ما إن وقع العراق تحت الاحتلال،
حتى بدأت الإدارة المحتلة، تنفيذ
جملة إجراءات تناولت بنية الكيان
الوطني، وكان أولها حل الجيش
العراقي وتفكيك المؤسسات
الارتكازية الوطنية الأخرى. كما
أنه لم يتأخر الموقف طويلاً على
إنجاز هذه الإجراءات حتى بدأ
الإعداد لسن تشريعات تحت عنوان
وضع دستور جديد، كان أبرزها
اعتماد النظام الفيدرالي، ليس
لكون العراق يتوزع سكانياً على
كتلتين، الأولى تشكل الخط الأكثري
وهي العرب، والثانية تشكل الخط
الاقلوي وهي الأكراد، بل لإيجاد
واقع تقسيمي جديد، يعطي لكل ثلاث
محافظات متجاورة الحق بتشكيل
إقليم على غرار ما هو قائم في
الشمال في المنطقة المعروفة
"كردستان العراق". وقد ورد في
مشروع الدستور الذي جرى التصويت
عليه في إشراف الاحتلال على أن
المناطق التي تشكل أقاليم تتمتع
بحكم ذاتي، سواء لجهة تشكيل
حكومات محلية، أو أجهزة أمنية لا
ترتبط بالسلطة المركزية، أو لجهة
ميزانيات خاصة، وأن تكون لها حصة
محددة من الثروة النفطية وعلى أن
تمنح الأقاليم التي تقع الآبار
النفطية في نطاقها بامتيازات خاصة
فضلاً عن منح حكومات الأقاليم حق
التمثيل القنصلي في الخارج بحيث
يصبح لكل إقليم ممثلاً قنصلياً في
السفارات العراقية.
هذه التشريعات التي شكلت ناظماً
لما سمي بالعملية السياسية، كان
الهدف منها تقليص صلاحيات السلطة
المركزية والتي جاءت متماهية مع
النصوص "الدستورية" التي فرضت
التطييف على الحياة السياسية، من
خلال توزيع المواقع والمناصب على
ممثلي الطوائف.
إن هذا الواقع الذي فرضه
الاحتلال، وعمد إلى تشريعه،
استجابت إليه بسرعة القوى التي
دخلت الحياة السياسية محمولة على
ناقلات الاحتلال ولتقدير منها بأن
أمد الاحتلال سيطول كثيراً وأن
مصالحها الذاتية تقتضي التكيف بما
تمليه مصالح الاحتلال الذي كان
يبني كل خططه الإستراتيجية. على
طول البقاء في العراق باعتباره
اختاره منطلقاً لتشكيل ما سماه
"الشرق الأوسط الجديد".
أما وان حسابات المحتل
والمتعاونين معه حتى لا نقول
المتحالفين معه، لأنهم ليسوا في
الموقع الذي يمكنهم من التحالف،
قد خابت ووقعوا بسوء التقدير
السياسي، بسبب عامل جوهري وحيد،
هو المقاومة التي انطلقت بأسرع
مما توقع كثيرون، وفرضت وجودها
وتأثيرها على المحتل وأعوانه
والتي جعلت الاحتلال يواجه مأزقاً
حاداً انعكس على المتعاونين معه
أيضاً، وازدادت حدة هذا المأزق،
إلى أن وصل إلى مستوى جعل إدارة
الاحتلال تبحث عن مخارج، خاصة
بعدما تحول الاحتلال وتداعياته
والخسائر الكبيرة التي منيت بها
أميركا إلى واحدة من سجالات
الداخل الأميركي، وكانت الحاضر
الأكبر في الحملة الانتخابية التي
أودت بكل الطاقم السياسي الأميركي
الذي نَظّر للعدوان ومن بعده
للاحتلال واستمراره وبمجيء إدارة
أميركية جديدة وتغيير في الرؤية
الأميركية للتعامل مع الأزمات
الدولية الكبرى، كان لا بد لأن
تكون أزمة الاحتلال الأميركي
حاضرة في حيثيات أولى التوجهات
الأساسية للإدارة الجديدة.
