقُ به أرض العرب، عقاباً منه تعالى على تولية أمرهم لخونة
وجواسيس، جعلوا من أرض العرب المسلمين منطلقاً لذبحهم وتدنيس أرضهم،
وجعلوا من خيرات أرضهم مدداً ونفقة للمعتدين، وليس المستهدف في هذا
العراق فحسب، فقد بانت نتائج هذا المكر على أرض لبنان والسودان وسوريا
ومصر واليمن وأضحت رياحه تعصف بالجزيرة العربية وحتى المغرب العربي،
نعم، فكل ديار العرب يداهمها اليوم مكر الصليبيين والصهاينة على يد
الفرس الصفويين، وكله بموارد العرب المغتصبة منها والموهوبة ممن لا
يملكها، ولا أضنّ العرب اليوم أقوى منهم وهم في أرقى مراحل عزهم، فبذات
المكر والدسائس، وبذات الأيدي استُشهِد الخليفة عمر بن الخطاب، وفُتح
باب التفريط على مصراعيه كنتيجة لذلك، وانطلقت رياح الفتن تعصف بهم،
فاعقبه الخليفة عثمان بن عفان ثم الخليفة علي بن أبي طالب والتحق بهم
الحسن ابن علي رضي الله عنهم أجمعين، وبذلك فقدت الدولة العربية
الإسلامية واحداً من أهم دعائم قوتها وصواب نهجها لتتحول خلافة الشورى
إلى مُلكٍ عضود.
ومنطقي جدا سلوك كهذا من قبل الأعداء، خاصة بعد أن استنزفوا كل طاقاتهم
واستنفذوا كل ألاعيبهم ومكرهم وخداعهم وأكاذيبهم في المراحل السابقة
لعدوانهم على العراق بصفته رأس الممانعة في هذه الأمة وقاعدة اقتدارها،
ولم يتحقق لهم كل ما أرادوا، كما أن إطلاق المكائد والتشويهات من أفواه
أناس يحملون ملامح رجال البعث ستكون قد أخذت جانبا من المصداقية
المزيفة، أو لنقل القبول من قبل المتلقي، على قاعدة من فمك أدينك،
فتصوروا أن هذه الدسائس الماكرة سيكون وقعها أعظم أثرا في نفوس أبناء
العراق والأمة، وبالأخص الرعاع والهمج منهم، بقصد تشويه الحقائق، عن
طريق إعادة تنظيم وعيهم المتواضع بما يسهّل للأعداء تحقيق أهدافهم
ونواياهم القريب منها والبعيد الأمد.
والهدف كما أسلفنا واضح وبانت ملامحه وافتضحت كل خفاياه بعد غزو الحلف
الصليبي الصهيوني المجوسي للعراق، فما عاد للسرِّ مكمن، وما عاد التخفي
يجدي نفعا.
وفي هذا أيضا كان الله تعالى سندا وعونا لنا، امتدت عنايته الكريمة
وقدرته العظيمة بالفرز والتفريق، حتى شملت كل الزوايا الضيقة من التي
يصعب على فراسة البشر وعلمه وخبرته أن تكتشفها وتفضحها، ليميز سبحانه
الخبيث من الطيب، ويطهر الصفوف من الدخلاء والطارئين والمتسترين، أصحاب
النوايا السيئة والأغراض الخبيثة، والعالقين بجسد الأمة كالأدران
السرطانية، ما أن تفتقها حتى تستفحل وتستشري فتنتشر في كلّ الجسد، ولا
علاج لها إلا بالاستئصال، فلا يكتمل عون الله تعالى ومدده وفيض رحمته
وأمثال هؤلاء بين صفوفنا ويحملون اسمنا.
في تاج عزّ الأمة وتاريخها المجيد جواهر، والبعث إحداها، جوهرة ثمينة
تزين جبين الأمة أبد الدهر، مهما كادوا ومهما مكروا، ومهما شوهوا
وكذبوا ولفقوا، فما زاد الدعكُ الجواهرَ إلا لمعاناً وبريقا.
|