الأنظمة القطرية التي تحكم جل
الأقطار العربية منذ عقود، أفرغت
العمل العربي المشترك من أي معنى،
كما أفرغت العمل السياسي في
أقطارها من أية مشاركة شعبية
فعلية في تسيير الأمور، اللهم إلا
تلك المساهمات الفولكلورية
القائمة على انتخابات شكلية مزورة
ومحسومة نتائجها سلفا لصالح
النظام وأدواته وأحزابه.
تلك السياسة أوصلت الأنظمة إلى
مأزق لا تدري كيف الخروج منه، فلا
هي حققت نموا اقتصاديا، ولا عدالة
اجتماعية، ولا تطورا علميا، ولا
مشاركة سياسية شعبية ولا توفير
الحد الأدنى من ضرورات الحياة
الحرة الكريمة لأبناء الشعب الذي
تحكمه، وكلما ازدادت أزمتها مع
شعبها ازدادت عنفا ودموية وقمعا
واضطهادا، بحيث يبدو أحيانا أنه
من المستحيل الوصول إلى أية نتيجة
مع تلك الأنظمة عن طريق النضال
السياسي وحده، مما ولّد حركات
متطرفة أغلبها ذو خلفية دينية
جهادية وببرامج مخيفة على أكثر من
مستوى.
هذا على صعيد كل قطر، أما على
الصعيد العربي العام، فالنظام
العربي الرسمي يعيش أتعس أيامه،
حيث فقد قدرته على التحرك، فقد
وزنه وتوازنه في ظل التناقضات
الخطيرة التي تضع أغلب الأنظمة
العربية بمواجهة بعضها البعض،
تتنافس على أتفه الأمور، يستأسد
بعضها على البعض الآخر في الوقت
الذي تسحق كرامة الجميع من قبل
العدو الصهيوني أو من الكثير من
الدول الأوربية أو من أمريكا أو
غيرها، بدون أن تشعر تلك الأنظمة
بأي حرج ودون أن تقوم بأي رد فعل،
تحتل أقطار وتنتهك حرمة أقطار
أخرى، وتثار فتن هنا وهناك، تدمر
غزة وتهوّد القدس ولا من يحرك
ساكنا، تتخذ القرارات الدولية
التي تهم الأقطار العربية في ظل
غياب رسمي عربي مهين وصمت مريب.
من المعروف أن هناك تناقضا حادا
بين القوى المعارضة وبين الأنظمة،
فالمعارضة في مختلف الأقطار
العربية تعيش في أسوأ الظروف حيث
تعاني من التهميش والإقصاء، وفي
أغلب الأحيان تضطهد ويودع
مناضلوها في المعتقلات والسجون أو
أنهم يهربون إلى خارج بلدانهم
طالبين اللجوء السياسي في بلاد
أجنبية، في حين تمارس الأنظمة
القطرية سياسة لا وجود للقانون
فيها، سياسة مزاجية، فئوية محكومة
بعقدة الخوف من أي صوت معارض،
وترى في أي مشروع نهضوي أو فتح
نافذة للديمقراطية، تهديدا
لوجودها ووضع حد لسيطرتها، مما
يؤدي إلى هذا العداء المستحكم
بينها وبين المفكرين والمثقفين
وكل أطراف المعارضة.
المعارضات العربية تريد مشاركة
سياسية كاملة، تريد حرية
وديمقراطية ودولة مؤسسات واحترام
لحقوق الإنسان وعدالة اجتماعية،
بينما الأنظمة تتمترس في مواقفها،
متشبثة بالسلطة وامتيازاتها،
رافضة لأي مشاركة سياسية من أي
طرف معارض مهما كانت درجة
المعارضة قليلة أو كثيرة، سلمية
أو عنيفة، فكيف يمكن حلحلة الأمور
إذن؟
واقع المعارضات العربية الراهن لا
يسمح لها أن تغير في الأمر شيئا،
فهي لا تمتلك القوة الجماهيرية
المنظمة القادرة على إسقاط
الأنظمة لا بتحرك شعبي سلمي ولا
بانقلاب عسكري ولا بثورة شعبية،
لا تمتلك المعارضة إلا فكرها
وتحليلاتها لمجمل الأوضاع العربية
وفي أقطارها بشكل خاص، ورغم أن
رؤيتها صائبة وتحليلاتها صحيحة
ورغبتها في التغيير نحو الأفضل
صادقة، إلا أن مجمل فعلها لا يرقى
إلى مستوى تحقيق تلك الرؤى
والرغبات.
