ذكرى يوم الأرض محطة معنوية للتعبير عن إرادة شعب يأبى الاستسلام للأمر
الواقع الذي خطط له المحتل الصهيوني واستمر في تنفيذه خطوة خطوة.
والاحتفاء بهذا اليوم إشارة ذات دلالة تاريخية وجغرافية بأن أصحاب الحق
يدقون أجراس العودة دون كلل وحقهم يأبى النسيان وأن معركتهم مستمرة إلى
أن تتحرر الأرض من مغتصبيها ومدنسيها وتستعيد سيادتها وهويتها بمختلف
أبعادها.
فالتذكير بالأرض قضية نضالية يعززها الإيمان والانتماء وما لهما من دور
في بناء شخصية المواطن وهوية الوطن وبما لها من أهمية في عقل كل عربي
أصيل وكل قومي غيور. فلا شك في أن قضية الإيمان والانتماء ترتبط تأصيلا
وتفصيلا بالأرض. فالمواطنة والهوية القومية وعي بالوجود لا حياد فيه
ولا فصل بين الإنسان والمكان، بين الإيمان والانتماء، بين الوطن
والهوية. فالأرض في الحس الوجداني وفي الوعي الفكري تشكل المحور
المركزي في إرساء الهوية القومية وتمتين أركانها وأصولها.
ومن منطلق البحث في أسباب النزاعات والحروب والتقارب والتعاون بين
الدول نجد أن المكان هو محور القضايا الخلافية وأن قوة النفوذ الحقيقية
تكمن في استقلالية المكان-الوطن وخصائصه التاريخية والأمنية. ومن
المؤكد أنه لا خلاف على كون المكان والإنسان هما ركيزتا الوطن
الأساسيتان بما يجعل وحدة الوطن وتحرره قضية مقدسة يتفاعل فيها
الوجداني بالعقلي والاجتماعي-الثقافي بالمكاني فلا معنى لوجود شعب أو
أمة بلا وطن ولا معنى للوطن بدون حرية وسيادة مما جعل الثورات التحررية
تعمل على تكريس فكرة ربط مصير الشعب وحريته وسيادته وكرامته باستقلال
الوطن. وهنا تتنزل ذكرى يوم الأرض لتوضح بعمق ودقة الدلالة القائمة بين
المكان والإنسان. فمن ناحية نجد الاحتلال الصهيوني البغيض يصطنع وطنا
مدنسا من صلب وطن مقدس ويختط مصيرا متعسفا على حساب قتل وقهر شعب
بأسره. ومن ناحية ثانية يقف الشعب العربي الفلسطيني الضحية متحديا شتى
وسائل القتل والقهر دفاعا عن الأرض حتى لا تفقد دلالتها كوطن وحتى لا
يفقد أصحاب الحق فيها حقهم في الوجود والسيادة والكرامة ومن خلفهم جميع
أحرار العروبة والمؤمنين بالرسالة الخالدة.
جميعنا يعرف أن أرض فلسطين قد شكلت برمتها وما جاورها هدفا أوليا في
فكر الحركة الصهيونية العالمية ومخططاته الاستعمارية وذلك لتحقيق الحلم
اليهودي في إنشاء دولة "إسرائيل الكبرى" على الأرض الموعودة أي أرض
العرب ما بين نهري النيل والفرات وفي القلب منها أرض فلسطين ومقدساتها
الدينية والتاريخية.
