بين الحيرة والنكران لم يستطع
المسؤولون في المخابرات الأميركية
حتى الآن أن يفهموا التناقض
التالي: بعد تحقيقات استمرت ستة
أعوام، جرى خلالها تدقيق كل شيء
بحثا عن أدلة اتهام تثبت تورط
المئات من المحتجزين في
غوانتانامو، إلا أنها انتهت الى
إثبات براءة المتهمين. وعندما صار
من المنطقي إطلاق سراح هؤلاء
المحتجزين، فان بعضهم ظهروا
كإرهابيين بالفعل، وأعلنوا أنهم
ينتمون الى "تنظيم القاعدة"!
هل أخطأت معلومات الـ"سي.آي.أيه"؟
الجواب: لا.
ألم يكن التعذيب كافيا؟
الجواب: لا.
هل كانت هناك حلقات مفقودة في
التحقيق؟
الجواب: لا.
كيف حصل، إذن، أن أولئك الذين
"ثبتت براءتهم" والذين تم إطلاق
سراحهم على أساسها، يعودون
ليظهروا كإرهابيين؟
الجواب: غوانتانامو نفسه. انه
أكبر معسكر جذب واستقطاب حصل عليه
تنظيم "القاعدة" تحت الأضواء
الكاشفة حتى الآن.
وفعل سجن "ابو غريب"، وغيره
الكثير، ما فعله غوانتانامو، إذ
أصبح واحدا من أفضل المدارس
الوطنية لتخريج المقاومين.
ولكن المفارقة لا تتوقف عند هذا
الحد.
"القاعدة" لم تكن هي التي تستقطب
وتجتذب وتجند الإرهابيين، بل أن
ضباط التحقيق الأميركيين كانوا هم
الذين، في الواقع، يجندون الأعضاء
الجدد في "التنظيم".
هل كان هؤلاء الضباط، إذن، أعضاءً
سريين في "القاعدة" تسللوا الى
"سي.آي.أيه"؟
الجواب: لا.
الحقيقة هي أنهم ضباطٌ مخلصون
للولايات المتحدة الأميركية؛
مخلصون لقيمها (الحقيقية)؛ مخلصون
لعنصريتها؛ ومخلصون لمصالحها
القائمة على أساس القتل والتعذيب.
هذا الإخلاص نفسه، مشفوعا برؤية
جذرية وعنيفة، وبدوافع شخصية
مُرّة، هو الذي يدفع هؤلاء الضباط
الى ارتكاب أعمال وحشية ضد
ضحاياهم. وبسببها صار "الأبرياء"
مقاتلين.
الضباط كانوا ينظرون الى ضحاياهم
بعين تقول لهم أنهم إرهابيون.
(وفي العراق: بعثيون، قوميون،
مقاومون، سُنّة).
من هذا المكان، تسقط الحدود بين
الحق والباطل وتنهار القيم،
فيجيزون لأنفسهم ارتكاب كل شيء.
أيمكن للأبرياء أن يكونوا أبرياء؟
الجواب: مستحيل. فبما أنهم "ليسوا
معنا، فهم ضدنا".
لا يوجد أبرياء إذن. الكل عدو.
والكل يستحق الاعتقال والتعذيب
والقتل.
من هذه الرؤية بالذات، كانت
المليشيات الطائفية الحاكمة في
العراق تقود "فرق الموت" الخاصة
بها في عمليات القتل الجماعي على
الهوية للذين لا يمكن، بسبب مناطق
سكنهم، أن يكونوا أبرياء.
يكفي أنهم سُنة. وبما أنهم كذلك،
فهم ليسوا أبرياء. وهم مسؤولون
ليس عن أعمال وقعت في ظل النظام
السابق فحسب، بل وعن كل الأعمال
التي وقعت منذ مقتل الحسين أيضا.
الحسين قد يكون قُتل في كربلاء،
وليس في الرمادي، إلا أن عين
الوحشية التي تقود آلية صنع
الجريمة ما كان بوسعها أن تراه
إلا هناك.
في غوانتانامو، كان كل المعتقلين
إرهابيين، حتى ولو كانوا بعمر 8
سنوات.
وهناك، ما كان مسموحا لأي معايير
إنسانية أن تأخذ مكانها الطبيعي
في رؤية الأشياء.
أن يكون الطفل دون السن
القانونية، لا يحميه من تلك
النظرة التي تُلح على صاحبها
بالقول انه "إرهابي". والدليل...
انه مسلم.
وهي نفسها النظرة التي ما تزال
تلح على أعضاء المليشيات الطائفية
الحاكمة في العراق بالقول أن كل
العراقيين الآخرين، وبالتأكيد كل
المعتقلين، هم بعثيين وقاعدة
وتكفيريين ومقاومين. والدليل...
