|
||||
|
||||
|
||||
|
||||
البعث والتاريخ |
||||
|
||||
شبكة المنصور |
||||
عز الدين بن حسين القوطالي / تونس | ||||
إنه لمن البديهي أن يكون التاريخ موضوعا ذو أهمية قصوى في البحث والتنقيب والدراسة ذلك أن فهمنا لحاضرنا وإستعدادنا لمستقبلنا يقتضيان أن تكون معرفتنا بالتاريخ وحوادثه ومحطاتة وشخصياته وقوانينه معرفة عميقة شاملة ودقيقة الى أبعد الحدود وأقصاها ؛ فكلما تعمّقنا في دراسة قوانين التاريخ كلما إتضحت صورة المستقبل الذي نصنعه بأيدينا وسواعدنا وعقولنا فنحن في نهاية المطاف نتاج لتاريخنا بسلبياته وإيجابياته ؛ إنتصاراته وإنكساراته ؛ صعوده وهبوطه ؛ ونحن إضافة الى ذلك جزء من التاريخ تاريخ البشرية في تطورها وتقدمها المستمرين الى أن يرث الله الأرض وما عليها .
ولقد تناول العلماء والباحثون والفلاسفة موضوع التاريخ وسبل الإستفادة منه من خلال محاولاتهم المتعددة لتفسيره وإكتشاف القوانين المحركة له والضابطة لتطوره وهذا ما أفرز ما يسمى بفلسفة التاريخ التي شكلت وعاءا للعديد من المدارس والمذاهب والإتجاهات المثالية والمادية والواقعية .
ووسط هذه المدارس المتشعبة والمتعددة والمتناقضة تبرز مدرسة البعث العربي الإشتراكي التي جاءت لتقدم الإجابة القومية التقدمية على جملة التساؤلات الفلسفية المطروحة خصوصا بالنسبة للوطن العربي كفضاء جغرافي يحتضن أمة مجزأة مضطهدة تتجاذبها التيارات وتتكالب عليها المصالح وتتنازعها الإرادات .
ولهذا فإن المهمة الحقيقية التي وضعت على عاتق مدرسة البعث العربي الإشتراكي كانت ولا زالت تحمل صبغة الرسالة الحضارية والتاريخية المتجددة دوما والخلاقة أبدا والإنقلابية بإستمرار وإمتياز والتي تتنزل في إطار تصحيح التناول الدارج للمشكلة التاريخية على الصعيدين النظري والتطبيقي وعلى صعيد الفكر والممارسة وكذلك وهذا هو الأهم على صعيد المنهج المتميز الذي ولد نتيجة للمعاناة والصراع والتفاعل الفكري الخلاق مع التيارات الفلسفية السائدة والتي حاولت تفسير التاريخ العربي من خلال أدوات وقوانين أفرزتها المجتمعات الأجنبية وفق ظروفها التاريخية الخاصة .
ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن مدرسة البعث العربي قد إنزوت بنفسها وإستقلّت برجا عاجيا أو أنها إنطلقت من فراغ بعد إستبعادها للقوانين العامة المحركة للتاريخ البشري ذلك أن مثل هذا القول ينفي عن مدرسة البعث أصالتها وعلميتها وواقعيتها وقابليتها للتفاعل الإيجابي مع بقية المدارس والمذاهب الفلسفية .
وعلى هذا الأساس فإن تناول البعث للمسألة التاريخية كان عبر إدراك القوانين الأساسية المحركة للتاريخ وفهمها ودراستها ومن ثمّة ملاءمتها مع مقتضيات وحقائق الميدان المتعلقة بتطور المجتمع العربي والحضارة العربية ؛ ولعلنا لا نضيف جديدا حين نقول إن أحداث التاريخ لها أسباب تدفعها الى الحدوث وهي لا تحدث صدفة أو من تلقاء نفسها وإنما تنتظم جميعها في إطار مجموعة من القوانين التي نسميها بقوانين التاريخ وهذه القوانين وإن كانت تختلف عن قوانين الطبيعة إلا أنها تعتبر في النهاية قوانين بأتم معنى الكلمة مثلها مثل القوانين العلمية والفيزيائية مع إختلاف الموضوع المستهدف للبحث والدراسة وكما قال الدكتور منيف الرزاز رحمه الله فإن : (( المنطق العلمي في التاريخ مثله مثل المنطق العلمي في الطبيعة ينطلق من دراسة الظواهر التي تقع في ميدانه ثم يربط بينها وبين ظواهر مشابهة ثم يضع قانونا يحدّ هذه الظواهر ويحدد العلاقة فيما بينها وعلى رغم أن التاريخ يخلـــــــو من مختبر مجهز يمكن أن تقاس فيه صحة هذه القوانين فإن تطور التاريخ نفسه يحلّ محلّ هذا المختبر ))-(1)-.
وقد يفهم من هذا القول إن البعث العربي يتبنى النظرية المادية للتاريخ وبصفة خاصة ما يطلق عليه إسم الحتمية التاريخية التي تعتبر أن كل الأحداث التاريخية حدثت وستحدث حسب قوانين وقواعد ميكانيكية لا دخل للإنسان والإرادة الإنسانية فيها ولا سيطرة له عليها بحيث أنه إذا عرفنا جميع قوانين التاريخ فإنه بإمكاننا التعرف مسبقا على مستقبل الظواهر التاريخية وإحتمالات تطورها وزمن حدوثها .