ومنذ شرعت الصهيونية العالمية في تنفيذ أطماعها اشتدت مآسي العرب
وتوالت نكساتهم. وها نحن اليوم وفي 30 من مارس/آذار من كل سنة نفتح
صفحة من سجل المعاناة والقهر والتنكيل حيث تعود بنا الذكرى إلى نفس هذا
اليوم من سنة 1976 عندما استولت العصابات الصهيونية على المزيد من
الأرض العربية وأمعنت قتلا في الشعب الفلسطيني المحتج على المظالم
الهمجية والواقع أن جرائم الغزاة الصهاينة تمتد إلى أبعد من هذه المحطة
حيث لم تكن الجريمة الأولى أو الأخيرة بل إن نشأة الدولة العبرية في حد
ذاتها جريمة مكتملة الأركان والقرائن لم يستثن فيها المحتلون الصهاينة
نمطا من القتل والتنكيل بالإنسان والتخريب والتدمير للمعمار والأرض من
أجل تغيير الخريطة وطمس المعالم الحضارية العربية وتوسيع حدود الكيان
الصهيوني العنصري، وهي سياسة إجرامية ما انفكت تتصاعد منذ وطأت
العصابات الصهيونية أرض فلسطين تحت مظلة الاحتلال البريطاني وقد تفاقمت
أكثر منذ الإعلان الرسمي سنة 1948 عن نشأة الكيان الصهيوني بدعم من
القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وبتأييد مدعوم بقرارات أممية
مجحفة حيث تم إقرار مشروع التقسيم والاعتراف بدولة الاحتلال الصهيوني.
إذن ونحن نذكر بهذا العدوان على الأرض والمجزرة النكراء على أهلها
العزل، لا بد أن ندعو الأحرار والشرفاء ورجال المقاومة والجهاد إلى
مزيد الصمود وتعزيز الوحدة الوطنية ودعم جبهة المقاومة للاحتلال
والتصدي بكل قوة لسياسة المتخاذلين والمساومين على بقية الأراضي
العربية والمستسلمين للهيمنة الصهيونية والمنخرطين في مشاريع التطبيع
والتعايش مع الاحتلال بذريعة ضرورة القبول بالأمر الواقع والانصياع
لمقتضيات "الشرعية الدولية" الجائرة والمنحازة.
نغتنم هذه الذكرى لنشيد بمن امتلكوا إرادة الحياة واستجابوا لنداء واجب
الجهاد على طريق التحرر من العجز والتردد لدحر الاحتلال واستعادة الأرض
لكونها الوطن التاريخي لأمة العرب ولكونها مهبط الرسالات الإيمانية وما
فيها من قيم الخير والتآخي الإنساني ونقدر عاليا بطولات وتضحيات الشعب
الفلسطيني الصابر المرابط والمجاهد والذي أثبت، على قلة إمكاناته
وخذلانه من قبل أنظمة الاستسلام والردة ومن ولاهم، أنه أقوى من كل داء
وأقدر على مواجهة الأعداء ونجدد قولنا بأن دحر العدو لن يتم بالمساومة
وأن الحرية نتيجة حتمية للمقاومة.
إن وقوفنا يوم الثلاثين من مارس/آذار من أجل الأرض لا يعني التذكير بما
حدث من احتلال واغتصاب للحقوق التاريخية والجغرافية فقط وإنما يحمل
دعوة إلى استنهاض الإرادة العربية للدفاع عن الوجود والكرامة والسيادة
القومية العربية في فلسطين وفي كل أرض عربية مسلوبة.
والدعوة هذه موجهة أساسا إلى أجيال النكبة والشباب العربي وريث النكسات
حتى يكون على وعي وعلى معرفة بالحقوق التي أضاعها الحكام الأولون
وتنازل عنها المتقاعسون الحاليون والمصابون بضعف الإيمان والانتماء
فتجدهم عاجزين عن نصرة أمتهم وحماية أراضيها في فلسطين والعراق
والصومال والأحواز وغيرها حيث انصبت جهود من بيدهم مقاليد الحكم على
الاهتمام بما أفرزته التجزئة من كيانات قطرية وجدوا فيها مصالحهم
الضيقة والآنية كفئات اعتمدتها القوى الاستعمارية عند تراجعها كاحتلال
مباشر لتواصل مشروع تفكيك الوطن العربي وتفتيت وحدة الأمة، إذ اهتمت
الأنظمة الناشئة على أنقاض مخطط التقسيم الاستعماري بالمسائل القطرية
عبر تطوير التبعية والارتباط بقوى الدعم الخارجي التي زينت لورثائها
كعملاء وأتباع أن استقلال كياناتهم السياسية وضمان استقرارها وتنميتها
يستلزم التخلي عن القضايا القومية وأوهام الوحدة العربية وخاصة بعد حرب
1973، إذ بدأ النظام العربي الرسمي يدير ظهره للقضية الفلسطينية بدءا
بخيانة السادات و"اتفاقية كامب ديفد" وتواصلا مع اتفاقية أوسلو ومدريد
وغيرها من التنازلات دون مقابل يذكر.
