إذا كان العدوان الإسرائيلي على
قطاع غزة ليس سببا كافيا لانقشاع
وهم "عملية السلام" عن أعين
المفاوض الفلسطيني الذي ارتهن لها
كمن أدمنها لذاتها لكي يسارع بدلا
من ذلك إلى الوحدة الوطنية كطريق
وحيد للخلاص الوطني يعض عليه
بالنواجذ ، ولم يكن سببا كافيا
لذلك أيضا أن الجديد الوحيد الذي
جاءته به إدارة أوباما الأميركية
الجديدة هو مجرد أسماء جديدة
بألوان بشرة مختلفة لقديم إدارة
بوش السابقة ، ولا كان سببا كافيا
قبل ذلك وصول "عملية أنابوليس"
التي راهن عليها إلى الطريق الذي
أعلن المفاوض نفسه أنها مسدودة ،
فإن نتائج انتخابات يوم الثلاثاء
الماضي في دولة الاحتلال
الإسرائيلي ينبغي أن تكون قد أعفت
هذا المفاوض من الحجة التي طالما
تذرع بها علنا لكي لا ينسحب من
مفاوضات عقيمة ، تشترط عليه
لاستمرار مشاركته فيها استمرار
الانقسام الوطني ، حتى لا يتحمل ،
كما كان يقول ، المسؤولية عن
انهيار عملية التفاوض أمام
المجتمع الدولي .
فتلك الانتخابات كما قال عنوان
افتتاحية الواشنطن تايمز في اليوم
الذي سبقها كانت "استفتاء إسرائيل
على الحرب" ، وكانت "وعدا بالحرب"
كما عنون جاكسون ديل مقالا له
نشرته الواشنطن بوست في اليوم
نفسه ، وقد أجمع المتنافسون على
قيادة حكومة الحرب الإسرائيلية
عندما تتألف خلال شهر آذار / مارس
المقبل ، بمن فيهم شريكة المفاوض
الفلسطيني في "عملية أنابوليس"
تسيبي ليفني ، على الاستئناف
الوشيك للحرب على غزة وعلى
استمرار حصار القطاع بحجة إسقاط
"نظام حماس" فيه ، وعلى وقف
البرنامج النووي الإيراني "بكل
الوسائل" ، وبينما وعد بنيامين
نتنياهو منافس ليفني ب"وجوب سحق
قوة حماس" لأنه "لم يعد هناك أي
خيار" أمام الحكومة الجديدة "سوى
إنهاء العمل" الذي فشلت الحكومة
السابقة في إنهائه ، فإن أفيغدور
ليبرمان زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"
--- الذي أدانته الصهيونية تاليا
ساسون من حزب "ميرتس" ب"العنصري
والفاشي" – قد هدد بالإبادة
النووية كوسيلة لإنهاء المهمة
عندما قال: "يجب أن نواصل قتال
حماس مثلما فعلت الولايات المتحدة
مع اليابانيين في الحرب العالمية
الثانية" وهي الحرب التي انتهت
كما هو معروف بقصف هيروشيما
وناغازاكي بالقنابل الذرية
الأميركية !
