لا تستطيع السعودية أن تقول أنها
لم تر الخطر قبل وقوعه. فقد كان
ماثلا.
كما لا تستطيع أن تقول إيران
وحدها تقف وراء الاضطرابات التي
يسببها الشيعة. فهذه حجة ناقصة.
ولكن الأهم، الأهم، هو أنها لا
تستطيع أن تلوم إصلاحاتها، وهي ما
تزال في البيضة، على تلك
الاضطرابات، فهذا عذر أبشع من
ذنب.
ثمة تاريخ طويل من التوترات
الطائفية في المملكة. هذه
التوترات موجودة قبل أن توجد
"الثورة الإسلامية" في إيران.
وبالتأكيد، فأنها موجودة قبل أن
تتحول إيران الى قوة إقليمية لا
تُضارع.
والسبب الرئيسي وراء هذه التوترات
يعود، إذا أمكن للصراحة أن تنطق،
الى الموقف المتشدد، بل
والعدواني، الذي تتخذه المؤسسة
الرسمية السعودية، ومنها "هيئة
الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر"، ليس تجاه الشيعة وحدهم،
بل تجاه كل ما خلق الله من ديانات
ومذاهب أخرى.
ما يميز الشيعة السعوديين، في هذا
الموقف العدواني، هو أن حصتهم من
اللامساواة والتمييز والتهميش
والاضطهاد "شوّية" أكثر.
وللكثرة سبب إضافي، غير الموقف
الديني المتوتر الذي تتبناه
المؤسسة الرسمية السعودية، هو أن
الشيعة السعوديين يشكلون أغلبية
سكانية في المنطقة الشرقية. وهذه
المنطقة هي مصدر أربعة أخماس
الثروة النفطية في المملكة.
المخاوف من تنامي نزعة انفصالية
في هذه المنطقة، ظل مرتبطا
بالمخاوف من ضياع تلك الثروة.
ولكن، بدلا من تبني سياسة دمج
فعالة للأقلية الشيعية، تزيد في
ميلهم الى وطنهم، وتُبطل التطلع
غير المشروع الى إيران، فماذا
فعلت المؤسسة الرسمية؟
زادت في القمع. كما زادت في
سياسات العزل والتهميش، حتى
لكأنها تعمل، بالضبط، لحساب ما
كانت تخاف منه.
والخطر كان ماثلا، ليس بسبب
الوجود المجرد لتلك الأقلية، أو
لرغباتها في ممارسة شعائر
"وثنية"، ولكن بسبب تلك السياسات
القمعية؛ بسبب الرؤية الضريرة
التي تنظر بها المؤسسة الدينية
السعودية للمذاهب الإسلامية ولكل
الأديان الأخرى؛ وأخطر من ذلك،
بسبب طبيعة المشروع السعودي نفسه.
هذا المشروع، بدلا من أن يكون
مشروعا وطنيا، تحت راية آل سعود،
يمتص ويذيب ويحتوي كل مكونات
المملكة الاجتماعية، تحول الى
مشروع مذهبي مغلق على الوهابية
وحدها.
والوهابية مذهب، يحق لأتباعه أن
يعتبروه الأصوب، ويحق للمؤسسة
السياسية السعودية أن تعتبره
جوهريا وأساسيا في تمثيل هوية
المملكة. ولكن ما ليس لأحد الحق
فيه، هو أن يُتخذ هذا المذهب، كما
أي مذهب، كأساس للقسمة والتمييز
بين مواطني البلد. فهذا مشروع
تناحر له أول وليس له آخر.
السعودية التي تتصدر الدعوة الى
"حوار الأديان"، أولى بها، وأكثر
منطقية، أن تتصدر الدعوة الى
الحوار بين مذاهبها هي نفسها.
منطق الحاجة الى الحوار بين
الأديان، إذا كان من وجهة نظر
المؤسسة الرسمية منطقا سليما،
فبالله لماذا لا يمتد ليشمل
الحوار بين المذاهب الإسلامية
نفسها؟ وبالله لماذا لا ينطوي على
استعداد لاتخاذ كل ما هو ضروري
لجعله مشروع عمل وطني للاحتواء
والضم والاستيعاب؟
طبعا، هناك شكوك جديرة بالاعتبار
تقول أن كل القصة من وراء الدعوة
لحوار الأديان هي مجرد ستار
دبلوماسي للتبرؤ من المسؤولية عن
هجمات 11 سبتمبر، ولكن حتى ولو
كان هذا الستار صحيحا، فمن الستر
نفسه أيضا أن يبدو شاملا.
صادقاً مع منطقه يجب أن يكون
الحوار. فالمرء لا يتحاور مع
الجيران في شأن من شؤون الدين،
ويرسل جلاوزته ليضرب أخيه في شأن
آخر من شؤون الدين أيضا.