إلاّ أن تصوّر البعث العربي يختلف عن هذا الفهم على الأقلّ من ناحيتين إثنتين : أولاهما أن قوانين التاريخ هي في الخلاصة قوانين نسبية بإعتبارها تدخل ضمن نطاق ما يعرف بالعلوم الإنسانية وهي علوم غير صحيحة ؛ وثانيهما أن قوانين التاريخ ترتبط بالضرورة بالدور المركزي للإنسان والإرادة الإنسانية بمعنى أن للعامل الذاتي دور مهمّ وجوهري يكاد يعادل أو يفوق دور العامل الموضوعي.
ومن هناك فإن التطور التاريخي ليس رهينا فقط بتطور العوامل الموضوعية ّأو ما تسمّيه المدرسة الماركسية الأورثوذكسية بالمادية التاريخية وإنما هو كذلك مرتهن بتطور العوامل الذاتية المتعلقة بالإنسان ودوره في التغيير وبصمته الثابتة في كلّ حدث تاريخي ولهذا فإن نسبية القوانين التاريخية تفضي الى حقيقة مهمة للغاية وهي أن تلك القوانين نفسها في تغير وتطور مستمرين بفعل الإنسان والإرادة الإنسانية فكلما تطور التاريخ وخلقت أوضاع مستحدثة كلما إستنبط الإنسان بالمقابل قوانين جديدة تختلف عن تلك التي كانت سائدة قبل حدوث التطور والتغيير وبالتالي يصبح الإنسان فاعلا ومولدا للحركة التاريخية بعد أن كان منفعلا ومتولدا عنها وهكذا في علاقة جدلية يكون منطلقها ومنتهاها الإنسان كغاية ووسيلة بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر التطور التاريخي ؛ هذا التطور الذي يشكل أساسا لفاعلية الإنسان لأن القوة المعبرة عن حيوية التاريخ تكمن في أولائك الذين يمارسون أدوارهم في المراحل التاريخية المتعاقبة بوعي وحرية وإرادة وإختيار دون أن يكبلوا أنفسهم بقوانين ميكانيكية أو يتّكؤوا على العوامل الموضوعية مكتفين بمراقبة عملية التطور وإنتظار تحققها التلقائي تحت تعلّة ما يسمى بالحتمية التاريخية .
فمن العبث والحالة تلك إلغاء دور الإنسان والعامل الإنساني في التاريخ وإعتباره مجرد أداة ووسيلة منفذة لإرادة أعلى ولقوانين لا تأثير له عليها ؛ ومن التعسّف كذلك جعل الإرادة الإنسانية والفكر الإنساني مجرّد إنعكاس للمعطيات والعوامل المادية وتمثّل لها لأننا بذلك نكون قد أعدمنا أي تأثير أو دور للعوامل الذاتية في التاريخ وجعلنا من هذا الأخير نتاج حتمي لجملة من القوانين الموضوعية المستقلة تماما والمنفصلة عن اّلإنسان ودور الإنسان وفاعلية الإنسان .
ومن هنا يأتي تأكيد مدرسة البعث العربي الإشتراكي على دور العامل الذاتي ودور الفكر في إحداث الإنقلاب التاريخي من خلال التفاعل الحي والجدلي مع المعطيات الموضوعية المتعلقة بكل مرحلة من مراحل تطور المجتمع العربي والحضارة العربية إذ يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله : (( الفكر في حدّ ذاته قوة تاريخية وقوة ثورية فمجرد وضع القضية العربية في صيغة فكرية شاملة كان أول مساهمة في تركيز الحركة الثورية على أسس صلبة )) –(2)- .
وهنا يبرز دور الفكر وتأثيره في إحداث الإنقلاب على مستوى البنى التحتية والفوقية معا ذلك الدور الذي أنكره البعض وإستبعده البعض الآخر بتعلة تأثير البنى التحتية على البنى الفوقية والعوامل الموضوعية على العوامل الذاتية والعامل الإقتصادي بصفة خاصة على بقية العوامل الإجتماعية والثقافية والنفسية والدينية بشكل أصبح معه العامل الإقتصادي محور التاريخ وسبب حركته وتطوره ؛ وهؤلاء الذين يقولون بمبدأ التأثير المطلق للعامل الإقتصادي في إحداث التطور التاريخي هم أبعد ما يكون عن الفهم العلمي المدروس للنظرية الماركسية نفسها وقد كان هؤلاء محلّ إنتقاد " إنجلز'" في رسالته الشهيرة الى " بلوخ " بتاريخ 21/09/1897 حيث قال : ((وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، فان العنصر النهائي المحدد للتاريخ هو انتاج الحياة الواقعية وتجدد انتاجها ، ولم يؤكد ماركس ولا أنا اكثر من ذلك ابدا، ومن هنا فاذا استخدم احد هذا القول ليعني به أن العنصر الاقتصادي هو العنصر المحدد الوحيد ، فانه يحول هذه القضية الي عبارة حمقاء مجرد فارغة لامعني لها...)) -(3)-.
ولقد أثبتت الوقائع التاريخية صدق ما تنبّأ به البعث العربي الإشتراكي من إستحالة الإعتماد على عامل واحد ووحيد في تفسير التطور الحضاري والتغيّر التاريخي ذلك أن الحركة التاريخية كانت ولا زالت تعتمد في تطورها وتقدمها على جملة من العوامل الذاتية والموضوعية المتظافرة والمترابطة والمتشابكة والمتداخلة مع بعضها البعض والخاضعة الى مبدأ التأثير والتأثر المتبادل فلا وجود لعامل منفرد قادر بذاته على أن يحدث الصدمة المؤدية الى التغيّر التاريخي أو التطور من مرحلة الى مرحلة أخرى أعلى وأرقى ؛ بل إن ترابط العوامل المولدة لذلك التطور والتغيّر هي الحقيقة الوحيدة القائمة على مسرح الحياة الإنسانية ؛ وعندما نقول العوامل المولدة للتطور فإن القصد يتجه مباشرة الى دور الفكر والثقافة والدين والإقتصاد والتراث كمجموعة من الحلقات المرتبطة ببعضها البعض في سلسلة واحدة لا تنفصم إلا لتفقد فاعليتها وجدواها ورونقها وقيمتها التي تكمن أصلا في ترابطها الأبدي وتفاعلها الذاتي الجدلي بحيث تتأثر كل حلقة من حلقاتها بالحلقة الأخرى وتستمد منها وجودها وتضمن من خلالها بقاءها .