وليبرمان هذا الذي خاض الانتخابات
ببرنامج سياسي يدعو إلى ترحيل من
تبقى من عرب فلسطين في دولة
المشروع الصهيوني بعد إنشائها عام
1948 قد خرج من انتخابات الثلاثاء
الماضي "صانعا للملوك أو الملكات"
لكي يسارع نتنياهو وليفني في
اليوم التالي إلى الاجتماع معه
لمعرفة "الثمن" المترتب عليهما
دفعه لنيل الحظوة لديه كي يفوزا
بمنصب رئيس وزراء حكومة الحرب
المقبلة ، وهو قد أعلن بأنه سوف
يوصي بتسمية نتنياهو لهذا المنصب
ليقود "حكومة يمين" ، فهو أيضا
متفق تماما مع الحرب الممتدة التي
أعلن نتنياهو خططه لها في الضفة
الغربية وخاض الانتخابات على
أساسها: رفض مبدأ الأرض مقابل
السلام ، ورفض حل الدولتين ، ورفض
"عملية أنابوليس" واقتراح عملية
"سلام اقتصادي" طويل الأمد يؤسس
ل"سلام سياسي" ينتهي بدولة
فلسطينية تكون "اقل من سيادة"
كبديل لها ، ورفض التفاوض على
اللاجئين والقدس باعتبارهما قضايا
"غير قابلة للتفاوض" ، ورفض تفكيك
المستعمرات الاستيطانية ورفض
تجميد "النمو الطبيعي" لتوسيعها ،
ووعد بسرعة استكمال بناء جدار
تقسيم الضفة الغربية بين مواطنيها
ومستوطنيها وبمواصلة السيطرة على
طول امتداد غور الأردن شمال البحر
الميت وجنوبه باعتباره الحدود
الأمنية الشرقية لدولة الاحتلال ،
كما اعتبر نتنياهو أي "تفاهمات"
لرئيس الحكومة السابق إيهود
أولمرت مع المفاوض الفلسطيني
تتعارض مع كل ذلك "باطلة" وتعهد
بأنه لن يكون "ملزما بها" .
ولا يستطيع إلا مكابر نفي حقيقة
أن الانتخابات قد تمخضت عن انتصار
كاسح لبرنامج نتنياهو – ليبرمان
بالرغم من فوز حزب شريكة المفاوض
الفلسطيني في عملية أنابوليس
تسيبي ليفني بفارق عشرين ألف صوت
على الليكود بعد انتهاء عملية
الفرز ، ولا إنكار أن شريكة
المفاوض الفلسطيني ليفني لا مانع
لديها من تأليف حكومة "وحدة
وطنية" على أساس هذا البرنامج كما
هو أو معدلا تعديلا طفيفا بدليل
مبادرتها فور ظهور نتائج
الانتخابات إلى عرض الشراكة في
حكومة وحدة مع الرجلين برئاستها ،
وسواء نجحت أو فشلت في ذلك فإن
هذا البرنامج سيحدد الخطوط
الرئيسية العامة للحكومة المقبلة
، سواء كانت برئاستها أو بدونها ،
مما سيحوٌل عمليا أي استئناف
للمفاوضات إلى مجرد عملية علاقات
عامة لن تتخلى طبعا عن الحرص على
وجود "شريك فلسطيني" لها لن يزيد
دوره على دور شاهد الزور ، وحسب
المعطيات الراهنة لا يزال في
الجانب الفلسطيني من لا زال على
استعداد للقيام بدور كهذا محتجا
إما بضغوط "الأصدقاء" الأجانب أو
"الأشقاء" العرب أو متذرعا بالحجة
الواهية لضرورة استمرار "الاشتباك
التفاوضي" حتى يظل الرقم
الفلسطيني موجودا على ساحة
"المعركة السياسية" ، متجاهلا أنه
بعد الانتخابات الأخيرة لم يعد
هناك أي وجود حتى ل"شريك تفاوضي"
في الجانب الآخر الذي طالما ادعى
أنه "شريك سلام" أيضا في عملية
إدارة الصراع المسماة زورا
وبهتانا "عملية سلام" .
