يمكن لأطباء
الملوك والرؤساء ان يقدموا ادبا رفيعا عن ذكرياتهم معهم دون التجاوز
على اخلاقيات المهنة.
من المذكرات المنشورة الرائعة ما كتبه الطبيب الانكليزي سندرسن باشا
عن العائلة المالكة العراقية بحكم موقعه بعنوان "عشرة ألاف ليلة وليلة
في العراق" وقد تطرق هذا الطبيب، الذي ابلى دورا كبيرا وحسنا في
التأسيس لمهنة الطب العراقي المعاصر في العراق من خلال إنشاء المؤسسات
الصحية العلاجية وادارة كلية الطب العراقية لفترة طويلة. وقد صدرت هذه
المذكرات بعد سقوط النظام الملكي في العراق بفترة وجيزة وتمتع بقراءتها
باللغة الانكليزية وقراءة ترجمتها باللغة العربية (سليم طه التكريتي)
واستفاد منها معظم اطباء العراق بما تضمنته من معلومات تاريخية
واستعراض ممتع لتعامل طبي وإداري ومعايشة مع الملوك في افراحهم وسفرهم
ودعواتهم وامراضهم ومآسيهم واحداثهم.
كما كتب الدكتور محمد حسن سلمان كتابا اورد فيه الاحداث السياسية وبعضا
من قصص حياة طبيب في العهد الملكي. وكتبت الدكتورة سانحة امين زكي
كتابا عن طفولتها ونشاتها وتطرقت للخصوصيات الاجتماعية للمجتمع العراقي
في اوائل تكوين الدولة العراقية ودراستها كفتاة في المراحل الدراسية
المختلفة مع تفاصيل دراستها واختها الدكتورة لمعان امين زكي وتخرجها من
الكلية الطبية ومن ثم خروجها من العراق وحياتها كطبيبة في الخارج. وكتب
الاستاذ المرحوم سالم الدملوجي مذكراته عن الكلية وتطورها ايام دراسته
فيها وتضمنت خاتمة كتبتها الاستاذة لمعان امين زكي. وكتب المرحوم
الاستاذ الدكتور كمال السامرائي مذكراته بأربعة اجزاء متسلسلة ابتدأها
من فترة الطفولة في سامراء والحلة واورد فيها اروع واحرج ما واجهه خلال
سفرته الطويلة في عالم الطب وقصة معالجته ومتابعته للملكة عالية في قصر
الزهور وملاحظاته عن الملوك والامراء والاميرات ومعالجته لهم باسلوب
رائع وحرص وتقيد بسلوك المهنة.
ويكاد القارئ لكل هذه المذكرات يخرج باستنتاج واحد مفاده انها تعد
جميعا سفرا ادبيا يجد القارئ فيها متعة ادبية رائعة وعبراً ذوات مغزىً
ثري ومفيد.
تحدث الكثير عن اصداء الكتاب الذي اصدره الدكتور علاء بشير بعنوان "كنت
طبيبا لصدام" بعد الغزو بفترة قصيرة رافقت الاحداث الدامية التي اعقبت
الاحتلال حين كان الشارع العراقي يعج بإعلام ناقم وفاضح وملفت للأنظار
حول الرئيس العراقي وعائلته حين انتشرت الاقراص الحاسوبية التافهة
والمعيبة. وعندما ظهر هذا الكتاب وبطريقة عاجلة عد واحدا من وسائل
التشهير السائدة في الشارع في تلك الأيام اضافة لما رافق طبعه باكثر من
لغة من اشارات الى دوافع مادية مغرية كما اشيع في حينه. كل ذلك اضافة
الى حقيقة اخرى لا تقبل الشك او الانكار وهي ان الرئيس الراحل صدام
حسين تعامل مع الدكتور علاء بشير ليس على اساس علاقة طبيب بمريض فقط بل
انه تعامل معه بصفة معجب وباقتناع كاستشاري ومستمع ومشجع وراع لكفاءة
مهنية وفنية متميزة. كل هذه بغض النظر عن المطبات التي سقط فيها المؤلف
في طريقة كتابة الفصول والاحداث والتي تجاوز فيها حتى على اخلاقيات
المهنة بحيث ادت الى نتيجة وحقيقة ثابتة هي ان إعداد وطبع وترجمة هذا
الكتاب قد جرد مؤلفه من هالة علمية وفنية كانت تحيط به واسقطت من بين
يديه الفنية والبارعة ومن اعذاره الواهمة امكانية التبرير او الترجيح
لما أعده أسوأ انجاز في حياته، ويخلو الكتاب من كل ابداعية للكتابة
المشجعة على القراءة. وقد كان ممكنا ان يكون الكتاب بحكم علاقة الدكتور
علاء الوثيقة مع الرئيس صدام مخطوطة بلاغية وادبية من ابدع النتاج في
موضوع كتابة مذكرات الاطباء بأسلوب ممتع غير ان فقدان التجربة وظروف
النشر وطموح الكاتب الذي لا يبرر بسرد قصص مختلقه للتبجح بمواقف غير
حقيقية والكتابة عن تاريخ فترة زمنية لا دور له فيها وتجاوز ذلك الى حد
نكران الجميل والمس بثوابت السلوك المهني واخلاقياته، كل ذلك جرد هذا
الكتاب من كل قيمة فنية او مهنية او سياسية بل لعله الاسوأ اذ ما قورن
بكتابات الاطباء الذين سبقوه او سيلحقون به في هذا المضمار.