فالتاريخ إذن هو نتاج للتفاعل الخلاق بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية وبين البنى الفوقية والبنى التحتية وبين الإنسان ومحيطه الطبيعي والإجتماعي والإقتصادي وهو إضافة الى ذلك كلّه سلسلة من الحلقات المترابطة والمراحل المتصلة والعصور المتلاحقة التي تشكل مسرحا للصراع والتطور والتغيير وإرادة البناء والتقدّم ومحاولات الجذب الى الخلف وتعطيل حركة الإنسان بإتجاه إحداث الإنبعاث وهذا ما يجعل من التاريخ حقلا خصبا للبحث والإعتبار والتجربة والإستفادة والإستنباط والخلق والإبداع ضمن قوانين نسبية أرساها الفكر الإنساني والمجهود البشري لتحكم مرحلة تاريخية معينة ثم تترك المجال لولادة قوانين جديدة كلّما مرّ الإنسان بمرحلة جديدة في إطار حركة التطور الجدلي للتاريخ وهذا ما يؤدي بالضرورة الى رفض الحتمية التاريخية كمنهج ونظرية ذلك أن حوادث التاريخ بصفة عامة لا تتكرر ولا تعيد نفسها وكما يقول الأستاذ حازم طالب مشتاق فإنه : (( لا وجود للحتمية التاريخيـــــة إلا حتمية الإرادة الإنسانية العاقلة العاملة المقاتلة فالتاريخ يقوم على الممكنات التي يرسمها الإنسان ..))-(4)-.
ومن هذا المنطلق فإن البعث العربي الإشتراكي لم يدّعي في يوم من الأيام أنه يمتلك الحقيقة المطلقة كما لم يزعم أبدا بأن الإيديولوجية العربية الثورية قد وصلت الى الكمال النظري وأمسكت بكافة خيوط قوانين التاريخ ومحركاته وأغلقت بما وصلت إليه وأمسكت به باب الإجتهاد والتطوير والتكيف والتلاؤم مع خصوصيات المراحل التاريخية المختلفة ؛ إضافة الى ذلك فإن البعث العربي لم يضع نفسه في زاوية مغلقة تحكمها القوالب الجامدة والأحكام المعزولة عن سياقها التاريخي ومعطيات الواقع المعاش لأن من شأن مثل ذلك التوجه أن يجعل من الحركة التاريخية مجرّد صنم أو هيكل عظمي مفتقد الى الروح وعبارة عن فلسفة لا علاقة لها بالواقع وتفاصيله وتناقضاته.
ولهذا حرص منظروا البعث ومفكروه على التنبيه الى خطورة مثل هذا التوجّه من خلال نقد كلّ مظاهر الخضوع الأعمى للتاريخ وحتمياته والجري وراء أوهام الحتمية التاريخية والإنصياع الى قوانين وضعها الإنسان بنفسه ثمّ ما لبث أن أضفى عليها قدسية وهالة وإعتبرها بمثابة القرآن المنزل الذي لا يأتيه الباطل أبدا بحيث أصبحت تلك القوانين تشكّل نوعا من الجبرية والقدرية التي جعلت الإنسان مجردا من الفعل والتأثير في مسرح التطور التاريخي وفي هذا الإطار بالذات يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله : (( إياكم والنظرة الجامدة فكلّ حركة معرّضة لأن تفقد من عفويتها من حريتها من أصالتها وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية أن تصبح صنما)) –(5).
فالفكر التاريخي الحي هو بالضرورة فكر مفتوح واقعي خلاق يرفض الصنمية والأحكام القبلية كما يدين التواكل والتكاسل تحت تعلّة الإلتزام بضرورات الظروف الموضوعية وسيطرة العوامل المادية على تطور ومسار الحركة التاريخية إذ لو تقيّد لينين مثلا بالقوالب الماركسية الجامدة لما نجح أصلا في تفجير الثورة الروسية في 1917 ذلك أن قيام الثورة الإشتراكية في المنهج والنظرية الماركسية مرتبط بتوفر جملة من الشروط الموضوعية وأهمها أن تكون قاعدة إنطلاق الثورة الإشتراكية في المجتمعات الصناعية المتقدمة وليس في مجتمعات زراعية إقطاعية متخلفة كما هو حال روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين وهذا في حد ذاته يقوم دليلا على نسبية القوانين التاريخية كيفما فسرتها المدارس الفكرية المادية وفي الوقت ذاته ينهض دليلا قويا على إدراك البعث العربي الإشتراكي لحقيقة عدم وجود معطيات وقوانين ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان وظرف ومرحلة فلا غرو والحالة تلك أن يؤكد البعث العربي في مختلف أطروحاته الفكرية والنظرية على رفضه جعل التاريخ محكوما بالضررورة المطلقة لقناعته بوجود علاقة جدلية بين الطبيعة والتاريخ والإنسان الحرّ المدرك الواعي لذاته ولقدرته على خلق الحدث التاريخي .