تعمقت التجزئة وانسحبت مصر من المواجهة وخرجت فلسطين من يد العرب كليا
لتصبح قضية دولية لكيان متنازع عليه بين شعب عربي معزول عن محيطه
القومي وعصابات يهودية متعصبة وافدة من جميع أنحاء الأرض لتقيم بقوة
الحديد والنار دولة صهيونية جانحة ومارقة على جميع القوانين والشرائع
الدولية تلبية لنداء الأرض الموعودة وعقيدة "شعب الله الموقور على حساب
الشعب العربي المنحور".
وبقدر ما أصيب النظام العربي بالهزائم لاحقت آلة القتل والتهجير الشعب
الفلسطيني لتحط من عزيمته وتفرض عليه القبول بالأمر الواقع. صمد الشعب
الفلسطيني ومن خلفه القوى الحية في الأمة لكن الأنظمة القائمة
والمنغمسة في أوضاعها الداخلية والهاربة من المواجهة والمقاومة شرعت
تتآمر وتحاصر الثورة الفلسطينية لترويضها والدفع بها على طريق
الاستسلام والاعتراف بالكيان الصهيوني.
وكلما ازداد الكيان الصهيوني قوة وعنجهية وتمردا على القرارات الأممية،
ازداد النظام العربي الرسمي عجزا وقبولا بالاستسلام والتطبيع رغم ما
يبديه الشعب العربي من المحيط إلى الخليج من إصرار على رفض الاعتراف
بالاحتلال ومن انتصار ودعم للمقاومة الفلسطينية التي لم تتأخر يوما عن
تقديم الشهداء ولازالت من أجل صد العدوان المتكرر وحماية الأرض من
الاستحواذ الاستيطاني المتمدد باستمرار ومن التجريف وهدم المنازل وقطع
الأشجار حتى أصبح مشهد إبادة الشعب العربي الفلسطيني مأساة يومية أمام
مرأى ومسمع العالم ومثال غزة أخيرا خير تعبير عن أكبر مظلمة ومجزرة في
التاريخ، كما أصبح الصمت الرسمي العربي ثقيلا وخانقا وإذا حدث تحرك ما
فهو باتجاه الضغط على المقاومة الفلسطينية ودعوتها إلى نبذ العنف والى
الحوار والتهدئة ومواصلة مشوار التفاوض من أجل السلام المزعوم بتطبيق
اتفاقات أوسلو وما تبعها وخطة الطريق ومسلسل التنازلات سيظل يجر العرب
جميعا إلى الحضيض.
والحقيقة أن تحرير الأرض من الاحتلال الاستيطاني لم ولن يكون عبر
التفاوض وأن إيقاف عملية التوسع المتدرج وصد العدوان المتكرر لن يكون
بغير كسر شوكة المعتدي، وقد عرف الشعب الفلسطيني أن المقاومة والمواجهة
اليومية هي الطريق إلى استعادة الحقوق وأن استدامة تقويض أمن
المستوطنين هو الحل لإيقاف التوسع والحد من استقدام المهاجرين
"اليهود".
إن ذكرى يوم الأرض تدفعنا إلى تصليب إرادة المقاومة وتفعيل ثقافة
الجهاد من أجل استرجاع الأرض المغتصبة والثأر للكرامة العربية.