إن الإدارة الأميركية الجديدة،
أعلنت أنها ستخرج من العراق
وستترك العراق لأهله، وهذه لم تكن
يقظة ضمير، بل كانت نتاجاً
طبيعياً لمعادلة الربح والخسارة
في الخطة الأميركية التي أرادات
من خلالها تطويع المنطقة والعالم
انطلاقاً من نظرية الصدمة والرعب.
أما وقد تبين بالحس والملموس، أن
نظرية الصدمة والرعب أعطت نتائج
عكسية، إذ تحول الصادم الأميركي
إلى مصدوم من المقاومة وفعاليتها،
والمرعب الأميركي إلى مرعوب من
مناضلي العراق الذين دخلوا مواجهة
غير متكافئة في ظروفها ومعطياتها
المادية، لكن باختلال واضح في
موازين القوى لجهة مشروعية
المواقف، بحيث تفوقت المشروعية
كنقطة قوة في المشروع السياسي على
القوة المادية التي وان استطاعت
أن تدمر الحجر وتعذب البشر إلا
أنها لم تستطع أن تدمر إرادة
المقاومة، وبذلك وضع الشعب في
العراق نفسه على سكة الانتصار
بعدما استطاع الانتصار في صراع
الإرادات.
ننطلق من هذا المعطى، لنقول أن
الاحتلال كان يعمل لإطالة أمد
وجوده استناداً إلى واقع تقسيمي،
مفروض على الأرض ومنسحب على
الممارسة السياسية من خلال النص
وتطييف الحياة السياسية، وبمعنى
آخر، أن الاحتلال هو الذي أطلق
العنان للتقسيم، إذ أن استمرار
الاحتلال لأطول فترة ممكنة سيكون
مرهوناً بمدى بقاء الواقع
التقسيمي قائماً ورعايته لصراع
داخلي يجعله في النهاية ملاذاً
لكل المتصارعين على مغانم السلطة
وامتيازاتها، والواقع التقسيمي
سيبقى قائماً وسترسم حدود جغرافية
بين مناطق وحدود سياسية بين
أطرافه، بحيث تصبح عملية إعادة
التوحيد أكثر صعوبة وأكثر تكلفة
كلما طال أمد الاحتلال وكلما طال
بقاء الواقع التقسيمي والذي يتحول
مع الزمن إلى واقع مشرع.
إذاً، الاحتلال مرادف للتقسيم،
والعكس صحيح، حيث أن نقيض
الاحتلال هو نقيض كل إفرازات هذا
الاحتلال وبشكل خاص الإفراز
التقسيمي. وأنه بالقدر الذي تضعف
فيها ركائز الاحتلال تضعف فيه
التغطية السياسية للقوى التقسيمية
وتلك المستفيد منه وانطلاقاً من
قاعدة جوهرية وهي أن التحرير
والتوحيد هما حالتان تتفاعلان
فيما بينهما إيجابياً.
هذه الحقيقة السياسية، استوعبتها
المقاومة الوطنية في العراق
استيعاباً جيداً وبنت
إستراتيجيتها على أساس ربط هدفي
التحرير والتوحيد ربطاً فعلياً
بالموقف والممارسة.
وعلى هذا الأساس، فإنه في سياق
نضالها التحريري، سعت إلى إنشاء
تحالف عريض بهدف حشد أوسع اصطفاف
سياسي وشعبي حول شعار التحرير
ولتقدير منها ان المحتل يبقى هو
الحلقة المركزية الذي يجب أن يؤطر
الموقف ضده، ولتقدير منها بأنه
الأساس في رعاية وحماية الحالة
السياسية التي اجتمعت في ظله، أنه
بزواله ستسقط الهيكليات والتراكيب
السياسية والأمنية التي أنشأها.
ولهذا تعاملت المقاومة بمرونة
وإيجابية، مع كثيرين لا يشاطرونها
الرؤية السياسية للنظام السياسي
لمرحلة ما بعد الاحتلال، طالما
أنهم يلتقون على رؤية وتقييم واحد
للاحتلال ومخاطره وحجم تقاطع
مصالحه مع قوى أخرى تناصب العراق
العداء ان لجهة وحدته أو لجهة
عروبته.