ولعلّ المنطق الجدلي التاريخي الجديد الذي بشر به البعث العربي الإشتراكي يجد أساسه النظري في الملاءمة بين الضرورات الموضوعية والظروف القومية والإنسانية وعلاقة ذلك كله بدور العوامل الذاتية المتمثلة في الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية والقدرة الإنسانية على إحداث التغيير في بنية المجتمع إنطلاقا من الخصوصية القومية والحضارية التي ميزت الأمة العرية عن بقية الأمم في العالم ؛ وهذه الخصوصية في حد ذاتها تجسد النقيض الجدلي للحتمية وللصبغة المطلقة للقوانين التاريخية التي صاغها العقل البشري في صراعه المتواصل مع الطبيعة والظروف الموضوعية ولهذا فإن القانون الوحيد الذي يمكن أن يحكم الحركة التاريخية هو ذلك الذي يعترف بخصوصية التناقضات التي تشقّ المجتمعات المختلفة ويخطأ من يعتقد بأن تلكم التناقضات متماثلة في كلّ المجتمعات الإنسانية لأنه بإعتقاده ذاك يتعسف على التجارب الإنسانية في الشرق والغرب ويتجنى على خصوصيات النضال الإنساني عبر مختلف مراحل التطور التاريخي وكما يقول المفكّر إدوارد كار : (( إن القيم التي يزعم أنها مطلقة وخارجة عن التاريخية هي ذات أصول تاريخية ؛ إن إنبثاق قيمة معينة أو مثل أعلى معين في زمن ما أو مكان ما إنما يجد تفسيره في الشروط التاريخية للمكان والزمان ؛ فالمضمون العملي للمطلقات الإفتراضية مثل المساواة أو الحرية أو العدالة أو القانون يختلف بين حقبة وأخرى أو بين قارة وأخرى ولكلّ جماعة قيمها الخاصة التي تعود بأصولها الى التاريخ وتحمي كل جماعة نفسها في وجه غزو القيم الغريبة أو غير المناسبة ؛ إن المقياس أو القيمة المجردة هي وهم يعادل وهم الفرد المجرّد ..)) –(6)-.
ورغم إنطلاق هذا القول من فكرة الخصوصية القومية والوطنية إلاّ أنه يحمل في طياته معنى إنساني عميق ذلك أن من أهمّ ملامح الخصوصية العربية أنها ذات بعد إنساني تحرري إشتراكي في الوقت ذاته بخلاف الحركات القومية في أوروبا والتي كانت نتاج طبيعي لتطور علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج فجاءت تحمل طابعا بورجوازيا معاد لطموحات وآمال الجماهير الكادحة وهذه الصفات التي إلتصقت بالحركة القومية في أوروبا لا يجوز أن نسقطها على الحركات القومية في العالم الثالث و الحركة القومية العربية بالخصوص ذلك أن المحيط العربي أنتج قوانينه الموضوعية الخاصة التي تختلف جوهريا عن تلك التي أنتجها المحيط الغربي بسبب إختلاف المشكلات التي عانى منها المحيطين سواء على المستوى الإجتماعي أو السياسي أو الإقتصادي أو الثقافي وهو ما أدّى الى إختلاف في النظرة الى تطور الحركة التاريخية ومسارها وأسبابها المباشرة والغير مباشرة والعوامل الدافعة لها والمأثرة فيها .
وهنا لا بد من التذكير بأن مدرسة البعث العربي الإشتراكي كانت سباقة الى التأكيد على الإختلاف الجوهري والبنيوي بين الفلسفة القومية العربية وبقية الفلسفات وبصفة خاصة الفلسفة الماركسية على إعتبار أن تلك الفلسفة قد إنطلقت أساسا من تناقضات العالم الصناعي المتقدم فجاءت حلولها متلائمة الى حدّ ما مع مشكلات حقيقية وتناقضات حقيقية واجهها ذلك العالم وبصورة خاصة في مجتمعاته الأكثر تقدما في حين أن فلسفة الحركة القومية العربية قد جاءت أصلا لحلّ التناقضات المتعلقة بالعالم الثالث عموما والوطن العربي بصفة خاصة وهي تناقضات لم تعرفها المجتمعات الأوروبية ولم تدرك مضمونها وتفاصيلها وحقائقها بعض الحركات السياسية والمدارس الفكرية ذات النظرة الجزئية والحلول الجزئية لقضايا الأمة العربية في المرحلة الراهنة .
ولن نضيف جديدا حين نقول إن خصوصية نضال الأمة العربية تكمن في وحدة المتناقضات التي تشقها وبصفة خاصة تناقضات التجزئة والتخلف والإستغلال والإستعباد ؛ ووحدة الأهداف التي تطمح الى تحقيقها والمتجسدة في شعار الوحدة والحرية والإشتراكية وهذه التناقضات والأهداف تشكل محور العلاقة الجدلية التي تفترض المرور التاريخي القصري بمراحل ثلاث لا بد منها وهي مرحلة الإتصال ومرحلة الإنفصال ومرحلة الوحدة توصلا الى حقيقة تاريخية غاية في الأهمية تفسّر خصوصية المسار التاريخي للأمة العربية بإعتبارها أمة مجزأة مضطهدة ومستغلة وهذا ما يؤدي بالضرورة الى إستنتاج جملة من المنطلقات الفكرية والمرتكزات النظرية المعززة بتجربة الأمة العربية خلال مراحل نضالها المتتالية في سبيل تحقيق أهدافها وطموحاتها القومية ومن أهمّ تلك المنطلقات :
-1- إن المرحلة التاريخية الراهنة للأمة العربية هي مرحلة ثورية عميقة وشاملة . -2- إن الثورة في أمة كادحة مجزأة خاضعة للإحتلال والسيطرة الإستعمارية هي ثورة قومية تحررية إشتراكية . -3- إن أهداف المرحلة التاريخية تتلخص في الوحدة والحرية والإشتراكية . -4- إن إستراتيجية الثورة العربية هي بعث الأمة العربية أي تحقيق المجتمع العربي الديمقراطي الإشتراكي الموحد .
