تتشوه المواطنة وتبتعد عن مفهومها الحقيقي, عندما يصبح الوطن في اجندات
البعض , مجردا من كل معانيه السامية, ومحطة للنهب والثراء الفاحش, في
غفلة من الزمن , عندما تدور النوائب فيه, فتبتعد المسافة بين الوطن
وهؤلاء, وتصبح مزدحمة بكل قيم الانحطاط والدعارة السياسية, لكن الوطن
يبقى على مدى الاف السنين, مريضا أم معافى, يحمل في جنباته كل القيم
العلوية المقدسة, بينما يذهب الافراد مهما أختلفت عناوينهم, أمراء
طوائف, أو زعماء سياسيين, أم شيوخ قبائل, كل الى مصيره, عمالقة بحب
الوطن والتضحية في سبيله, أو اقزاما تتبعهم لعنات التاريخ الى يوم
يبعثون. تلك هي العلاقة الجدلية الازلية بين هذين المفهومين (الوطن
والمواطن), وهي التي صنعت التاريخ وتصنعه اليوم في كل البلدان مستقلة
أم محتلة, شرقية أم غربية, ضعيفة أم قوية. ولقد راهنت كل قوى الاحتلال,
على مدى تاريخها الاسود على الاخلال بهذه المعادلة, وعدتها الطريق
الوحيد لبسط أراد تها على الشعوب, وتمرير مشاريعها في البلدان المحتلة
. فعندما يتحول الوطن الى بضاعة في منظور البعض, وخاصة من يعتبرون
رموزا أجتماعية مهمة, ومراكز قوى تقليدية فيه, كرجال دين أو زعماء
قبائل أو وجهاء مجتمع, فان كل القيم السامية ستتزعزع في نفوس وضمائر
الناس, وان من يدين بالولاء لهم, سيجد نفسه لامحالة قد عسكر بالضد من
الوطن, خاصة في اوقات التشرذ م, عندما تسود المفاهيم الخاطئة, وتصبح
مصلحة المواطن فوق المصلحة الوطنية, ويغيب السؤال المنطقي, ماذا قدمنا
للوطن؟ على هذا الاساس, ووفق هذا المنظور المشوه, برزت الى سطح الواقع
العراقي ماتسمى(قوات الصحوة), التي هي الابن الشرعي الاخر للمحتل, الذي
ولد وترعرع في احضانه, تحت مسمى عشائري , ليصطف مع المسميات الطائفية,
والعرقية, والاثنية التي اوجدها المحتل لتغرد باسمه وتشرعن وجوده, بعد
ان أوهم نفسه قبل عام الغزو في 2003 وبعده باحلام مشبوهة, وان مشروعه
قد بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق, وان العراق سوف يصبح زهرة الشرق
الاوسط, التي يفوح أريجها على دول الجوار ومابعدهم, فيطيح بالرؤوس
والكراسي, وتتقدم مواكب الفتح الامريكي لتدك قلاع وحصون عواصم الشرق,
لتستقبلها جحافل الشعوب بالورود , وتسود الديمقراطية الاستعمارية,
وقوانين السوق, والعولمة, والانفتاح والتطبيع مع اسرائيل, ويعم سلام
القطب الاوحد أوطان الشرق الاوسط. نقول بعد كل هذا الوهم تفاجأ المحتل
الامريكي وهو يرى تحطم مشروعه في اولى المحطات, وتشتت أهدافه وخططه,
وتعرضه لاستنزاف مادي ومعنوي مستمر في صفوف قواته, على ايدي فصائل
المقاومة الوطنية العراقية, وان هذه المقاومة قد بدات تنمو وتكبر, وان
حاضنتها الشعبية قد توسعت, وان السيطرة على الكثير من المدن والاحياء
العراقية قد باتت لصالحها, وان أختراقها قد بدا اصعب مما يتوقعه
المحتل, حتى بات شبح الهزيمة يطارد قادة العدوان واعوانهم, وتعالت
الصيحات بضرورة الانسحاب من العراق, أو ايجاد حل سريع يحفض ماء وجه
المحتل حتى لو تطلب ذلك التعاون مع الدول التي سموها(محور الشر),
لايقاف المد المقاوم.
