أعداد ضحايا الحرب في العراق ما تزال موضع جدل، حتى بعد مضي ست سنوات
على الغزو.
التقديرات التي تقدمها جمعيات غربية تزعم انها "مستقلة" تقول ان أعداد
الضحايا يتراوح بين 100 و150 ألف عراقي. والمؤسسات الرسمية العراقية
تكرر هذا الرقم لانه ليس من مصلحتها الكشف عن أبعاد المجزرة التي
خاضتها قوات التحالف والمليشيات الطائفية المتعاونة معها ضد ما لا يحصى
من الأبرياء. في حين أن التقديرات التي اعتمدها جامعة جون هوبكنز
الاميركية عام 2006 لإحصاء عدد الضحايا قالت أن كل عام من أعوام الغزو
أوقع ما بين 200 و250 ألف ضحية. وهو ما يعني أن أعداد الضحايا يبلغ
اليوم ما بين 1.2 مليون و1.5 مليون قتيل.
صحيح أن موجات أعمال القتل ظلت تتراوح بين صعود وهبوط، إلا أنها ظلت
مستمرة. والأهم في هذه الموجات هو أن أجواء الحقد والكراهية والانتقام
ما تزال هي القوة الدافعة الرئيسية وراء تلك الأعمال.
هذه الأجواء لم تتغير. وهي تُمارس من قبل قوات الاحتلال والمليشيات
الطائفية التابعة لها لأسباب مختلفة، إبتداءً من الثأر لمقتل جنود، الى
الثأر لانتهاكات سابقة، الى الأحقاد الطائفية التي تشكل الأداة
الرئيسية لكسب المحازبين لصالح أحزاب السلطة، الى الدفاع عن المصالح
الجديدة لطبقة من الطفيليين والرعاع، الى أعمال الانتقام الشخصي، الى
الخوف من انتقام الضحايا بما يدفع الى التضحية بالمزيد منهم، الى
التعويض عن الحرمان ومشاعر النقص.
وتدفع هذه الأجواء الضحايا الى دائرة الانتقام المضاد أيضا.
هكذا تحول العراق الى حمام دم حقيقي وفعلي. حمام احمر تسيل الدماء على
جدرانه وسقفه وأرضيته؛ صندوق مغلق يبطش فيه الاحتلال ومليشياته
بالأبرياء، لأن أعمال القتل الجماعي هي الوسيلة الوحيدة للنجاة.
وهي أجواء عامة للغاية، يشترك فيها كل المسؤولين عن الاحتلال، وكل
المشاركين في عمليته السياسية، ويمكن ملاحظتها في تصريحاتهم وتصرفاتهم
والتوترات التي يثيرونها واعمال المحاصصة التي بنوا عليها نظامهم
الجديد.
والدم ما يزال يسيل على جدران الحمام وسقفه وأرضيته، وبالكاد يمكن وقف
المجزرة. فهي اكتسبت آليات وقوة دفع قائمة بذاتها. ولم تظهر حتى الآن،
لا في السياسية ولا في السلوك ولا في تقسيم المصالح، آليات أو قوة دفع
جديدة تبرر الاعتقاد انه صار بالإمكان الحد من المجزرة.
ومن تفجيرات انتقامية، الى غارات وحشية، الى أعمال قتل معلنة وغير
معلنة، فان العراقيين صاروا يسبحون بدمائهم بالفعل. وتحت مجرى الدماء
لا يجدون إلا الجثث.
لدى محاكمته في قضية اغتصاب وقتل الفتاة عبير قاسم الجنابي، قدم الجندي
الاميركي السابق ستيفن غرين صورة لـ"دوامة من الجنون" كانت هي التي
دفعته الى ارتكاب جرائمه.
محامي غرين هو الذي قدم هذا الوصف، ولكنه لم ينتبه انه وهو يدافع عن
موكله، كان في الواقع يقدم وصفا للحرب برمتها، ولدوامة الجنون التي كان
البيت الأبيض يقودها للانتقام من الأبرياء العراقيين لضحايا 11 سبتمبر،
وانتقاما من القصف العراقي لإسرائيل.
الرغبة بالانتقام كانت هي الدافع الأول للحرب، لا البحث عن أسلحة دمار
شامل. والقتل بلا حدود، وبلا توقف، كان هو العنصر "الشافي" الوحيد لتلك
الرغبة في نفوس مليئة بالحقد والكراهية العمياء.