اضطراب عقلي كهذا، هو ما يقف وراء
الاضطراب الشعبي والمواجهات بين
"الشيعة" و"السنة".
ثم ما رأيك لو قيل أن الوهابية
ليست سوى طرف قصي من مذاهب
"السنة"؟ فهل نرسل الجلاوزة لقمع
الحنفيين والحنابلة والشافعيين
والمالكيين أيضا؟
ثقافة تسامح هي ما ينقص رؤية
المؤسسة الرسمية السعودية
(الدينية والسياسية معا).
ولكن على الرغم من سهولة المفهوم
وكثرة تداوله، فان واقع الحال
يثبت أن هناك بين السعودية وبين
"ثقافة التسامح" ملايين السنوات
الضوئية.
أمعقول؟
يمكن للمرء أن يسأل.
هل يمكن للسعودية، بنظرتها
الضريرة للعالم، أن "تتسامح" مع
أي شيء أو أي أحد؟
الجواب: نعم، معقول.
أولا، لأن هذا هو مجرى التاريخ.
فالموقف الأصولي المتشدد لم يتحول
الى فضيحة من دون سبب. كما أثبت
انه يسير بالمملكة عكس الاتجاه
بكلفة قد تصبح باهظة جدا.
ثانيا، السعودية لا تجد نفسها
تضطرب لأنها تجرب شيئا من
الإصلاحات، بل لأن إصلاحاتها
تأخرت كثيرا جدا.
ثالثا، لقد آن الأوان للمشروع
الوطني، تحت راية آل سعود، أن
يظهر وطنيا، لا مذهبيا. فهذا هو
الضمانة الوحيدة، الوحيدة بالفعل،
للنأي بالبلاد عن مخاطر
الاضطرابات والتوترات والمخاوف
والقسمة.
من المفهوم لماذا يحرص أصحاب
الرؤية الضريرة للعالم على القول
أن مشروع الإصلاحات، رغم انه
اقتصر على تبديل كراسي فحسب، هو
السبب وراء اندلاع تلك
الاضطرابات.
هذا موقف مربوط فقط بأرجل الكراسي
المتهاوية. وهو يتجاهل تاريخا من
التوتر الطائفي يعود أصله الى
الموقف الطائفي الذي كانت، وما
تزال، تتبناه المؤسسة الرسمية.
وهو موقفٌ يعوّل على ثقافة القمع،
لا التسامح؛ يعول على العصي، لا
الحوار.
والعصي لم توصل الى نتيجة.
بالأحرى، فقد ظلت المؤسسة
السعودية تراهن على ثقافة الضرب
بالعصي حتى لم تعد الظهور
الملتهبة تتأثر بها.
وكان من الطبيعي للغاية أن يجد
الضحايا أنفسهم يتظاهرون،
ويستمدون من التظاهر عزيمة أخرى
على التظاهر مجددا.
والحال، فكلما زاد عدد المعتقلين
والقتلى، كلما أثبت القمع فشله
أكثر.
ولا تستطيع السعودية، في هذا، أن
تقول أنها لم تكن تعرف أن انفجار
ما بعد القمع مدخلٌ لانهيار أكبر.
كل تجارب التاريخ تثبت ذلك.
بدلا من السقوط في إغراء العودة
عن مشروع الإصلاح، فالصحيح هو
المضي به قدما، بل وتحويله الى
مشروع نهضة وطنية شاملة تطيح
بالرؤية الضريرة، وتسبق الطائفية
لتلحق بالوطن (وفي الأقل، لتحلق
عليه).
شيء واحد، يجب فعله فورا، هو كسر
العصي. هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، يجب أن تمارس
المعروف بين الناس، وتنهى عن
الضرب.
البشر ليسوا حميرا. وإذا ثاروا،
فإنهم لا يرفسون الكراسي فقط.
بدورها التخريبي والضلالي
والمتشدد، صارت هذه الهيئة هي
المنكر بعينه.
عصي هذه الهيئة، حيثما فشلت في
جلب الاستقرار، فأنها توشك على أن
تكسر ظهر الوطن.
وما لم تتكسر العصي اليوم، فأنها
لن تتكسر وحدها غدا.
كل ما يجري اليوم هو تجربة لما
سيأتي لاحقا. انتظر سنة أخرى
وسترى كيف ستحل ذكرى وفاة الرسول
وكيف ستتحول المواجهات الى سفك
دماء له أول وليس له آخر، على طول
المسافة من القطيف حتى بقيع
الغرقد.
ساعتها، لن تستطيع المملكة أن
تقول أنها لم تر الخطر قبل وقوعه.
فهو ماثل اليوم، بأكثر مما كان
ماثلا. |