والأنظمة بدورها ليست في وضع
أفضل، حيث تزداد أزماتها تفاقما
وتتسع الهوة بينها وبين شعوبها
مما ينذر بحالات من الانفجار
والفوضى لا يمكن التنبؤ بنتائجها،
وهو وضع يوفر شروط تكوّن مجموعات
فوضوية إرهابية أو ظلامية أكثر
خطرا على الأوطان من كل من سبقها
من أنظمة.
كانت القوى المعارضة تمني نفسها
بأنها ستكون قادرة على تشكيل قوة
ضغط كبيرة على الأنظمة تجبرها على
تغيير سياساتها وانتهاج سياسة
تنسجم والمطالب الشعبية، وهذا ما
لم يحصل حتى الآن.
وكان مؤملا أيضا أن تتعمق أزمة
الأنظمة بشكل كبير على كافة
المستويات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية مما يجبرها على تغيير
سياستها، وهذا لم يحصل حتى الآن
أيضا.
وفكرت قوى معارضة أخرى بإمكانية
حصولها على دعم قوى خارجية أو
"عكاز" حسب مقولة الكاتب عقاب
يحيى، لكن هذا الأمر يحمل الكثير
من المجازفة والمخاطر في طياته،
وتجربة العراق خير شاهد على ذلك،
ولا أظن أن أي معارضة وطنية قومية
صادقة تقبل بهذا الحل، وحتى الدول
الأجنبية فقدت حماسها لتغيير
الأنظمة بهذا الأسلوب.
وهنا ثمة سؤال يفرض نفسه: هل يمكن
إيجاد صيغة تفاهم بين الأنظمة
ومعارضاتها من خلال الأزمات
الملازمة لكلا الطرفين؟ وهل يمكن
إيجاد قاسم مشترك بينهما يخرجهما
من تلك الأزمات المصيرية؟ أم أن
أزمات الأنظمة ستدفعها إلى
التقارب بين بعضها البعض بعيدا عن
المعارضة أو بمواجهتها؟
وبالمقابل، هل ستشكل المعارضات
العربية جبهة موحدة لمواجهة
الأنظمة؟
إن قراءة واقعية لمواقف الأنظمة
والمعارضات، لا تسمح بالكثير من
التفاؤل، حيث أن ضعف المعارضة في
مجمل الأقطار العربية يجعل
الأنظمة غير عابئة ببرامجها أو
بمطالبها، وغير مستعدة لأن تتنازل
لها عن أي شيء، بل إنه في بعض
الأقطار شكلت "جبهات" وطنية مع
أطراف وتجمعات وأحزاب كانت قد
تناسلت من رحم الأحزاب السياسية
المتواجدة في كل قطر، جبهات للعمل
الواجهي والإعلامي دون أن تكون
لها أية مواقف فعالة أو تمثيلية
شعبية حقيقية، وفي أقطار أخرى
أعطيت هوامش من حرية الرأي وتشكيل
الأحزاب بالقدر الذي لا يهدد
النظام القائم، وفي بعضها الآخر
تتكائر الأحزاب وتتشابه الأسماء
والبرامج بحيث يتيه المواطن في
كيفية التفريق بين حزب وآخر وهو
بالتالي يعزف عنها جميعا .
لقد امتلكت الأنظمة العربية خبرات
عالية في كيفية إفراغ الأحزاب
اليسارية والقومية والوطنية من
قواعدها ومناضليها، وفي كيفية
السيطرة على مقاليد الأمور، وهي
لهذه الأسباب جميعا لا ترى أنها
مضطرة للتنازل لتلك الأحزاب عن أي
دور سياسي.
لذا فإني أرى أن أقصى ما يمكن
للأنظمة أن تفعله أمام مآزقها هو
أن تلتف حول بعضها البعض فيما
يسمى مصالحة عربية، مصالحة على
مستوى الزعماء، وتنسيق في بعض
المواقف يضمن لتلك الأنظمة حدا
أدنى من القدرة على تجاوز تلك
الأزمات، واجتماعات وزراء
الداخلية العرب والتعاون في مجال
"محاربة الإرهاب " نموذج من تلك
النماذج.
إن عداء الأنظمة مع شريحة كبيرة
من أبناء البلد الذي تحكمه،
وأغلبهم من المفكرين والمثقفين
والأكاديميين والصحفيين
والسياسيين ومن جميع فئات
المجتمع، وعدم وجود أية شرعية
شعبية أو وطنية لتلك الأنظمة،
يشكل نقطة ضعف كبيرة تنفذ منها كل
القوى الانتهازية واللاوطنية،
القوى المعادية ، الداخلية منها
والخارجية، لتمارس على الأنظمة
ابتزازا خطيرا لقاء حمايتها أو
سكوتها عن جرائمها، مما يجعلها
ألعوبة بأيديها، عاجزة عن اتخاذ
أي موقف وطني جدي، بل تنجر لاتخاذ
مواقف بالضد تماما مع مصلحة
الأمة.