-5- إن حلقات التداخل بين الصراع الطبقي والنضال القومي التحرري والصراع العالمي ضد الإمبريالية هي حلقات جدلية لا إنفصام بينها .
-6- إن أسلوب النضال الشعبي والكفاح المسلح هو الأسلوب المتكافئ مع مسيرة الثورة العربية لتحقيق أهدافها .
-7- إن الإلتزام الخلقي بقيم النضال وبالمستوى الإنساني الرفيع الذي يتطلبه العمل التاريخي هو جزء كامن في الفكرة العربية الثورية وداخل في صميم حركتها ..-(7)- .
ومن خلال هذه المنطلقات يمكن فهم الوضعية التاريخية المميزة للأمة العربية التي وجدت نفسها مجبرة على أن تخوض معارك متعددة وعلى جبهات متنوعة في الوقت ذاته فهي في حالة صراع مع التجزئة والتخلف والإستغلال والغزو الخارجي والأمراض الداخلية ؛ وهي كذلك في حالة دفاع عن الوجود القومي والحضاري والإنساني ضد محاولات الإجتثاث والإبادة والإستئصال بحيث أن معركة المصير العربي أصبحت في حقيقة الأمر معركة حياة أو موت ومعركة وجود وبقاء ومعركة سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية ودينية شاملة وكلية .
ومن هذا المنطلق فإن تاريخ الأمة العربية هو ملخص للصراع الجدلي بين مجموعة العوامل المذكورة أعلاه ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن نستثني أيّا من العوامل المؤثرة في التاريخ تحت أي عنوان كان لأن إستثناء تأثير العامل الفكري أو السياسي أو الإقتصادي أو الثقافي على سبيل المثال من شأنه أن يؤدي الى تشويه الحقيقة التاريخية وتحريف التطور التاريخي لأمة مضطهدة مجزءة مثل الأمة العربية ولذلك قال الشهيد القائد صدام حسين رحمه الله إنه : (( لو حاولنا إقتطاع جزء من جسم الإنسان أو من صورته من أحسن الناس جمالا لنصنع منها إنسانا جديدا أو صورة جديدة لرأينا كيف أن مثل هذه الصورة ستكون بشعة جدا وهو مثال صغير لكي نقول إن كل جزء ما لم يرتبط بأصل متوازن معه بالمقدار وبالكيف لا يمكن أن يكون ذا قيمة كبيرة ومؤثرة ومتناسقة وقادرة على تغيير الواقع ...)) –(8)- .
إن النظرة التاريخية المتوازنة والأقرب الى العلمية هي تلك التي تسند لكل عامل ذاتي كان أم موضوعي دورا في إطار عملية الصراع الجدلي نحو البعث الجديد وفي غير هذه الصورة النموذجية لن يكون للتاريخ معنا أو قيمة أو هدفا ذلك أن القيمة الحقيقية للحركة التاريخية تكمن في قدرتها على إدارة الصراع وفقا لإلتقاء الوعي الإنساني بالظرف الموضوعي المناسب توصلا الى إحداث التغير النوعي على مستوى الفكر والسياسة والإقتصاد والثقافة وبهذا فقط تستطيع الحركة التاريخية أن تقف على ساقيها الإثنتين دون أن تفقد توازنها وقدرتها على السير الطبيعي في إتجاه المستقبل .
فالولادة التاريخية بالنسبة لمدرسة البعث العربي الإشتراكي هي إنبعاث شامل يستهدف ما هو سياسي وإقتصادي وفكري وحضاري ولكي تكون الولادة تاريخية بأتمّ معنى الكلمة فإنه لا بدّ من توفر شروط ومستلزمات رسمت خطوطها ومساراتها الأساسية عبر قوانين – مسلّمات لخّصها منظروا البعث العربي في الحقائق السياسية الميدانية التالية :
-1- إن النهضة الحقيقية تبدأ من الداخل عربية جذرية أصيلة لتنطلق بعدها الى آفاق إنسانية رحبة . -2- لا جيل تاريخي من دون وعي تاريخي لمشكلات المرحلة رفقة قيادة تاريخية تتفوق عليها . -3- لا موقف تاريخي جديد بلا معاناة نضالية تعبر عن مستوى تاريخي جديد في العمل . -4- لا تحوّل تاريخي حضاري جدّي إلاّ بدولة في مستوى هذا التحول . -(9)-.
وليس غريبا أن تكون تلك الولادة رغم صعوبتها في مستوى التحدي التاريخي الذي تواجهه الأمة العربية ؛ فهي ولادة شبه قيصيرية تصحبها الآلام الشديدة وتتخللها المعاناة النضالية التي تشكل الحافز والدافع الى ظهور حركة تاريخية عميقة تمتدّ الى جذور التجزئة والتخلف والإستغلال لتقتلعها من أصولها وتقطع معها سبل التواصل وتنفصل عنها في الزمان والمكان عبر نفيها وتجاوزها وبهذا يتحقق الإنبعاث القومي مخلفا وراءه مرحلة كاملة من الإنحطاط والإغتراب الفكري والحضاري ؛ فالأمة العربية عبر تاريخها الطويل خصعت في تطورها الى نوعين من المسارات كما يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق : الإنقلاب أو النهضة من جهة والإنحطاط والتخلف من جهة ثانية ؛ في الحالة الأولى يتحقق الإنبعاث القومي وتحدث النهضة التي تفيض على العالم لتستحق عن جدارة وبإمتياز صفة النهضة العالمية الإنسانية كما كان الوضع مع ظهور وإنتشار الإسلام كرسالة دينية وحضارية ؛ وفي الحالة الثانية توغل الأمة العربية في سبات عميق وإنحطاط ثقافي وحضاري فتفقد بالنتيجة دورها الخلاق وتأثيرها المبدع وإشعاعها الشامل وتصبح هدفا للإستعباد والإستغلال والإحتلال والتخلّف .