وقد انتهج المحتل خطة جديدة لخرق الحواظن الشعبية للمقاومة, والانتقام
منها بغية أيجاد ردود فعل عكسية على عناصرها, حيث قاد حملة شعواء على
المحافظات التي عرفت بمقاومتها للاحتلال وكذلك أحياء بغداد الغربية,
تمثلت في قطع مياه الشرب عنها لاأيام عدة خاصة في فصل الصيف, وغلق جميع
منافذها, ومنع وسائط النقل العامة من الوقوف في اماكن قريبة منها,
ومداهمة الدور المحاذية لخطوط أمداده, بهدف أذلال المواطن, وتغليب
مشاكله الحياتية اليومية على قضيته الرئيسة الا وهي الاحتلال, وتصوير
معاناته على انها ليست بسبب الاحتلال, انما بسبب عناصر المقاومة
الموجودة في منطقة سكناه الذين يتعرضون للمحتل, وقد نجح العدوفي مخططه
هذا الى حد ما, بعد ان هلهل النسيج الاجتماعي, وبعد ان أستعان بمخابرات
دول عربية مجاورة للتاثير على عدد ممن يسمون أنفسهم شيوخ عشائر فتلاقت
مصالح الطرفين للاسباب التالية:
1. سيطرة فصائل المقاومة على منطقة غرب العراق, والتحكم بالطريق الدولي
فيها, وقطع امدادات العدو, وحرق قوافل تموينه بشكل يومي.
2.أنقطاع مصادر التمويل عن بعض من يسمون أنفسهم شيوخ عشائر, الذين
كانوا يمارسون عمليات التسليب للسيارات القادمة والمغادرة من والى
العراق, على الطريق الدولي, بعد أن تحكمت المقاومة بهذا الطريق, وقامت
باعدام عدد من قطاع الطرق.
3. فقدان هولاء (الشيوخ) سيطرتهم التقليدية على الغالبية من أبناء
عشائرهم , بسبب أنخراط الكثير منهم في فصائل المقاومة.
4.الطموح السلطوي لدى بعض(زعماء القبائل) , ورغبتهم بتحقيق ذلك من خلال
التعاون مع المحتل.
لهذه الاسباب وغيرها وجد الطرفان ضالتهم في بعضهم البعض, حيث جرى أغراء
الكثيرين ممن تضرروا بسبب الاحتلال وانقطعت مصادر رزقهم, فاغدقت
الاموال عليهم, لمحاربة عناصر المقاومة والتنكيل بعوائلهم, وطردهم من
أماكن سكنهم الاصلية, كما تمت مساومة البعض من عناصر المقاومة,
للانشقاق على فصائلهم, وتشكيل مجاميع مسلحة لطعن المقاومة في الظهر,أو
مجاميع سياسية هزيلة تدعوا لبقاء المحتل وشرعنة وجوده, وبذلك فهي بحق
مليشيا أمريكية تدار وتمول وتسلح وفق رؤية أمريكية واضحة هدفها ضمان
قوات الاحتلال, والحفاظ على خطوط أمداده, وقد أسبغ المحتل بركاته
وعطاياه لقادة هذه المليشيات , فاصبحوا مقاولين تحال عليهم المناقصات ,
وتدخل في حساباتهم ملايين الدولارات, ويتمتعون بالصلاحيات والسلطات,
وتحيط بهم المئات من عناصر الحماية, فتعززت من جديد سلطة الاقطاع لكنه
بطابع سياسي هذه المرة. لقد حاول المحتل وأعوانه قادة(الصحوات
العشائريين) أستبدال الهوية الوطنية العراقية الجامعة لكل العراقيين,
بهويات عشائرية وقبلية محدودة, وتحويل الولاء الوطني الى ولاءات
عشائرية ومناطقية ضيقة, وهي محاولة مقصودة لاضعاف الوطن وتمزيقه على