لقد رأينا ذلك جليا حين دخلت
القوات الغازية مدينة الرشيد
الخالدة واحتلت العراق وشردت أهله
وقتلت أطفاله ونساءه، ورأينا ذلك
حين اغتالت يد الغدر الطائفي
والأمريكي الشهيد صدام حسين يوم
عيد الأضحى المبارك، رأينا ذلك
حين وقفت الكثير من الأنظمة تنتظر
هزيمة المقاومة البطلة في جنوب
لبنان وكذلك كان موقفها مؤخرا وهي
تتفرج على المجزرة الصهيونية في
غزة البطلة دون أن تحرك ساكنا،
وحين فشلت حسابات الأنظمة كان رد
فعلها التوجه نحو مصالحة شكلية
وقد تكون مؤقتة مع بعضها البعض.
إن من المنطقي أن تتصالح الأنظمة
مع شعوبها، مع جماهيرها، مع
معارضتها لتشكيل قوة وطنية
متماسكة هي الوحيدة التي يمكن لها
أن تخرج البلاد والأمة من الهاوية
التي تعيش فيها.
كما أن من المنطقي أيضا أن تدفع
الأزمة كل قوى المعارضة أن تلتف
حول رؤية موحدة للخروج من هذا
الواقع، ولا بأس أن تمد أيديها
لكل من له مصلحة في إنقاذ الأوطان
والخروج بها من دائرة التبعية
والهيمنة ، أن يكون هناك برامج
بالحد الأدنى للعمل المشترك بعيدا
عن التعصب الحزبي أو المذهبي أو
العقائدي.
من المنطقي أيضا أن يستخلص
الجميع، أنظمة وأحزاب معارضة،
دروسا مفيدة من المذلة الحالية
التي يعيشونها، حيث لا احترام لأي
نظام لا على المستوى المحلي ولا
الإقليمي ولا الدولي، والإهانات
تلاحق الجميع في ظل هذا التشرذم
العربي الحالي، ولم يبق لأي سلطة
من الأوراق ما تلعب بها، حتى ورقة
النفط والقوة المالية فقدت
تأثيرها.
إن الدرس الذي يجب استيعابه هو أن
لا مفر من العودة إلى طريق
الوحدة، طريق التضامن، طريق
المصالحة بين الأنظمة وشعوبها ،
مصالحة قائمة على تحقيق انفراجات
واسعة في مجال حرية الرأي، حرية
التعبير، حق الاختلاف، التناوب
على السلطة عن طريق الانتخابات
الحرة والنزيهة، تحقيق عدالة
اجتماعية وفرض سلطة الحق
والقانون.
بغير ذلك سوف يستمر مسلسل
الهزائم، ستبتلع إسرائيل أرض
فلسطين كلها وأراض عربية أخرى،
ستقسم بلدان عربية كثيرة على أساس
قومي أو مذهبي أو طائفي أو تحت
ذرائع كثيرة أخرى على غرار ما هو
جار حاليا على أرض السودان، سوف
يجر زعماء إلى المحاكم الدولية
لسبب أو لآخر دون أن يجدوا من
يدافع عنهم، أو بالأحرى غير مأسوف
عليهم، وسيصبح ما نسميه الآن وطنا
عربيا أثرا بعد عين.
إن البديل لهذا الأفق الكالح هو
صحوة عربية جدية، صحوة تستطيع
الاعتماد على ما قدمته وتقدمه
المقاومة العراقية البطلة من أروع
الأمثلة في الصمود والثبات
والقدرة على المواجهة وإلحاق
الهزائم بالعدو والعملاء، وتستطيع
الاعتماد على ما ضربته المقاومة
اللبنانية البطلة في الجنوب
وقدرتها على هزيمة أعتى وأقوى جيش
في المنطقة، وكذلك بناء على
الصمود الأسطوري للمقاومة
الفلسطينية في غزةا.
إن القضية بالأساس هي قضية إرادة،
موقف شجاع، موقف رجولة وموقف
وطني، وما زلت متمسكا بخيط من
الأمل بحدوث تلك الصحوة ليستفيق
الجميع من السبات الذي يعيشون فيه
ومن فوضى الآراء والمصالح الذاتية
والفئوية الضيقة في الوقت الذي
تشرف فيه السفينة أن تغرق
بالجميع.
|