ينم الميل المتزايد لحركة الأخوان
المسلمين في مصر تجاه إيران عن
حالة غير مسبوقة من البلبلة
الفكرية والشطط الذهني وقصر
النظر.
ولكن هذا ليس هو أسوأ ما في
الأمر. الأسوأ هو أن حركة تعد
نفسها قوة بديلة في اكبر نظام
عربي، تذهب في هذا الميل لأنها لم
تعد تملك رؤيا خاصة بها.
القوى الكبرى، والبدائل السياسية
الحقيقية، لا تتزحلق لتدور في
مشاريع الآخرين، إلا عندما يفتقد
محورها الخاص قابليته على الجذب.
وهذا لا يحدث لأول مرة. فكل
الأحزاب التي ولجت طريق التحلل
والاضمحلال كانت قد وجدت نفسها،
قبل ذلك، تنخرط في مشاريع غير
مشاريعها الخاصة، وتراهن على قوة
غير قوتها الخاصة.
فإذا كانت هذه هي سُنة الطبيعة،
فغير مأسوف على حركة الأخوان
المسلمين أن تتحول الى مطية
لإيران، قبل أن تخرج من بيئتنا
وتنزل عن ظهورنا وتحل عن سمانا.
في الواقع، فان هذا أفضل.
ففي آخر المطاف، فان آخر ما
تحتاجه أوضاعنا المتدهورة وفشلنا
السياسي المزمن أن تأتي لتتصدره
قوة سياسية غبية وعمياء وعاجزة عن
أن تكون محورا قائما بذاته.
لا حاجة لتقديم أدلة على أن
النظام في مصر فاشل استراتيجياً
فشله في كل شيء آخر. حتى انه لا
يخفي وضعيته كنظام-عدو داخل
معادلات المنطقة.
وهذه مصيبة. إلا أن المصيبة
الأكبر هي أن القوة السياسية
الوحيدة القادرة على أن تكون
بديلا له، هي الأخرى فاشلة، بل
أنها (إذا شئت زيادة في المصائب)
أكثر فشلا منه إذا ما تعلق الأمر
بالموقف من الدور الذي تلعبه
إيران.
على الأقل يستطيع نظام الرئيس
حسني مبارك أن يقول انه يتصدى
للطموحات الإقليمية الإيرانية
دفاعا عن دور مصر. بينما يتخذ
بديله السياسي موقفا مضادا، يُضعف
به نفسه، ويُضعف دور مصر.
ماذا يبقى من المعارضة، إذا ظهر
أنها أسوأ من نظامها نفسه؟
ماذا يبقى من القيمة التي يمثلها
"البديل"، إذا ظهر انه يجازف
ويناكف؟
وثمة بيننا منْ كان يعوّل على قوة
سياسية تتمتع بنفوذ شعبي واسع
للتغيير في مصر. ولكن ها هي تفضح
نفسها.
مصر على أي حال، لا تنتج أدبا
شعبيا لا تعنيه. فهي تفاجئك بخيبة
الأمل لتخرج منها قائلا "جبتك يا
عبد المعين تعينني، لقيتك يا عبد
المعين تعبان".
فعبد المعين الإخوان المسلمين،
بدلا من أن يعيننا في إعادة مصر
الى مكانتها كقوة قيادة تحررية في
المنطقة، ها هو يعلن تبنيه ودعمه
للمشروع الإيراني، ليقول، أولا،
انه تعبان، أي غير قادر على أن
يقدم مشروعا خاصا به. وثانيا، انه
بتخبطه الاستراتيجي يترنح تحت
القمع. وثالثا، انه لم يعد له ما
يقدمه لمؤيديه. ورابعا، انه يستحق
المضي قدما في طريق الانحلال
والاضمحلال.
وهذا جيدٌ في الحقيقة. على الأقل
لأنه يخلصنا من خدعة كان من
الأولى ألا ينخدع بها أحد.
واليوم، أفضل من الغد. على الأقل
لكي لا تجد مصر نفسها انخرطت في
مشروع دجل ديني لتخرج منه قائلة:
"جات الحزينة تفرح، ما لقتش لها
مطرح".
فمنذ أن تمكن ايات الشيطان في
إيران من شراء بعض الضمائر بدعم
بخس، وشعارات منافقة أبخس، صار
زعماء الأخوان المسلمين يدافعون
عن المشروع الإيراني ويعلنون
مساندهم له ويشيدون بدعمه لحماس
وحزب الله وموقفه من القضية
الفلسطينية.
السيد مهدي عاكف الأمين العام
للحركة وجد نفسه قادرا حتى على
ابتلاع القواعد الأميركية في قطر
قائلا لصحيفة "الحياة" السعودية:
"إن قطر تستضيف قواعد أميركية
ومكتباً صهيونياً، ووقفت موقفا
رجولياً".
يا عين، يا ليل!
هل هناك أفضل من هذا "وضوح رؤية"؟
هل هناك شطط أكثر بلاغة من هذا
الشطط؟
يعني، بيني وبينك يا سيد عاكف،
ونحن "نعرف البير وغطاه"، فأما أن
تكون هذه هي "المواقف الرجولية"،
أو لا تكون!