أما وأن الاحتلال قد وضع نفسه على
سكة الخروج والانسحاب من العراق،
فإن دعوة المقاومة للتفاوض مع
المحتل على قاعدة الشروط الوطنية
التي تعيد للعراق وحدته وحريته
وسيادته واستقلاله السياسي تأتي
في السياق الطبيعي لحركة النضال
التحريري، التي بفضل مشروعها
المقاوم استطاعت أن تفرض على
المحتل الأميركي أن يعيد النظر
بكل إستراتيجيته ويبدأ وضع الخطط
التنفيذية لسحب قواته وبهذا
استطاعت المقاومة الوطنية
العراقية أن تفرض على إدارة
الاحتلال استبدال إستراتيجية
الاحتلال وإدامته، بإستراتيجية
الانسحاب وتسريعه.
إن وقوف المقاومة العراقية على
حافة تحقيق الانتصار السياسي على
المحتل وأعوانه، له دلالات كثيرة،
وأن أولى هذه الدلالات أن خروج
المحتل من العراق تحت وقع ضربات
المقاومة، يعني أن كثيراً من
القوى التي تعاملت مع الاحتلال
سوف تعيد النظر في مواقفها
وحساباتها إما لخوف من مصير قاتم
كونها ربطت نفسها بعجلة الاحتلال
الذي دخلت ومعه ستخرج، وإما
لانتهازية سياسية، بأنها تريد أن
تمهد الأرضية السياسية لتعامل مع
الواقع السياسي الجديد الذي سيبرز
بعد الاحتلال.
إزاء هذه الحالة التي ستتوضح
ملامحها خلال هذه المرحلة الفاصلة
ما بين إعلان النوايا الأميركية
بالانسحاب من العراق وانجاز هذا
الانسحاب بمراحله النهائية، كيف
تتعامل المقاومة مع هذا المتغير
الكبير؟
إنه لما لا شك فيه، ان الانسحاب
الأميركي هو متغير كبير
واستراتيجي، وان من استطاع أن
يفرض هذا المتغير لا يجد صعوبة
كثيرة في التعامل المتغيرات
الجانبية التي ستفرزها آليات
الانسحاب.
إن المقاومة التي أعطت أولوية
لعملية التحرير وقدمت التناقض مع
المحتل والمتعاونين معه على كل
تناقض سياسي آخر، لا شك أنها
ستكون أمام تحدٍ سياسي جديد، ألا
أو هو إعادة توحيد العراق على
قاعدة حفظ مقوماته الأساسية.
هذا التحدي الكبير، وهو إعادة
العراق واحداً موحداً، كونه
الثمرة السياسية الأهم التي يجب
أن يتم قطافها كناتج طبيعي لإنجاز
عملية التحرير. فتحرير العراق
وإعادة توحيده هما الأرضية
السياسية الصلبة التي يجب أن يقف
عليها شعب العراق، ليعيد بناء
ذاته وإعادة تأهيله بالنظر للمعطى
الايجابي الذي ستفرزه العملية
التحررية.
وكما تعاملت المقاومة بمرونة
واتساع صدر مع قوى سياسية وشعبية
لتأمين أوسع اصطفاف سياسي وشعبي
حول هدف التحرير فإنها المسؤولية
الوطنية والقومية تملي عليها أن
تتعامل بمرونة واتساع صدر مع كل
قوة سياسية وشعبية تعمل لأجل وحدة
العراق، كياناً وطنياً واحداً
موحداً.
فالمعركة لأجل إعادة توحيد العراق
توازي بأهميتها عملية تحريره، لأن
التحرير ان لم يؤد إلى التوحيد،
لا يكون قد أثمر النتائج السياسية
الوطنية والقومية المرجوة.
وإذا كانت عملية تحرير العراق تضع
حداً للقوى الاستعمارية ودورها
وتأثيرها في العراق، فإن عملية
توحيد العراق تحصن الجبهة
الداخلية، وتضع حداً لكل القوى
الطامعة بالعراق والتي لا تريد له
أن يستعيد وحدته، كي لا يعود
ويلعب دوره كسور واق للأمة
العربية على بوابتها الشرقية
وكموقع فاعل في دعم واحتضان قضايا
النضال القومي.