كتب لي احد الزملاء رسالة يخبرني فيها ان الاستاذ د. فرحان باقر قد
اصدر كتابا سجل فيه مذكراته كطبيب ومستشار طبي لحكام العراق بعد سقوط
النظام الملكي وبعنوان "حكيم الحكام من قاسم الى صدام" وقد استبشرت
بهذا النبأ مع ان الاستاذ فرحان لم يكن قد اعلمني بهذا المشروع ولا
بنيته اصدار هذه المذكرات كوني على تواصل معه والتقيه بين فترة واخرى
بعد فترة الاحتلال وسبق وان عممت ما كتبه من رأي بشان الاتفاقية
الامنية في حينها.
المعروف عن الاستاذ الدكتور فرحان باقر (اطال الله بعمره) انه اكاديمي
وباحث رائع ومهني متمرس وجيد ومقنع بالحديث والالقاء والخطاب واجتماعي
بلباس غطرسة الكلام والحديث؛ لكنه قليل الكتابة بالعربية ولم اقرأ له
نشرية أو مؤلفا بها ومع ذلك ولانه حضي بوجاهة الحكام والمسؤولين لغاية
اليوم الذي غادر فيه العراق وعدَّ من مدلليهم ولقي احترامهم وثقتهم ومن
بين قليل من الاطباء منهم المرحوم عزيز محمود شكري ويوسف النعمان
واحسان البحراني وزهير البحراني ومحمد علي خليل وابراهيم الحيالي كان
الاستاذ فرحان باقر يعد على قمة قائمتهم وهم حقيقة اهل لهذا التقييم
المهني والعلمي الصرف، لهذه الاسباب جميعا وبسبب حجم ما يملكه ويحمله
من ذكريات واحداث توقعت ان يكون الاستاذ فرحان باقر من أبرز الذين
سيسطرُّون للاجيال مذكرات طبيب حضيَّ بهذه المواصفات وثقة الحكام لفترة
غير قصيرة مليئة بالاحداث والانجازات وتوقعت ان يكتب شيئا عن دراسته
للطب وممارسته وشيئا ابرز عن انجازاته وتدريساته وعن زملائه وطلابه
ومحبيه ومن ثم عن تربعه على كرسي الطب الباطني وعلاقاته بالمسؤولين
والوزراء والرؤساء وتوقعت ان يكون ما يكتبه الاستاذ فرحان باقر قمة ما
انجز عمليا ومهنيا وأكاديميا خلال مرحلة تجاوزت السبعين عاما وان يبادر
باستشارة محبيه وزملائه وهم كثر في كل مجالات الاختصاص قبل ان نفاجأ
بكتابه الذي لم يعكس من شخصيته وسيرته الا سنوات الامتحان والغربة وما
خلفت من احقاد وتنهدات. لقد اغترب فرحان باقر بعد خروجه من العراق فترة
طويلة ولم يزر العراق بعدها الا مرة واحدة في احد مؤتمرات المغتربين
وكان ذلك بعد اكثر من عشر سنوات والتقيته بحديث خاص اذكر جيدا ان
الدكتور المرحوم جعفر الكويتي والدكتور فاروق العزاوي كانا معي فيه في
نادي العلوية وتكلمنا عن العودة الى العراق ومزاولة التدريس والمهنة
وتحدثنا مع بعض الزملاء بعدها معه في لقائنا في ابي ظبي وفي لندن في
ذات الاطار وكنت اعتبر ان اغتراب الاستاذ فرحان في اميركا لا يحسب
انجازا ولم يحقق له مجدا كالذي كان ينتظر عودته وعودة نشاطه العلمي
والمهني في العراق.