ولذلك فإنه ليس هناك من حلّ وسط في تاريخ الأمة العربية وهذا هو القانون المميز الذي وضع أسسه مفكروا البعث العربي وأثبتت الوقائع التاريخية صدقيته في التعبير عن خصوصية الحركة القومية العربية كحركة تاريخية والإيديولوجية العربية الثورية كتعبير حيّ عن حجم التأثير الذي يلعبه الفكر في تحقيق الإنقلاب الشامل على الأمراض الداخلية (تخلف – فقر – إستغلال – تبعية – أمية – رجعية إلخ ...) والأخطار الخارجية ( إحتلال – غزو – إستيطان – تآمر ... إلخ ) بحيث ينبع الفكر من واقع التخلف والتجزئة والإحتلال ليعبّر عن حقيقة الأمة ونزوعها الدائم الى القيام بدور إيجابي مبدع وبنّاء في الحياة الإنسانية عبر الإنفصال عن الواقع لقلبه وتغييره وإستحضار التاريخ للوثوب نحو المستقبل والتفاعل الجدلي مع الظروف والعوامل الموضوعية بشكل يصبح معه التطبيق والعمل النضالي محكّا للنظرية وعنوانا لعلميتها وواقعيتها وأصالتها فكما يقول الدكتور منيف الرزاز : (( إن الفكر ليس بديلا للنضال بل هاديا ومرشدا له منه ينبع وفيه يصبّ ذلك أن الفعل دون الفكر أعمى والفكر دون الفعـــــل فراغ ..)) –(10)-.
ولكي تكون الحركة التاريخية منسجمة ومتقاطعة مع متطلبات المرحلة وضروراتها فإنه من البديهي إن لم نقل من الحتمي أن تكون أولا وقبل كل شيء حركة واعية مدركة وعاقلة فالوعي والإدراك والعقل هم الذين يقررون متى وكيف تتحقق النقلة النوعية في التاريخ وهم الذين يضعون شروط ووسائل وأهداف الإنبعاث القومي ذلك أن الأعمال التاريخية العظيمة هي التي يخطط لها وتأتي ضمن أهداف وضعها الإنسان سلفا وسعى بالفعل المنظّم الى تحقيقها عبر أسلوب الفعل لا الإنفعال والنضال لا الخضوع والإنقلاب الشامل لا الإصلاح الجزئي .
فالغاية إذن بالنسبة للبعث العربي الإشتراكي هي تحقيق الإنقلاب الشامل في الحياة العربية إذ بدون إنقلاب يشمل مختلف أوجه تلك الحياة لن يكون للتاريخ أيّ معنى ولن تتمكن الأمة العربية من تحقيق النقلة الثورية والحضارية من مرحلة الإنحطاط الى لحظة الإنبعاث ولهذا قال القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله : (( الإنقلاب طريق الى الغاية المنشودة ؛ الى المجتمع الجديد الذي ننشده لكنه ليس طريقا من الطرق وإنما هو الطريق الوحيد ... إننا نناضل ونكافح الأوضاع السياسية والإجتماعية الزائفة الفاسدة لا لمجرد إزالتها وتبديلها بل أيضا لكي تعود للأمة وحدتها في هذا النضال ...)) –(11)-.
وكما أن الإنقلاب هو الغاية فهو الوسيلة كذلك لأن الإنتقال من مرحلة الإنحطاط الى مرحلة الإنبعاث يقتضي إنتهاج أسلوب ثوري تقدمي يحطم أركان التخلف والرجعية والإستبداد ويلغي حدود التجزئة وعقلية التجزئة وأنظمة التجزئة ويجتثّ الأمراض الخطيرة التي تنخر جسم الأمة ويعيد للشعب العربي ثقته في نفسه وقدراته وإمكاناته الكامنة ؛ ولذلك فإن البعث العربي الإشتراكي هو وسيلة الإنقلاب وغايته في الوقت ذاته على الأقلّ في هذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها الأمة العرية إذ أنه أولا بعث للأمة بعد قرون من الإنحطاط والتخلف وهو ثانيا بعث عربي يحمل معه خصوصية لا يشاركه فيها أحد من شعوب الأرض قاطبة وهو ثالثا وأخيرا بعث لقيم العدل والمساواة وإرساء لمجتمع تنتفي فيه عبودية الإنسان للإنسان وإستغلال الإنسان للإنسان من خلال الإشتراكية كحل للمشكلة الإجتماعية ؛ الإشتراكية التي ليست مساواة في الجوع والظلم والإضطهاد والفوضى وإنما هي مساواة في الرفاه والعزّة والكرامة فنحن كما قال الشهيد القائد صدام حسين في إحدى المناسبات : (( لا نريد أن يظل شعبنا جائعا ومتخلفا ليقال إنه شعب إشتراكي وإنما نريده مكتفيا ومرفها وإشتراكيا في الوقت نفسه ...)) –(12)-.