إن إعادة توحيد العراق، هي مهمة
كل العراقيين الذين يريدون لبلدهم
ان يعود ليتبوأ موقعه الطبيعي في
قلب أمته وفي محيطه الإقليمي،
وهذه الوحدة تحتاج إلى أوسع
اصطفاف سياسي حوله، لأنه بهذه
الوحدة يذاق طعم التحرير وبهذه
الوحدة يعاد الاعتبار لعروبة هذا
البلد، ويضيق هامش المناورة أمام
القوى الانفصالية التي تريد أن
يكون العراق مسرحاً وساحة لتدخل
الأطراف الخارجية والتي لا تخفي
إطماعها إن بخيراته وإن بدوره وإن
بموقعه.
وكما أن المقاومة طرحت موقف
التفاوض مع المحتل على قاعدة
الشروط الوطنية، فإنه لا ضير أن
تكون مبادرة إلى طرح استقبال كل
موقف سياسي يدعو إلى استعادة وحدة
العراق والى إعادة الاعتبار إلى
مؤسساته الوطنية الارتكازية
الجامعة، والى تعزيز سلطة المركز
على حساب سلطة "الأقاليم"
والأطراف.
إن العملية التحريرية كما تطلبت،
تشكلاً مركزياً للفعل المقاوم
وكان الفعل الجاذب الذي تأطرت
حوله كل فعاليات المقاومة، فإن
العملية التوحيدية تتطلب إعادة
تكوين المركز الوطني الجاذب، وإذا
كان المشروع السياسي للمقاومة شكل
ويشكل مركزاً جاذباً وطنياً ببعده
السياسي التوحيدي، فإن إعادة
تكوين السلطة المركزية بصلاحيات
تقريرية خاصة فيما يتعلق بالشؤون
والقضايا الوطنية الأساسية هو
الذي يفسح المجال أمام إعادة
تكوين المركز الوطني الجاذب الذي
تنشد إليه الأطراف بقوة الجذب بدل
أن يكون دوره مقتصراً على تنسيق
أدوار ومصالح الأطراف
"والأقاليم".
إن المقاومة عبر مشروعها السياسي
الذي استندت إليه كمشروع
استراتيجي، طرحت موضوع التعددية
السياسية كناظم أساسي للعمل
السياسي، وأن التشديد على هذه
التعددية على أرضية الموقف الذي
يدعو إلى وحدة وطنية فعلية
ومتماسكة هي الشرط اللازم لوضع
هذه التعددية موضع الالتزام بها.
وان من يعمل لتعزيز سلطة المركز
وتقوية صلاحياته وخاصة في مسائل
الأمن الوطني والسيطرة على الثروة
النفطية يفترض أن يكون له موقع في
خارطة الحياة السياسية الجديدة
لمرحلة ما بعد الاحتلال، وعليه
يجب أن يشجع كل اتجاه يدعو إلى
تحجيم صلاحيات الأطراف والأقاليم.
ولو كان هاجسه السلطة فتحرير
العراق هي الخطوة الأولى لاستعادة
العراق من براثن الطامعين به،
وإعادة توحيده هي الخطوة الثانية
لإعادة العراق إلى موقعه الطبيعي،
وبتحرير العراق وتوحيده تصبح
عروبته بمنأى من أي تشويه أو طمس،
وفيه تمارس الحياة السياسية على
القاعدة الديمقراطية السياسية
والشعبية ويجد الجميع أن حقوقهم
مصانة ومنهم الأقليات القومية.
إن الدعوة موجهة إلى المقاومة
باعتبارها الطرف الوطني المعني
أكثر من غيره بإعادة توحيد العراق
كما كانت معينة بتحرير العراق.
وعليها تقع مسؤولية استقبال
واستيعاب كل توق وحدوي وكل اتجاه
يدفع باتجاه تعزيز السلطة
المركزية كما كانت مسؤوليتها في
استقبال واستيعاب كل توق تحريري.
إن التحرير احتاج إلى اصطفاف
سياسي عريض، والتوحيد لا يقل
أهمية على ذلك، أنه أولوية جديدة
أمام المقاومة، وهو تحد يجب أن
تدخله بثقة بالنفس وتخرج منه
بنجاح. ومن يحرر العراق من أعتى
قوة استعمارية، يستطيع أن يوحده
ويعيده واحداً موحداً أرضاً
وشعباً ومؤسسات.
|