أسس طائفية وقومية وعشائرية, وان أسغلال بعض شرائح المجتمع ممن فقدوا
مصادر رزقهم , ودمجهم في تجمعات مشبوهة لمحاربة قوى المقاومة الوطنية,
انما هو أيغال متعمد في تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي, فعناصر
المقاومة هم أبناء العشائر والقبائل العراقية, كما انهم ابناء العراق
من شماله الى جنوبه, وان مقاتلتهم أنما هي مقاتلة للابن والاخ وابن
العم والصديق, وان محاولة البعض حرف البندقية المقاتلة باتجاه صدور
الابناء والاخوان, مقابل سلطات مادية ومعنوية, انما هو دليل على ابتعاد
هؤلاء عن كل قيم الفروسية ومباديء الشرف التي تمثلها القبيلة, وتشويه
تام لتاريخها النضالي المشرف في حشد القوى وتوحيد الصفوف لمواجهة
المحتل على مدى تاريخ العراق السياسي ولقد نسي هؤلاءبان المحتل دائما
على أستعداد للتخلي عن أعوانه والسائرين بركبه في أي وقت يشاء, وان
تغيير الوجوه التي يتعامل معها هي احدى سياساته, عندما يعتقد بان
المهمة التي استدعت التعامل معهم قد أنتهت.
أن الحملة المسعورة التي تقودها حكومة المنطقة الخضراء في بغداد
المحتلة, المترافقة بدعم أمريكي واسع, للانقضاض على حلفاء الامس من
قوات (الصحوة), انما هي حتمية منطقية في ظل الاصطفافات اللاوطنية التي
انشاها المحتل تحت لافتة (توازن الرعب) مابين المكونات العراقية , فلقد
سعى الامريكان الى قيام معادلة توازن طائفي قومي أثني , وهو ماشرعوا به
من خلال (الصحوات) , ومحاولة أتصالهم بعدد من المحسوبين على فصائل
المقاومة الوطنية , ونتيجة الفشل الامريكي وسقوط مشروعهم في المستنقع
العراقي , ومحاولتهم انهاء مشكلتهم في العراق , فقد احالوا ملف هؤلاء
الى (الحكومة) , لكن الاخيرة فشلت فشلا ذريعا في الامساك بلعبة التوازن
التي أوجدها المحتل , بسبب أجندتها الطائفية , مما جعلها في مواجهة
الاخرين الذين يحملون أجندات طائفية أخرى ,وبذلك يصح القول بان العملية
السياسية قد ولدت وهي تحمل بذور فنائها.
أن تخلي القادة العشائريين (للصحوات) عن العناصر المنظوية في هذا
التشكيل , من خلال تصريحاتهم المساندة (للحكومة) في فعلها الاخير ,
أنما يشير الى مرحلية الهدف الذي أنشات من أجله هذه المجاميع ,
وأنتهازية هؤلاء القادة العشائريين الذين باعوا منتسبيهم في مقابل
الحفاظ على مصالحهم المادية , ولقد أدركت الكثير من عناصر (الصحوات)
منذ أمد بعيد ماسيؤل اليه وضعهم , مما دفعهم الى أعادة الاتصال بمراجهم
الوطنية المقاومة , والعودة الى الفعل المقاوم ضد المحتل واعوانه,
ويقينا بان ألاحداث الاخيرة في منطقة الفضل , والاعتقالات في صفوف
(صحوات) الاعظمية والعامرية والغزالية والدورة, ستكون دافعا لمراجعة
الكثير منهم لمواقفهم المساندة للاحتلال واعوانه , والعودة مجددا الى
احضان المقاومة الوطنية . |