بروح الاغتراب المضني الذي لم يوفق به الاستاذ فرحان وبروح من
العتاب والامتحان كتب الاستاذ عن احداث سياسية لا دخل له فيها ولا فعل
باستثناء احداث بسيطة ونسى ان يكتب لنا عن دراسته وتدريسه للطب وعن
الكلية الطبية وعن الدراسات العليا والمؤتمرات العلمية والجمعيات وعن
زملائه ومحبيه وطلابه وعن شموخه وحياة العز والرفاه وعن مدينة الطب
ومستشفى ابن سينا والكثير الكثير بعيدا عن صراعات السياسة وحادثة خان
النص وقصة النعلبند! وزيارات بغداد بعد الاحتلال، كان عليه ان يكتب عن
مسيرة الطب قي العراق بعهود هؤلاء الرؤساء الذين عايشهم وعالجهم فاحبوه
وقدروه جزاء لخدمته الجليلة وعلمه الرصين ومقالب هؤلاء الحكام به
ومقالبه بهم من حوادث وقصص وانجازات وانتكاسات. لقد خرج محتوى الكتاب
عن فحوى عنوانه وبرز الدكتور فرحان باقر كمؤرخ سياسي منحاز بسرد احداث
وتحولات خيبت آمال محبيه وطلابه وزملائه فيما كانوا ينتظرون منه من
ابداع وتألق وهو الحكيم بتصريف الامور وتدبيرها والتعايش معها بالرغم
من التعقيد والتغيير. املي ان يعيد الاستاذ فرحان النظر ويكتب مذكرات
عن مسيرته ومسيرة الطب في العراق لفترة عايشها وكان لاعبا اساسيا من
موجهيها وروادها بما يتمناه له محبوه وزملاؤه من تتويج لبواكير
انجازاته وتأطير لعلميته ورصانته. وللتاريخ لابد لي من الاشادة بموقفه
الواضح من الاتفاقية العراقية الاميركية والذي كان من اول المبادرين
للتنبيه الى مخاطرها ومطبات الوقوع بمضامين نصوصها.
ولاني على اطلاع من ان هناك اكثر من جهد لكتابة مذكرات من قبل العديد
من زملائنا واساتذتنا الاطباء لفترة مسيرة الطب خلال القرن المنصرم
ولكي تكون فكرة كتابة هذه المقالة مثمرة والتي ارجو ان لا يكون محتواها
مفسدا لود احمله للجميع اود ان ان اذكر ان كتابة المذكرات فن ادبي
واسلوب ممتع ومصداقية بناءة وهدف نبيل لنقل المعلومة والحقيقة وحين
تكتب هذه المذكرات من قبل اطباء وشخصيات علمية فان طبيعة مهنة الطب
ورصانة العالم تتطلب الالتزام الدقيق بنقل المعلومة والحفاظ على
اخلاقية المهنة وثوابتها. لقد حقق الطب العراقي المعاصر انجازات وخطوات
ونتائج جبارة بجهود عراقية ساهم بها اطباء عراقيون وغيرهم وساسة مخلصون
ووطنيون منذ ان تصدوا للجهل والامية والتخلف وصمموا على فتح الكلية
الطبية في منتصف العقد الثالث من القرن المنصرم وانتهاء بالتوسع الشامل
في التعليم الطبي الاولي والتخصصي وبما انجز من مؤسسات وصروح تخصصية في
الطب الوقائي والعلاجي العام والتخصصي وانا لا انكر الويلات التي
الحقتها بعض الاحداث السياسية على المسيرة الطبية العراقية لكنني لا
انكر ايضا ما اضفته بعض القيادات السياسية والحكومات العراقية السالفة
من انجازات لهذه المسيرة والتي بفضلها كان الشعب العراقي يحظى بأفضل
الخدمات على ايادي وخبرة اطبائه ونطاسيه والذين يواجهون اليوم اكبر
حملة اقصاء وتهجير وفقا لمخطط عدواني رهيب يستهدف افراغ العراق من
اطبائه وعلمائه كجزء من مخطط اضعافه وتقسيمه واستنزاف ثرواته.
|