بينما تستعد وسائل الإعلام العربية والدولية لتسليط الأضواء على
المصالحة العربية ، إن تحققت أو لم تتحقق ، عندما تنعقد القمة العربية
العادية الحادية والعشرين في العاصمة القطرية الدوحة اليوم وغدا ، أو
على حضور الرئيس السوداني عمر البشير أو عدم حضوره لهذه القمة ، أو على
دعوة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أو عدم دعوته لحضورها ، أو على
ترقب ما إذا كان بيانها الختامي سيجدد أو لا يجدد أو يجدد بسقف زمني
الإجماع العربي على "مبادرة السلام العربية" كإطار سيؤشر سلبا أو
إيجابا إلى نجاح أو فشل حوار القاهرة الفلسطيني المقرر استئنافه أوائل
نيسان / أبريل المقبل ، إلى غير ذلك من التوقعات التي يمكن أن تكون
عناوين إعلامية جاذبة ، فإن العنوان الرئيسي الذي لا يحظى حتى الآن بما
يستحقه من اهتمام هو توجه عربي لا تنقصه الأدلة للاعتراف العربي بالأمر
الواقع الناجم عن الاحتلال الأميركي للعراق وإلى منحه شرعية القمة
العربية .
ولا يسع المراقب المتابع لتعليقات المقاومة العراقية (القيادة العليا
للجهاد والتحرير والقيادة العليا للجهاد والتغيير) والمعارضة السياسية
(القيادتان القطرية والقومية لحزب البعث وهيئة علماء المسلمين في
العراق) إلا أن يلفت انتباهه مدى حرصهم جميعا على نجاح المصالحة
العربية ونجاح القمة الحادية والعشرين ، وإلا أن يلاحظ دماثة في لغة
خطابهم لم تمنعهم من عرض وجهة نظرهم بوضوح لا لبس فيه بأن المقاومة هي
الممثل الشرعي للشعب العراقي وهي حاضنة الهوية العربية الإسلامية في
العراق وبالتالي فإنها المدخل الموضوعي لعودة العراقيين إلى أمتهم
ولاستئناف الدور العراقي المؤسس لجامعة الدول العربية وبأن الاعتراف
العربي بالأمر الواقع الذي لم ينجح الاحتلال بعد في فرضه بفضل المقاومة
هو اصطفاف متسرع سابق لأوانه إلى جانب النظام المنبثق عن الاحتلال
والموالي له وانحياز ضد المقاومة العراقية ستكون نتائجه عكسية على
الأمن القومي العربي المفترض أن الجامعة العربية رافعة له وعلى الأمن
الوطني لدولها الأعضاء .
وربما كان الخبر الذي أذيع ثم نفي عن زيارة كان الرئيس الفلسطيني
محمود عباس يزمع القيام بها لبغداد عشية انعقاد القمة مؤشرا رمزيا إلى
"الواقعية" التي ستحكم التوجه العام للقادة العرب عندما يجتمعون في
الدوحة تحت عنوان "المصالحة" القومية والفلسطينية والعراقية والصومالية
والسودانية والموريتانية ، إلخ. ، وإذا كان التوجه نحو المصالحة ضرورة
تحظى بالتأييد الشعبي وتقتضيها رسميا الحاجة الملحة إلى ملئ الفراغ
الناجم عن الانقسامات العربية المتكاثرة كالفطر حتى لا تملأ القوى
الدولية والإقليمية هذا الفراغ ، فإن "الواقعية" التي تريد تحقيق أي
مصالحة كهذه بالبناء على الاعتراف بالأمر الواقع الناجم عن الاحتلال أو
الانتهاك الأجنبي السافر لل"سيادات" الوطنية هي مصالحة ، إن تحققت ،
ستكون قصيرة العمر وذات نتائج عكسية .