بل من سيكون بحاجة الى مواقف
رجولية إذا كان لديه قطر؟
فهذا البلد لم يترك حربا إلا
وخاضها دفاعا عن القضايا الثورية
العالمية. ولم يترك مناسبة
للتطبيع مع الثوار إلا وفتح لهم
مكتبا. ولم تظهر قضية قومية إلا
وتصدى لها بالرأي والرأي الآخر.
فهل هناك أكثر من هذا رجولة؟
ويستطيع المرء أن يزيد السيد عاكف
من هذه المواقف بتذكيره أن إيران
تتواطأ مع الاحتلال الأميركي
للعراق، وتذبح المقاومين، وتمول
مليشيات حرب الإبادة الطائفية ضد
السنة، وتمكنت من تهجير ملايين
الأبرياء من ديارهم لتخل بالتوازن
السكاني لحساب مشروعها الطائفي،
إلا أنها تتخذ "مواقف رجولية"
ليست أقل أهمية من "المواقف
القطرية" في دعم القضية
الفلسطينية.
شيء من تهافت التهافت هو ما يجعل
حركة الإخوان المسلمين تجد نفسها
تبحث عن الرجولة في دفتر شيكات
تفتحه قطر وطهران.
ولكن، إذا كنا انتهينا من معترك
التحرر والتغيير، بهذا المستوى من
البهدلة العلنية، فـ"عليه العوض
ومنه العوض".
لا أدري، ولا حتى الجن الأزرق
يدري، ما هي الأجندة وراء تحوّل
قطر الى أدغال للثوار الذين تقطعت
بهم السبل. ولكن ما يستطيع حتى
الأعمى أن يراه هو أن إيران
تستمطي القضية الفلسطينية لتبني
لنفسها دورا إقليميا أوسع من أي
دور تلعبه أي قوة أخرى في
المنطقة.
وهي تفعل ذلك، ليس لأنها قدمت
تضحيات على مذبح الصراع
العربي-الإسرائيلي، وليس لأنها
أطلقت طلقة واحدة ضد إسرائيل، بل
لأنها أوقعت بعض ذوي الحاجة في
براثن الدجل.
وعلى أبواب حوار مع الولايات
المتحدة، تريد إيران، بفضل هذا
الدجل، أن تقدم نفسها كلاعب يمسك
بالمفاتيح الأساسية للاستقرار في
المنطقة.
حتى قبل أن تعترف الولايات
المتحدة بهزيمتها في العراق لحساب
إيران، كان "الملف النووي" هو
القضية الوحيدة المطروحة على
طاولة المناوشات والضغوط بين
الطرفين.
ماذا لدينا اليوم؟
إيران والولايات المتحدة متفقتان
عمليا، كما تدل كل الإشارات
الصادرة عن الطرفين، على أن "هناك
طائفة من القضايا" التي يتعين
بحثها من خلال الحوار.
وهذه القضايا تشمل مستقبل العراق،
وأمن الخليج، واستقرار لبنان،
وعملية السلام في المنطقة،
ومكافحة الإرهاب، والتعاون في
أفغانستان.
بوضوح، فهذه أوراق حوار بين قوى
عظمى. والملف النووي لا يشكل
بينها سوى معترك ضمانات للتوصل
الى تسويات شاملة.
وكل ما فعلته إيران لتبلغ هذه
الإمكانية هي أنها استمطت مليشيات
طائفية، ودفعت أموالا هزيلة
لحركات مقموعة، ووفرت منبرا
للشعارات الفارغة.
هذا هو فخ الشيطان الذي وقعت فيه
حماس. ومن هذا الباب تدخل شقيقتها
حركة الأخوان المسلمين في مصر
لترى حتى في القواعد الأميركية في
قطر مصدرا للرجولة.
فأي رجولة ترتجى في مصر الإخوان،
إذا كان مثالها إيرانيا وقطريا.
ما لم يره الأخوان في مصر، هو أن
إيران تلعب لحسابها، لتبيع
لحسابها.
أما قطر فأنها تلعب وتبيع
لحساب القاعدة العسكرية
الأميركية.
ففي النهاية، يمكن "للحدق أن
يفهم".
إذا كانت أدغال الثورة موجودة
في قطر، فأي نهاية سوف تنتهي
الثورة؟ وإذا كان المشروع
الإيراني صار هو المحور، فأي بديل
سيأتي لنظام الفشل الاستراتيجي في
مصر؟
وقد أهلك القمعُ حركةً كانت، في
وقت من الأوقات، تفكر وتخطط
وتتوسع، ولكنها انتهت، بالوقوع في
فخ الشيطان، الى ضياع وتخبط وشطط.
وبدلا من أن تكون مصر التغيير هي
الخيار، صارت إيران هي المحور.
الأدب الشعبي المصري لم يبن حكمته
بلا معنى. ولكنه قال: "اللي كواها
البين، تطبخ محشي".
ومن هذا "المحشي" قد تريد إيران
شيئا، ويريد الأخوان آخر، إلا أن
حال العلاقة بينهما من حال
"الأعمى اللي اتجوز طارشة، لا هو
شايفها ولا هي سمعاه".
|