والمعركة من أجل الأرض ليست دفاعا عن حدود أو بهدف الحصول على دويلة
مستقلة للشعب الفلسطيني على جزء مبتور ومقطوع من أرضه التاريخية بل
معركة الأمة من أجل الوجود والتحرر والتوحد أي معركة المصير الواحد
طالما أن الأرض العربية مغتصبة في عربستان ولواء الاسكندرون والجولان
وشبعا وسبتة ومليلة والجزر العربية الثلاث وغيرها والاحتلال جاثم على
أرض الرافدين والتهديدات بالتدخل في شؤون العرب لا حدود لها وخير مثال
ما يشهده السودان، فأي سيادة وأي كرامة وأي استقلال وأي أمن وأي مستقبل
للعرب خارج سياق المقاومة كأمر مشروع دفاعا عن النفس وردا للعدوان
والوحدة كسبيل لبناء القوة بتفعيل إرادة الأمة واستنهاض مقدراتها؟.
وبالمناسبة لا بد أن نذكر بأن النهم اليهودي التوسعي لا يعترف بحدود
وأن الاحتلال الحالي وبجداره العازل محطة أولى على طريق مسيرة تحقيق
"إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى النيل والدليل التحفيز المتواصل للهجرة
اليهودية إلى فلسطين والسعي المحموم لمزيد احتكار وتطوير أسلحة الدمار
الشامل لضمان أمن الكيان الصهيوني آنيا ولضمان قوة التوسع والهيمنة
مستقبلا وحماية مصالح "الشعب اليهودي" في كامل المنطقة بفرض التطبيع
ومد النفوذ الأمني والسياسي والاقتصادي.
وأحد عناوين سياسة التغلغل "اليهودي" - الصهيوني "مشروع الشرق الأوسط
الكبير" ومشاريع "الشراكة" وخطة "محاربة الإرهاب" والمقصود محو هوية
المنطقة واجتثاث قوى المقاومة وتطهير العقول العربية من فكرة التوحيد
والجهاد بما يقضي على العروبة والإسلام معا. وهكذا يتم إعادة تشكيل
ثقافة وخريطة المنطقة العربية على قاعدة التعدد العرقي والديني
والطائفي ومن بينها أو في المقدمة منها "شعب الله المختار" كشعب فوق
الشعوب بقوته النووية ونفوذه الدولي عبر الحركة الصهيونية العالمية
ولوبياتها الإعلامية والمالية والسياسية.
إذن، ليس أمام الشعب العربي غير الاستعداد لمواجهة متعددة الأبعاد
ولمقاومة متعددة الوسائل وقد أصبح لدينا أكثر من نموذج ناجح وفعال من
المقاومة الشعبية، فهزيمة الجيش الصهيوني في جنوب لبنان واضطرار سلطة
الاحتلال إلى بناء جدار عازل وإلى الانسحاب من غزة لدليل على أن إرادة
الشعب عبر المقاومة لا تقهر. واليوم لنا في المقاومة العراقية نموذجا
آخر لقهر الغزاة واستنزاف قوتهم البشرية والآلية بما أوقع الحلف
الأنغلو-صهيوني في دوامة من الارتباك وهو دليل فشل القوة العسكرية
الغازية وعجز من جاؤوا تحت رايتها في المسك بمقاليد السلطة والأمن
فظلوا أسرى المنطقة الخضراء منها يديرون عصابات الانتقام والثأر
ويفعّلون النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية لإضعاف وحدة الشعب
العراقي تطبيقا لسياسة (فرق تسد).
ومع ذلك تبقى المقاومة الوطنية الفرن الذي تكتوي بناره قوات
الاحتلال والذي حوله تلتف وتلتحم القوى الوطنية الحية وكل الشرفاء
والأحرار وهكذا تكون المقاومة وسيلة تحرير وتوحيد وما أحوج بقية
الأقطار العربية إلى حركات مقاومة ضد الاستبداد والفساد حتى يكتمل مشهد
التحرر ووحدة النضال والتقدم على أرض عربية محررة من النوازع القطرية
والطائفية ومخلفات التجزئة المقيتة.
تحية للمقاومة الفلسطينية المعبرة عن إرادة الشعب ووحدته من النهر الى
البحر.
تحية للشعب العربي الفلسطيني الصابر في أرض العزة والإسراء.
تحية للمقاومة العربية الإسلامية في أرض الرافدين.
المجد لشهداء العزة والكرامة في العراق وفلسطين وفك الله أسر المعتقلين
في سجون الاحتلال.
|