وإذا كانت زيارة عباس لبغداد لم تتم ، سواء لإلغائها أو تأجيلها ، فإن
الزيارة الثانية له منذ عام 2005 التي قام بها عشية انعقاد القمة
الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى للعراق قد تمت فعلا
لتتصدر الأسباب الموجبة لها والنتائج التي تمخضت عنها استضافة بغداد
للقمة العربية العادية التالية عام 2010 ، حيث يتقرر مكان انعقاد القمة
وفقا للحروف الأبجدية ، والعراق يلي قطر في ترتيب هذه الحروف ، وقد كان
التكامل تاما في هذا الشأن بين موسى وبين مضيفيه ، فبينما أكد وزير
خارجية الحكم المنبثق عن الاحتلال هوشيار زيباري بأن العراق "يحتفظ
بحقه" في استضافة القمة التالية أكد موسى بأن الجامعة العربية مهتمة
بإعادة العراق إلى محيطه ودوره العربيين وأعرب عن سعادته وهو يستمع إلى
الترحيب العراقي بدور الجامعة , وبالتالي فإنه إن لم يطرأ ما يثبت
العكس فإن العراق سوف يرأس دورة القمة العربية التالية بعد قطر ، وإذا
حالت "الأوضاع الأمنية" دون استضافة بغداد للقمة فإن ذلك لن يحول دون
تسلم العراق رئاسة القمة من قطر في ترتيب بروتوكولي خاص بمقر الجامعة
في القاهرة .
وإن حدث ذلك فإنه سيكون سابقة تاريخية يتولى فيها غير عربي رئاسة
المنظمة الإقليمية العربية التي كانت على علاتها عماد النظام الرسمي
العربي منذ أكثر من ستة عقود من الزمن ، وإذا كان لا يوجد أي ضير في أن
يتولى رئاستها واحد من الأقليات التي اندمجت في الحضارة العربية
الإسلامية عبر تاريخ طويل من التعايش يؤمن بانتمائه لهذه الحضارة ويعلن
ولاءه لها ولأهلها فإنه يوجد كل الضير في أن تتولاها شخصية -- مثل
"الرئيس" جلال طالباني إن تجددت رئاسته -- بنت مجدها الشخصي تاريخيا
على الدعوة إلى الانفصال عنها ، ولم تتردد في دعوة كل الغزاة والطامعين
لاستباحة سيادتها وهي حتى الآن ما زالت ترحب باستضافة قواعد عسكرية
أميركية وتلح على "عدم التسرع" في أي انسحاب "غير مسؤول" لقوات
الاحتلال الأميركي من العراق حتى يستتب لها الأمر فيه ، اللهم إلا إذا
حدثت معجزة توبة تبدد أية مخاوف عربية من هكذا مقدمات في زمن انعدمت
فيه المعجزات .
وإذا ما أجبرت حقائق الواقع الوطني والإقليمي والدولي المعارض للانفصال
مثل هذه الشخصية وغيرها على الارتداد ظاهريا عن الدعوة إليه إلى التمسك
مرحليا ب"الفدرالية" فإن هذا الارتداد لا يردعها عن دفع مليشياتها
المسلحة (البيشمركة) إلى خارج حدود فدراليتها للتوسع جنوبا بعمق يزيد
على عشرين كيلومترا في ثلاث محافظات عربية عراقية ، عند حدود تستقوى
بالأجنبي لمنع أي حكم مركزي في بغداد من تجاوزها شمالا ، ليتحول الوضع
المتوتر الناجم عن ذلك بين "فدرالية كردستان العراق" وبين الحكومة
المركزية في العاصمة العراقية إلى قنبلة موقوته تهدد بالانفجار في أي
وقت وهي إن لم تنفجر فإنها تساق كذريعة للمطالبة بمنع انسحاب قوات
الاحتلال كواحدة من ضمانات عدم انفجارها .
إن العرب المختلفين حاليا على من هو العدو الاستراتيجي لهم ، وهل هو
إسرائيل أم إيران ، ينبغي لهم التوقف عند حقيقة أن طالباني والحركة
الانفصالية التي ينتمي إليها تاريخيا قد استعانوا ب"العدوين" كليهما ،
وما زالوا ، ضد عرب العراق وعرب الجامعة العربية المعنيين بالحفاظ على
الهوية العربية الإسلامية للعراق ، وإذا ما أجازت القمة العربية ، أي
قمة عربية ، رفع طالباني أو من هو مثيل له إلى رئاستها فإنها عندئذ
تقدم على سابقة تاريخية ستكون الفاتحة لنظام إقليمي غير عربي ما زال
الاحتلالان الأميركي والإسرائيلي يدعوان إليه بديلا لجامعة الدول
العربية باسم النظام "الشرق الأوسطي" الجديد أو بغير ذلك من الأسماء ،
ولن يعود مستغربا بعد ذلك أن تكون الرئاسة لهكذا نظام تركية أو إيرانية
أو إسرائيلية .