ولا يبدو أن واشنطن الراعية
لعملية التفاوض محبطة من السقوط
المريع لشريك التفاوض الإسرائيلي
في الإنتخابات ولا من غياب أي
عنوان حكومي إسرائيلي لمدة شهرين
مقبلين في الأقل ولا من برنامج
الحكومة الجديدة في تل أبيب الذي
يرفض التفاوض على أساس عملية
أنابوليس ويرفض أيضا أي تفاوض على
إعادة الجولان السوري المحتل إلى
أصحابه بينما إعادته في صلب
"المقاربة الشاملة" الجديدة التي
تتبناها إدارة أوباما للسلام "في
الشرق الأوسط" ، ويبدو البيت
الأبيض مصمما على أن يمهد لعملية
العلاقات العامة الإسرائيلية
المتوقعة بالمبادرة إليها قبل
أبيب حتى لا تفلت الدفة من يده ،
إذ لم يصدر حتى الآن ما يشير إلى
أن المبعوث الرئاسي للسلام جورج
ميتشل سيلغي جولته الجديدة
المقررة أواخر الشهر الجاري
للمنطقة مما يجعل الهدف الوحيد
لها هو احتواء ردود الفعل السلبية
على نتائج الانتخابات الإسرائيلية
لدى شركاء السلام العرب و"إقناع"
الشريك الفلسطيني بعدم الانسحاب
من "لعبة التفاوض" بالرغم مما
وصفه المحللون ب"النكسة
الإسرائيلية" لوعود أوباما
بالتحريك النشط السريع لعملية
السلام ، في الأقل لمنع المزيد من
التدهور في الوضع الإقليمي
المتدهور أصلا .
وكان لافتا للنظر أن يتصل أوباما
بنظيره الإسرائيلي شمعون بيريس
لكي يمتدح "الديموقراطية التي
تشبه ديموقراطيتنا" (دون أن يوضح
بأن الديموقراطية الأميركية قد
أفرزت جورج دبليو. بوش نظيرا
لنتنياهو أو ينفي بأنها أفرزت
مثيلا لليبرمان) ولكي يؤكد بأنه
"يتطلع إلى "العمل مع من يؤلف
الحكومة الإسرائيلية التالية أيا
كان" دون أي إشارة مماثلة إلى
ضرورة التعامل مع أي حكومة وحدة
وطنية فلسطينية أفرزتها صناديق
اقتراع أشرف عليها نظيره الأسبق
جيمي كارتر وهو ما يحاول النائب
الفلسطيني مصطفى البرغوثي خلال
زيارته الحالية لبلاده إقناع
إدارته به .
لكن المفارقة الأكثر إثارة
للاستهجان هي أن يعلن المفاوض
الفلسطيني الذي يقود السلطة في
رام الله استعدادا مماثلا مقرونا
بتجديد التزامه بمواصلة "عملية
أنابوليس" التي كانت نتيجة
الانتخابات الإسرائيلية إعلان
وفاة لها ، بينما رفض حتى حزب
ميريتس ، شريك هذا المفاوض في
"مبادرة جنيف" ، تسمية نتنياهو
وليفني معا لرئاسة الوزراء الأول
بسبب برنامجه والثانية لأنها
تتفاوض مع ليبرمان . لقد حان
الوقت لكي تسقط الازدواجية التي
يمارسها هذا المفاوض بإعلان
استعداده للتعامل مع أي حكومة
للاحتلال تفرزها الانتخابات دون
شروط بينما يصر على شروط مفروضة
عليه للتعامل مع حكومة فلسطينية
أفرزتها الانتخابات أيضا .
وقد آن الأوان كذلك لكي ينفض
المفاوض في رام الله عنه أوهام
عملية السلام فقد كانت هذه
الأوهام هي السبب في الانقسام
الوطني الذي يعرف المفاوض نفسه
أنه انقسام ناجم أولا وثانيا
وأخيرا عن وجود برنامجين سياسيين
نتيجة لهذه الأوهام أكثر مما هو
نتيجة اختلاف في الرأي بين
السياسيين وخبراء القانون حول
تفسير المرجعيات الدستورية ولا
حتى نتيجة اصطراع على سلطة يعرف
قطبا الانقسام قبل غيرهما أنها في
ظل الاحتلال سلطة ورقية ، فهذا هو
بالتأكيد الطريق إلى إنجاح الحوار
الفلسطيني الذي سيتجدد في القاهرة
في الثاني والعشرين من الشهر
الجاري .