أنهم سُنة.
لا طفل، لا امرأة، لا شيخ، كان
بوسعه أن ينجو، وهو يحمل دليل
إدانته معه.
وما من قيمة إنسانية يمكنها أن
تحميك، بما أنك ارتكبت جريمتك قبل
أن تولد.
أعمال التعذيب والقهر التي ما
يزال يخوضها مليشيايو آية الله
الصفوي في العراق ضد مئات الآلاف
من الأبرياء، مثل أعمال التعذيب
التي يخوضها ضباط الـ"سي.آي.أيه"،
لم تكن دليلا إلا على شيء واحد:
عمى العين، وعمى القلب، وانعدام
الضمير.
وهذا ما يجعل الجريمةَ وحشيةً
بمستوى يزيد على الزائد.
وهم ظلوا يعتقلون ويعذبون
ويقتلون، حتى صنعوا من وحشيتهم
نفسها العدو الذي ما يزال وسيظل
يلاحقهم الى الأبد.
ثمة نوعٌ من الجرائم لا تزول
عواقبه من النفس، وتظل دماءه
تغلي، وتستصرخُ مطالبةً بالثأر.
من هذه الجرائم، وعلى أجساد مئات
الآلاف من الضحايا، بنى مليشيايو
آية الله الصفوي سلطتهم في
العراق.
وعلى مثلها صنع ضباط
الـ"سي.آي.آيه" من غوانتانامو
رمزا للوحشية والظلم والقهر
الجماعي.
حتى العجوز أمي التي لم تتخرج من
جامعة هارفارد ولا من أوكسفورد،
كانت تعرف "إن الظلمَ إذا زاد،
دمّر".
وبظلمهم، إنما دمّر الأميركيون
مكانة بلادهم واقتصادها. وبظلمهم
كانوا هم الذين يستقطبون
الإرهابيين.
هل كانوا لا يعرفون؟
الجواب: بلى، يعرفون. إلا أن
العمى غلب على عيونهم وعقولهم
وقلوبهم. فجعلهم وحوشا يكشفون عن
أسوأ ما النفس البشرية من انحطاط.
وحسنا، يفعلون. فقد كنا بحاجة الى
أن نراهم على حقيقتهم من دون زيف.
وفي العراق، كنا نريد أن نرى
العمامة وما تحتها. كما كنا نريد
أن نرى "القيم الأميركية" وما
تحتها، من دون زيف.
الأبرياء قد يكونون أبرياء، إلا
أنهم، إذ رأوا كيف تكون الجريمة،
فأنهم جنودا للحق والشرف والغيرة
يتحولون. وهذا ليس بكثير. انه حق
مشروع لرد الاعتبار على الأقل.
الظلم عندنا لا يمر مرور الكرام،
ومن دون ثأر فانه لا يموت.
الآن، يحتار المسؤولون في
البنتاغون في ما فعلوا في
غوانتانامو، حيرتهم وحيرة عملائهم
في العراق.
المعلومات صحيحة. وهي تقول انه لا
شيء يدين هؤلاء المساجين. ولكنهم
يعودون ليصبحوا مقاتلين.
كيف؟
بالظلم. بالوحشية نفسها التي
كانوا لها يتعرضون.
وهذا شيء جديد على الولايات
المتحدة. إلا انه ليس جديدا على
مليشياويي آية الله الصفوي.
العراقيون يعرفون جيدا ماذا يعني
الدم. وكان شاعرُهم يخاطبُ كلَّ
واحدٍ منهم بالقول:
"أتعلم أم أنت لا تعلمُ
بأن جراح الضحايا فمُ.
فمٌ ليس كالمدعي قولةً
وليس كآخر يسترحمُ.
أتعلمُ أن جراح الشهيد
تظل عن الثأر تستفهمُ
أتعلم أن جراح الشهيد
من الجوع تهضمُ ما تلهمُ".
والضحايا، إذا صاروا مقاتلين،
وإذا وجدوا أنفسهم يقتحمون غمار
الثأر عن وطنهم وعن شرفهم، فلأنهم
يقولون:
"تقحّم ـ لعنت أزيزَ الرصاص
وجرب من الحظّ ما يُقسمُ
وخضها كما خاضها الأسبقون
وثنِّ بما افتتح الأقدمُ".
...
فهل كانوا لا يعلمون، إن الظلم
إذا زاد، دمّر؟
بلى، يعلمون. ولكنهم به الى حتفهم
يذهبون. وحسنا يفعلون. |