ولئن كان الحقد هو كل القصة، فقد تم إلباسها لباس المصالح، وأضيفت
عليها دوافع أيديولوجية. وأبعد من ذلك، تم رفعها الى السماء أيضا
بالقول أن الولايات المتحدة تؤدي رسالة ربانية، وان الله نفسه كان
يتحدث مع جورج بوش ليقول له: "جورج، اذهب لتزيل الديكتاتورية من
العراق".
وكلما كان التصعيد الأيديولوجي يرتفع الى أعلى أكثر، كلما كان البطش
بدماء الأبرياء يتصاعد أكثر. وعندما أصبحت المهمة ربانية، كان ذلك يعني
من الناحية العملية قتلا بلا حدود، وكان كل جندي أميركي يدور في "دوامة
من الجنون"، حتى صار كل فرد من أفراد الجيش الاميركي هو ستيفن غرين، من
ديفيد بيترايوس الى ديك تشيني، ومن بول بريمر الى جورج بوش، ومن أياد
علاوي الى نوري المالكي. الكل في الحمام. والكل يبطش. والكل مؤمن بان
القتل هو سبيله الوحيد للتشافي، وانه إذ يسفك دماء الأبرياء، فان عذره
معه، لانه يؤدي مهمة رسالية، وان الله معه، حتى ليصبح مرأى الدماء
والجثث سيمفونية تدفع الى الانتشاء. وذلك مثلما كان اغتصاب فتاة وحرق
جثتها وقتل أمها وأبوها وأخوتها أمرا مثيرا للنشوة لدى الجندي غرين.
والجندي غرين، هو نفسه الجندي وايت، وبراون، وبلاك والحكيم وعلاوي
والمالكي. فالبطش هو مصدر النشوة، ومجرى الدماء على جدران الحمام هو
الرسالة.
غرين قال للمحكمة انه قاد عمليات القتل لانه كان مهتما فقط بقتل
العراقيين "كل الوقت وبلا توقف". وكشف انه تفاخر خلال حفل شواء بعد
ارتكاب الجريمة بأن ما فعل كان "عملا عظيما"، وانه "بث الرعب في
النفوس".
وفي المحكمة خاطب محامي الدفاع المحلفين بالقول "يجب ان تفهموا الخلفية
التي أدت الى دوامة مثالية من الجنون". وقال "لم يكن بوسعهم (الجنود)
ان يعرفوا ما اذا كان سكان القرية والمزارعون من المتمردين
والارهابيين".
جورج بوش نفسه لم يكن يعرف أيضا ما إذا كان العراق يملك أسلحة دمار
شامل ام لا. ولم يكن ديفيد بيترايوس ولا أسلافه في المهمة الإلهية،
قادرا على التمييز بين المدنيين والإرهابيين. والدوامة المثالية للجنون
كانت دوامة أميركية بريطانية إيرانية عامة للانتقام من بلد قدم نفسه
كتحد استراتيجي خطير، وكقوة قادرة على أن تفرض نفسها في المنطقة.
والغزو، ما يزال الى يومنا هذا، "عملا عظيما" من وجهة نظر الشركاء في
التحالف. و"بث الرعب في النفوس" كان بالأحرى استراتيجية معلنة للحرب
عنوانها الرسمي: "الصدمة والترويع".
على هذا الأساس صار غرين هو نفسه وايت، وبراون، وبلاك وبوش وبلير
ورامسفيلد وغيتس.
الآن، يحاول الدفاع أن يثبت إن جرائم موكله وقعت لانه كان يعاني من
"اضطرابات في الشخصية".
وسيأتي الوقت لتعترف الولايات المتحدة انها كانت مهتمة فقط بقتل
العراقيين "كل الوقت وبلا توقف"، وانها كانت ترسل جنودها ومرتزقتها الى
العراق لتمارس "الصدمة والترويع" لانها كانت تعاني من إضطرابات في
الشخصية.
وها هم ما يزال يقتلون ويحرقون ويدمرون ويغتصبون ويعذبون ويغرقون في
حمام الدم، لانهم يعتقدون انهم يقومون بعمل عظيم.
|