إن التقارير التي لم تتأكد بعد عن عدم نية طالباني في تجديد رئاسته
للعراق لن توفر مهربا للقادة العرب من مواجهة احتمال أن يتزعمهم
طالباني للتحدث باسمهم عالميا ، لأن هذه التقارير لو صدقت فإنها لن
تتحقق قبل الانتخابات العراقية في نهاية العام الحالي ، مما يوفر مهلة
كافية لكي يختتم طالباني حياته السياسية المعادية للعرب متوجا كعنوان
للآمة العربية وناطق باسمها ، لكن كنقيض لا كمجدد لإرث صلاح الدين
الأيوبي .
غير أن الحقيقة الساطعة هي أن طالباني لم يتغير ولا يتوقع أن يتغير ،
لكن التغيير يحدث في الموقف العربي منه ومن أجندته السياسية . ولا بد
من البحث عن حقيقة التغير في الموقف العربي في غير الأسباب التي ساقها
عمرو موسى أثناء زيارته الأخيرة للعراق . والمفارقة أن هناك إجماع عربي
على هذا التغيير بين طرفي الانقسام العربي في معسكري "الاعتدال" و
"الممانعة" المختلفين على كل شيء كما يبدو إلا على الاعتراف بالأمر
الواقع الناجم عن الاحتلال الأميركي في العراق ، حيث توجد اليوم تسع
سفارات عربية عاملة في العاصمة العراقية ، بالرغم من الاختلاف بين
المعسكرين على الدور الإيراني في العراق ، وهو اختلاف سوف يبدده
بالتأكيد أي إجماع بين المعسكرين على منح شرعية القمة العربية للنظام
السياسي الذي أقامه الاحتلال في بغداد لأنه نظام إيراني في بعده
الطائفي ، وإيراني في الولاءات السياسية للأحزاب السياسية التي شاركت
في "العملية السياسية" التي هندسها المحتل الأميركي فأنتجته ، وهو نظام
له سندان أمنيان الأول اميركي والثاني إيراني ، وهو نظام إيراني في
اقتصاره على القوى الطائفية والعرقية والقبلية التي ترى في القوى
القومية التي تعتمد المواطنة لا المحاصصة الطائفية والعرقية أساسا
للوحدة الوطنية ، فحتى تلك القوى القومية التي كانت معارضة لنظام حزب
البعث نأت بنفسها عن المشاركة في نظام كهذا ، وليس سرا أن إضافة ركيزة
ثالثة عربية له تعترف به كأمر واقع كانت منذ الغزو عام 2003 مطلبا
أميركيا وإيرانيا .
إن الأسباب التي ساقها عمرو موسى للاستجابة العربية لهذا المطلب
الأميركي – الإيراني بمنح شرعية القمة العربية للنظام "الإيراني" ، بأي
مقياس يقاس به ، في المنطقة الأميركية الخضراء ببغداد هي أسباب
متهافتة: فالمستقبل "المزدهر" الذي قال موسى إنه يراه للعراق لا يمكن
بأي حال أن يكون الوضع الراهن هو المقدمة الموضوعية له ، و"التحسن" في
الوضع الأمني الذي أشاد به بالمقارنة مع الوضع الذي كان سائدا أثناء
زيارته الأولى عام 2005 تدحضه أشلاء الجثث العراقية المتطايرة في سلسلة
التفجيرات المشبوهة التي تصاعدت من جديد بقدر ما تدحضه تحذيرات القادة
العسكريين للاحتلال من القنابل الموقوته للعنف الطائفي والعرقي الكامن
في القضايا العالقة بين أطراف "العملية السياسية" للنظام نفسه ويدحضه
كذلك عجز القادة السياسيين للاحتلال في واشنطن عن إعلان النصر العسكري
في حربهم على العراق ، أما إشادة موسى بجهود المصالحة الوطنية التي
تقوم بها حكومة النظام فإنها بحاجة إلى وقفة خاصة لأنها تنطوي على قدر
من الخلط لا يقل عن قدر أكبر من التراجع عن موقف سابق للجامعة العربية
من قضية المصالحة في العراق .