وعلى هذا الأساس فإن المنطق الجدلي التاريخي يقتضي أن يتعهد بالإنقلاب – الإنبعاث كغاية ووسيلة حزب يستجيب لمتطلبات المرحلة التاريخية وللتناقضات الخاصة بالمجتمع العربي والحضارة العربية وينهض بمهمة النضال من أجل تحقيق الأهداف الرسالية المتمثلة في الوحدة والحرية والإشتراكية من خلال سعيه لخلق التفكير والنضال والفعل الثوري المناقض للتجزئة وآثارها السلبية ؛ فحزب الإنقلاب – الإنبعاث أو التنظيم الإنقلابي إما أن يكون قوميا وحدويا أو لا يكون مطلقا لأن قومية التنظيم هي الإستجابة التاريخية والحلّ التاريخي لمشكلة العمل السياسي في أمة مجزأة مقسّمة كالأمة العربية وما قومية التنظيم أو وحدوية الأداة إلاّ تعبير صادق عن الحاجة التاريخية للأمة العربية في إنجاز الإنبعاث القومي وتحقيق النهضة الحضارية وفقا لقانون وحدة المتناقضات ووحدة الأهداف وهذا ما تفطن إليه القائد المؤسس الأستاذ أحمد ميشيل عفلق حين قال : (( إن حزب البعث هو حزب عربي بمعنى لم يتخذه أي حزب آخر فهو لم يكتفي بإقرار الفكرة العربية وإنما يسعى في واقعه عدّا عن فكرته الى أن يكون الحزب العربي الشامل المنتشر في كل الأقطار العربية والذي يعالج المشاكل العربية ككل لا يتجزّأ ..)) –(13)-.
فالغايات القومية الكبرى والعظيمة لا يحققها وفق سياق المنطق التاريخي إلآّ أداة تنظيمية عظيمة ترتقي من حيث الفكر والأسلوب والتوجه والبنية الى مستوى عظمة تلك الأهداف ذات البعد القومي التقدمي إذ أنه من البديهي من الناحيتين النظرية والتطبيقية أن تكون الأداة السياسية متطابقة مع الأهداف الآنية والمرحلية والإستراتيجية للأمة فلا وحدة والحالة تلك بدون وحدويين ولا حرية بدون مناضلين أحرار من أجل الحرية ولا إشتراكية بدون إشتراكيين ؛ هذه هي القاعدة الفكرية والسياسية الأساسية التي تحكم علاقة الوسيلة بالغاية في مجتمع مجزأ متخلف كالمجتمع العربي وهذا هو بالضبط ما يجعل من الأمة العربية متميزة في مسارها التاريخي وحركتها التاريخية بشكل يلتقي فيه ما هو قومي بما هو طبقي وما هو إنساني في الوقت ذاته فتكون الحركة القومية العربية بذلك حركة تقدمية بأتمّ معنى الكلمة ؛ تقدمية في الأهداف والوسائل والغايات وبإعتبارها كذلك فإنها أصبحت تشكّل النقيض الموضوعي للنظريات العرجاء التي تنظر الى الوطن العربي من منظار قطري وإقليمي فتكتفي برؤية جانب من تناقضات المجتمع العربي دون أن تكلف نفسها عناء تناول المشكلات والتناقضات في إطارها الكلي الشامل .
وإذا كان لا بدّ للأداة السياسية المحققة للإنبعاث القومي من أن تكون في مستوى الغايات العظيمة والأهداف السامية فإنه لا بدّ لها كذلك أن تستوعب بعلمية وثورية في الوقت ذاته حركة التاريخ من خلال إدراك الأبعاد الزمنية وحسن التعامل معها وإتخاذ التدابير اللازمة للتموضع في قلب التاريخ لا خارجه أو على أطرافه وحواشيه .
ولن يتحقق الإنسجام بين الحركة الثورية وحركة التاريخ إلاّ عبر الفهم الصحيح للعلاقة الجدلية القائمة بين الأزمنة الثلاث : الماضي والحاضر والمستقبل ؛ ولهذا فإن البعث العربي الإشتراكي كان سبّاقا الى رفض منطق القطيعة في التعامل مع التاريخ العربي تحت تعلّة التمسّك بالتراث على حساب المعاصرة أو الحداثة على حساب الأصالة ذلك أن الموقف المقتطع لجزء من التاريخ العربي هو بالضرورة موقف لا تاريخي كما أن النظرة المقصية للبعد الزمني هي بالنتيجة نظرة غير مستوعبة للحركة التاريخية وأكثر من ذلك هي نظرة خارجة عن التاريخ ذاته فحركة التاريخ قد تبطئ وقد تتسارع ولكنها في نهاية المطاف لن تتوقف أبدا .
ومن هنا نخلص الى القول بأن جدلية الأزمنة الثلاث وإستيعاب وحدتها في إطار الحركة التاريخية هو أهمّ مميزات فلسفة التاريخ في نظرية البعث العربي الإشتراكي ذلك أن النظرة الشمولية للتطوّر التاريخي وفلسفة التاريخ تقتضي الربط المحكم بين الماضي كوحدة زمنية سابقة توفّرت فيها شروط الإنبعاث القومي والحاضر كمرحلة إنتقالية يتخللها تكثيف النضال الفكري والسياسي توصلا الى المستقبل كهدف للحركة الإنبعاثية كلّ ذلك في إطار حركة جدلية تتفاعل عبرها الأزمنة الثلاث أخذا وعطاءا وتأثيرا وتأثرا بشكل يجعل من الحركة التاريخية بمثابة المختبر الذي تتفاعل فيه العناصر الزمنية مع العناصر المكانية مضاف إليها العنصر البشري كعامل محرّك للتاريخ .
