بالكاد تستطيع حكومة "الثورة الإيرانية" أن تقدم نموذجا لإدارة رشيدة
لأي وجه من وجوه الحياة العامة في إيران. فبعد مضي 30 عاما على تولي
العمائم للسلطة، ما يزال الفقر والبطالة والتضخم والتوتر الاجتماعي
يشكل السمة الغالبة على الأوضاع في البلاد.
وبالكاد تستطيع الحكومة الطائفية في بغداد، وهي الأخرى حكومة عمائم
إيرانية، أن تقدم نموذجا لأي شيء. فالفساد وأعمال النهب والنصب والتفسخ
بلغت من الشدة الى حد أن المرء لا يستطيع أن ينظر الى الأوضاع في هذا
البلد من دون أن ينتابه شعورٌ طاغٍ بالغثيان.
وبالكاد تستطيع العمائم الطائفية لتجار الدين من ملالي النموذج
الإيراني في كل مكان آخر أن تكون مصدرا لرؤية إنسانية متحضرة من أي
نوع. وباستثناء ثقافة اللطم، فان هذه العمائم من الخلاء والخواء بحيث
أنها لا تنطق في شيء ألا ويخرج من منطوقها كل ثعابين التخلف والكراهية
والعنف.
مع ذلك، فان التحركات الطائفية في الكويت والبحرين والسعودية، توحي
وكأن شيئا ما يتجدد في قوة الدفع التي أثارتها الثورة الإيرانية قبل
ثلاثين عاما.
ما هو هذا الشيء؟
انه ببساطة، ليس ما تكرسه إيران (وأتباعها) من فشل، ولكن ما تكرسه دول
المنطقة نفسها من فشل في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية
والثقافية التي تلهب المشاعر وتقرر اتجاهات المصائر.
ولأنها انعكاساتُ فشلٍ يتأسسُ فوق فشل، فليس من المستغرب أبدا أن تبدو
تلك التحركات الطائفية خاوية من كل معنى جدير بالنقاش.فهي لا تقدم رؤى
فكرية جديدة، ولا تطرح معالجات ثقافية جادة، ولا تخوض في سجالات تتعلق
بصنع المستقبل.
وهي لا تقتصر على كونها مشروعا للطم لان بكائياتها قائمة على مشاعر ظلم
مزيف، بل لأنها مشروعٌ لحرب أهلية قذرة تُحرّض عليها عمائم الجهل،
ويخوضها الغوغاء، ويقطف ثمارها سقط المتاع.
"النموذج" العراقي أكثر من صارخ في هذا المجال.فعدا عن أعمال النهب
التي تمارسها أعلى مراكز السلطة، يكاد لا يوجد مرفق أو منصب إلا وصار
يغمره الأميون وأنصافُ المتعلمين والأفّاقون.
لماذا؟
لسبب يتعلق بطبيعة المشروع الطائفي نفسه.
فهو مشروع للتلفيق التاريخي، أولا. وللدجل الفقهي، ثانيا. ولانعدام
المسؤولية الوطنية، ثالثا.
على هذه الأسس صار الرعاع والمأجورون والقتلة هم المادة الأساسية
للمشروع الطائفي.
هذا الواقع لا يعفي دول المنطقة، ومنها الكويت والبحرين والسعودية، من
فشلها الخاص.
المشروع الوطني في هذه الدول عندما أصبح موضع شكوك (سواء منها ما يتعلق
بتوزيع الثروة، أو بثقافة الانتماء، أو بقيم العدالة والمساواة
الاجتماعية)، فقد كان من الطبيعي أن يترك فراغا متزايدا للمشروع
الطائفي.
الفساد المستشري في الكثير من أركان "الدولة الوطنية"، يثبت أولا، أنها
"لاوطنية"، ويغري ثانيا، بتحوله الى "علاقة" من علاقات التفسخ التي
تنخر في النظام الاجتماعي والسياسي في آن معا.ويبرر للانحطاط الطائفي،
ثالثا، أن يقدم نفسه كمصدر لتوفير الحماية من أضرار الفساد.