فالمصالحة غير الوطنية ، التي تستهدف تهدئة الوضع الأمني لكي يستتب
الأمر للاحتلال ولنظام موال له أقامه ، بين أطراف "العملية السياسية"
التي حصد العنف بينها عددا من الأرواح العراقية البريئة ما زال إحصاؤه
مهمة مفتوحة لمنظمات حقوق الإنسان الوطنية والعربية والدولية كانت بندا
رئيسيا ضمن ثمانية عشرة بندا حددتها القيادة السياسية للاحتلال في
واشنطن لقياس فشل أو نجاح مشروع الاحتلال الأميركي للعراق ، لكن
المصالحة الوطنية التي رعت الجامعة العربية مؤتمرات عراقية في القاهرة
وغيرها من أجل إنجازها كانت تسعى وراء المهمة التي كانت مستحيلة منذ
البداية ، وأثبت تطور الأحداث استحالتها ، لإيجاد قواسم مشتركة بين
النظام الذي جاء به الاحتلال ، وكان غطاء عراقيا للاحتلال لا يستر عورة
أكثر مما تستر ورقة التوت ، وبين المقاومة الوطنية العراقية لهذا
الاحتلال . لذلك فإن تراجع الجامعة العربية عن المصالحة الثانية
للاكتفاء بالمصالحة الأولى كمسوغ لإضفاء شرعية القمة العربية على الأمر
الواقع الذي فرضه الاحتلال في العراق هو في الواقع نقلة نوعية في
الموقف العربي من "الحياد" الظاهري بين الاحتلال والنظام المنبثق عنه ،
وهو حياد وصفه بعض منتقديه بالتواطؤ ووصفه بعض آخر مشتطا بشراكة عربية
في الغزو والاحتلال ، إلى اصطفاف عربي رسمي ومعلن ضد المقاومة العراقية
.
أما السبب غير المعلن لهذا الإقبال العربي الرسمي على دور في العراق في
ظل الاحتلال فإنه يتمثل في محاولة لموازنة أو منافسة "النفوذ" الإيراني
فيه ، وكان هذا دائما مطلبا للاحتلال الأميركي لكنه لم يكن أبدا مطلبا
"للنظام الإيراني" الذي نشأ تحت مظلة الاحتلال إلا بعد أن استتب الأمر
لهذا النظام ، كما يعتقد ، وبعد أن أدرك بأن الدعم الإيراني وحده له
دون إسناد عربي لن يكون كافيا لاستمراره إذا ما قرر المحتلون الأميركان
الانسحاب بطريقة "غير مسؤولة" ، لكن خلاصة أي دور عربي كهذا تتلخص
عمليا في دعم هذا النظام نفسه الذي لا يجد أي حرج وهو يستجدي الإسناد
العربي في الوقت الحاضر في الإصرار المعلن على أن لإيران "دور خاص" في
العراق . إن منح شرعية عربية لهذا النظام هو محاولة متأخرة ستكون
نتائجها عكسية بالتأكيد للاستثمار السياسي لغض الطرف العربي عمليا عن
الغزو والاحتلال الذي أعقبه ولغض الطرف العربي عن الاستثمار الإيراني
المبكر للغزو والاحتلال ، فمثل هذه المحاولة ستقود فقط إلى تعزيز
النفوذ الإيراني بتعزيز النظام الذي يجسد هذا النفوذ .
إن سابقة الاسترضاء العربي للاحتلال الإسرائيلي بالاعتراف بالأمر
الواقع الفلسطيني الذي فرضه الاحتلال كانت له نتائج عكسية فلسطينيا
وعربيا واضحة في عواقبها الوخيمة على الأمن القومي والتضامن العربي
والقضية الفلسطينية وقضية السلام بحيث لا يكون تكرارها للاعتراف بالأمر
الواقع الذي يحاول الاحتلال الأميركي أن يفرضه في العراق إلا إصرارا
على أن يلدغ العرب من الجحر مرتين . |