تلك إذن فلسفة التاريخ عند البعث العربي الإشتراكي وذلك هو منطق التاريخ كما لخصه منظّروا البعث ومفكروه وفي مقدّمتهم الدكتور منبف الرزاز رحمه الله الذي قال : (( إن الأمة العربية لن تتمكن من مواجهة التحديات مواجهة حقيقية وتاريخية وفعالة إلاّ إذا إستندت الى فهم عميق لمعنى هذه التحديات وموضعها من منطق التاريخ ولن تتمكن من فهم منطق التاريخ إلاّ إذا ربطته بفهم محيط بالعالم والقوانين المسيطرة عليه لأن التاريخ هو حياة هذا العالم ؛ كل هذا يصبح أكثر ضرورة وأكثر حتمية حين تريد الأمة أن تخطط أسلوب ردها على هذه التحديات لأن الردّ نفسه لا بدّ أن يستند أيضا الى منطق التاريخ الذي هو أساس منطق العالم كله ..))-(14)-.
الهوامش : -1/ الدكتور منيف الرزاز : فلسفة الحركة القومية العربية : الخلفية الفلسفية : المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1978 – طبعة ثانية منقحة – صفحة 147. -2/ القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق : في سبيل البعث . -3/ جاء في رسالة إنجلز الى بلوخ ما يلي : ((إنّ العامل المحدّد للتّاريخ، حسب التّصوّر المادّي له، هو، في نهاية الأمر، إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الواقعيّة. ولم نقرّ، لا أنا ولا ماركس، بشيء أكثر من ذلك. فإذا تعسّف أحدهم على هذ الإقرار ليقوّله أنّ العامل الإقتصادي هو المحدّد الوحيد فإنّه يحوّله إلى جملة مجرّدة ولا معقولة. إنّ الوضع الإقتصادي هوّ الأساس لكنّ مختلف عناصر البنية الفوقيّة – الأشكال السّياسيّة للصّراع الطّبقي ونتائجها- والمؤسّسات المنشأة عند كسب المعركة من قبل الطّبقة المنتصرة، ..إلخ. – الأشكال القضائيّة، وحتّى مظاهر كلّ تلك النّزاعات الواقعيّة في ذهن المشاركين فيها، والنّظريّات السّياسيّة والقضائيّة والفلسفيّة والتّصوّرات الدّينيّة وتطوّراتها اللاّحقة لتكوّن أنساقا دوغمائيّة. تمارس أيضا فعلها على مسار الصّراعات التّاريخيّة وتحدّد في كثير من الحالات صورة هذه الصّراعات أكثر من غيرها. إنّ هنالك فعل وردّ فعل لكلّ هذه العوامل التي بداخلها تشقّ الحركة الإقتصاديّة طريقها كضرورة داخل مجموعة لانهائيّة من الصّدف (أي أشياء أو أحداث لها علاقات داخليّة فيما بينها بعيدة أو صعبة التّحديد بشكل يمكن معه أن نعتبرها غير موجودة وأن نهملها. إنّنا نصنع تاريخنا بأنفسنا لكنّ أولا بالإعتماد على منطلقات وفي ظروف محدّدة جيّدا. إنّ الظّروف الإقتصاديّة بين جميع الظّروف، هيّ العوامل المحدّدة في نهاية الأمر. لكنّ الظّروف السّياسيّة، إلخ. بل حتّى التّقاليد التي تسكن أذهان النّاس تلعب هيّ أيضا دورا رغم أنّه ليس بالدّور الفاصل. لكن ثانيا، يتشكّل التّاريخ بشكل يجعل النّتيجة النّهائيّة تنتج دائما من صراعات عدد كبير من الإرادات الفرديّة، هذه الإرادات التي تتشكّل كلّ واحدة منها كما هيّ بجمهرة من الظّروف الجزئيّة. هناك إذن عدد لا حصر له من القوى التي تعاكس كلّ واحدة منها الأخرى، عدد لا نهائي من متوازيات الأضلاع للقوى، منها تصدر نتيجة – الحدث التّاريخي- يمكن أن ينظر إليها، بدورها كنتيجة لقوّة تفعل ككلّ، بشكل لا واع وأعمى. ذلك أنّ ما يريده كلّ فرد يُمنع من قبل فرد آخر وما ينتج عن ذلك هو أمر لم يرده أيّ كان. بهذه الطريقة يسير التّاريخ إلى يومنا هذا على شاكلة مسار للطّبيعة وهو خاضع أيضا، إجمالا، إلى نفس قوانين الحركة.)).. -4/ الأستاذ حازم طالب مشتاق : من التاريخ الى فلسفة التاريخ : بحث منشور بمجلة آفاق عربية العدد 3 لسنة 1984 صفحة 39/40 . -5/ القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق : نظرتنا الحية الى الحزب : في سبيل البعث صفحة 43/46. -6/ إدوارد كار : ما هو التاريخ : المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1986 – طبعة ثالثة – صفحة 59/60. -7/ الدكتور إلياس فرح : تطور الإيديولوجية العربية الثورية : الفكر القومي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1979 – طبعة سابعة- صفحة 36. -8/ الشهيد القائد صدام حسين : حول آفاق التربية وإستراتيجيتها – حديث في المؤتمر الفكري الأول للتربويين العرب بغداد 7/15 حزيران 1975. -9/ الدكتور إلياس فرح : قراءة منهجية في كتاب في سبيل البعث : الجزء الأول بغداد 1981 – صفحة 94/95. -10/ الدكتور منيف الرزاز : مصدر سابق : صفحة 9. -11/ القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق : الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية : في سبيل البعث : طبعة ثالثة – صفحة 173/174. -12/ الشهيد القائد صدام حسين : الثورة والنظرة الجديدة : دار الحرية للطباعة والنشر بغداد 1981 : صفحة 26. -13/ بيان بتاريخ 28 كانون الثاني 1947 : نضال البعث : الجزء الأول : دار الطليعة بيروت – صفحة 159/160. -14/ الدكتور منيف الرزاز : مصدر سابق : صفحة 9. |
||||
كيفية طباعة المقال | ||||
شبكة المنصور |
||||
|
||||