وسرعان ما تتحول الحماية الطائفية من الفساد الى مصدر أشنع للفساد،
أولا، لأنها تعيد تنظيمه (من فساد فردي الى فساد جماعي).وثانيا، لأنها
توفر له غطاء "شرعيا" (تحوّله الى "خُمس").وثالثا، لأنها بقلب
"اللاوطني" الى طائفي، لا تبدو وكأنها تصنع خرقا.
وحيثما يرافقُ الفشلَ الداخلي فشلٌ خارجي، فان قليلا من المعنى هو ما
سيبقى للدولة في أعين مواطنيها.
وهذا دافعٌ تقليدي للتمرد.
فدولة لا قيمة لها في الخارج، لا قيمة لها في الداخل.ودولة تتصرف
كالمطية في قضايا حساسة ومؤثرة مثل القضية الفلسطينية، سرعان ما تسقط
من العين بالمستوى نفسه من الزخم الذي تمثله هذه القضايا في أعين
الناس.
إيران لم تقدم للقضية الفلسطينية شهيدا واحدا.وعندما دمرت إسرائيل غزة،
وضعت طهران ذيلها بين قائمتيها الخلفيتين صمتا.وفي المقابل، وجدت
السعودية نفسها تقدم بمفردها نحو نصف تكاليف إعادة الإعمار.
ومع ذلك، فقد ظلت إيران تجعجع، وتكسب ثمار الجعجعة، بينما تتلقى
السعودية الانتقادات.
كان من الأولى بالسعودية أن تجعجع أيضا، لكي ترفع من قيمتها المعنوية
أمام مواطنيها.فعلى الأقل، هناك مالٌ وراء الجعجعة.
المعركة بين الطائفي والوطني قد يمكن كسبها في إطار مشروع داخلي
للتنمية والإعمار والشراكة العامة. كما يمكن كسبها في ظل نظام يحفظ
حقوق الأفراد ويعاملهم كأفراد، لا خيمة تظللهم غير خيمة الوطن.ولكن هذا
لا يُغني عن الحاجة الى رفع سقوف المعركة. فالقومي، أو الإقليمي، أو
حتى العالمي، لا يكشف صغر وسفالة المشروع الطائفي، فحسب، ولكنه يُعرّيه
ويجرده من مؤثراته الشعبية أيضا.
وقوف السعودية، على سبيل المثال، الى جانب الفلسطينيين، يحميها في
الواقع من عُصاب الطائفية المستشري في داخلها.
وقيامها بدور إقليمي فعال يرفع من شأنها ليس في أعين أمة محمد، ولكن
على الأقل في أعين مواطنيها بالذات.
وثباتها على طريق الإصلاح الثقافي يرسخ أقدام نظامها السياسي حتى وإن
بدت الحرية حافزا (مؤقتا) للقلاقل.
المشروع الوطني يمكن أن يثبت وطنيته (ويُظهرها) إذا ما أمكن للدولة أن
ترعى برامج كبرى لمكافحة الفقر أو الأمية أو البطالة، أو حتى لمد سكة
حديد توصل أطراف البلد بأطرافه.
هذه البرامج، إذا ما ثبت أنها نموذج للنزاهة الوطنية، وإذا ما أتت
ثمارا ملموسة، فعدا عن أنها ستوفر بيئة عمل وحركة اجتماعية مغايرة،
فإنها ستوفر بيئة "حكي" ومجادلات مغايرة أيضا.
على الأقل، نستطيع ساعتها أن ننشغل بـ"حكي" آخر أكثر فائدة من القيل
والقال الطائفي.
إيران نفسها، على فشلها كله، تستخدم القضية الفلسطينية للتغطية على
مشاكلها الاقتصادية، وتستخدم التفوق العسكري للتغطية على الانهيار
الاجتماعي، وتستخدم التوترات مع دول المنطقة، وتزيد أوارها اشتعالا
بالتهديدات، لتغطي على التوترات العرقية والطائفية فيها،.. وهكذا.
أولى بنا نحن، أن نصنع من الفشل نجاحاً.
أولى بنا أن نعيد بناء المشروع الوطني، وان تعود "الدولة الوطنية"
لتثبت أنها وطنية بالفعل، لا دولة نهب وفساد وفشل.
هكذا تسقط الطائفية.
|