منْ يقرأ موقف الشيخ عبدالعزيز آل
الشيخ، مفتي السعودية، من الشعر
لا يستطيع أن يمنع نفسه من
السؤال: هل قرأ هذا الرجل شعرا؟
هل يعرف ما هو الشعر، أو ماذا
يعني بالنسبة للعرب، وأي مكانة
يحتل في ثقافتهم وأدبهم، بل وفي
كينونتهم ووجودهم؟
هل عرف الأثر الهائل الذي تركه
الشعراء العرب في تاريخ أمتهم،
وفي صقل وتهذيب لغتها؟ وهل أدرك
القيمة الثقافية الخارقة للموروث
الشعري العربي؟ بل هل توجد أمة
عربية من دون شعر؟
ألم يلاحظ (وهو ضرير القلب
والعين) أن العرب هم الأمة
الوحيدة في كل أرجاء الكون التي
تقول أن الشعر ديوانها؟
ودع عنك "أغراض" الشعر التقليدية،
فهل عرف شيئا من معاني الوجود
التي أفضت عنها مطارحات الشعراء
العرب عبر العصور؟
ألم ير أبدا أنهم كانوا (بلغة
عصرنا) ثوارا ومجاهدين ضد الظلم
والتعسف والحرمان، حتى وهم في
الجاهلية؟ ألم يسمع بشاعر وقف في
مقدمة أمته ليدافع عن قيمها
وأخلاقياتها؟
ألم ير شعراء كانوا في مقدمة
المقاتلين من اجل حرية أوطانهم
وسؤدد شعوبها؟ ألم يعرف شاعرا
داوى جراح أمته واستنهض همتها
بوعد من الكرامة والبطولة؟
ألم يعرف، بأي طريقة من الطرق، أن
العرب والعربية والعروبة ليست إلا
اختراعا من شعرها بالذات؟
ألم ير أن أمة مثلنا صنعها الشعر،
إذا كانت تطالب بالحرية، وتقاتل
من أجلها، فلأن شعراءها أحرار؟
إن لم ير ويسمع ويعرف، فهذه
كارثة. وواضح، أن الكارثة
الحقيقية هي أن ما يراه جاهليا
(بالمعنى التاريخي) هو نفسه جاهلي
(بالمعنى الحرفي).
عندي قصيدة أريد أن اصفع بها
الجهل على وجهه، تقول: "إذا الشعب
يوما أراد الحياة، فلابد أن
يستجيب القدر" (ابو القاسم
الشابي).
وعندي أخرى تقول: "ويوم نضت فيه
الخمول غطارفٌ، يُصان الحمى فيهم
وتٌحمى المطالعُ/ تشوّقُهم للعز
نهضةُ ثائرٍ، حنين ظماءٍ أسلمتها
المشارعُ" (محمد مهدي الجواهري).
وعندي ثالثة تقول: "والشـِّعرُ
يَهمي كـَسَيلِ النـَّارِ مِن
قـَلَمي/ تـَكـادُ مِن وَقــْدِهِ
الأوراقُ أن تـَـثـِبـا"
(عبدالرزاق عبدالواحد).
ورابعة تقول: "لا تسكروا بالنصر
إذا قتلتم خالدا، فسوف يأتي عمرو/
وإن سحقتم وردةً، فسوف يبقى
العطرُ" (نزار قباني).
وخامسة تقول: "سللتَ سيوفا علّمت
كل خاطبٍ، على كل عودٍ كيف يدعو
ويخطبُ" (المتنبي).
وسادسة تقول: "بدا لي أن الله حقٌ
فزادني، الى الحق تقوى الله ما
كان باديا" (زهير بن ابي سلمى –
شاعر "جاهلي"!).
وسابعة تقول: "وأحسن منك لم تر
قطّ عيني، وأجمل منكَ لم تلد
النساءُ/ خُلقت مُبرءاً من كل
عيبٍ، كأنك قد خُلقت كما تشاءُ"
(حسان بن ثابت، في مديح الرسول –
ص).
وثامنة تقول: "خُلقت للحرب أحميها
إذا بردت، وأصطلي نارها في شدة
اللهب/ بصارم حيثما جرّدته سجدت،
له جبابرة الأعجام والعرب" (عنترة
بن شداد).
... ولو قُيّض للشعر ذكرٌ لما
انتهيت، ولو قُيّض للصفعات وجهٌ
لصار من جلد الدابة أثخن.
ولكن الشعر الذي لم ير فيه الشيخ
آل الشيخ إلا حقدا وكراهية
جاهلية، ما كان لينم من إنائه إلا
بما ينضح فيه.
الجاهلية في حياة العرب قبل
الإسلام لم تكن جاهلية إلا في بعض
أوجه. والشعر ليس منها إلا في
القليل. وهو في ما عداها، كان
تعبيرا عن هوية المجتمع
وأخلاقياته وقيمه وروحه ومعانيه.
والشعراء، وإن تفاخروا وهجوا، إلا
أنهم كانوا متمردين وعُصاة غالبا.
ومن خلالهم يرى العربي نفسه ويفهم
عالمه.
كم صح، أو غلط، هذا موضوع آخر. كم
فيه من الإيمان أو الكفر، هذا
موضوع آخر أيضا. ولكن ما لا سبيل
لنكرانه هو أن العربي يولد شاعرا
حتى يثبت العكس. لماذا؟ لأن عمود
الشعر في بيئته الثقافية، هو
المقوم الأول لخيمة وجوده.
القرآن الكريم نفسه ما كان ليبدو
معجزة من دون شعر.
فالشعر بدا عاجزا (على هيبته وسمو
مكانته) أمام إعجاز لغوي وبلاغي
أعظم، لينتهي الى قبول القول: أن
هذا كتاب كريم.
نعم، يجب الاعتراف بأننا نواجه
سلسلة لا تنتهي من علائم الانحطاط
السياسي والتخلف الاقتصادي
والاجتماعي والتراجع الثقافي.
ولكن عندما يبلغ الأمر حد القول
أن الشعر ومسابقاته لا تُورث إلا
الأحقاد، فالمرء لا بد في النهاية
من أن يجد نفسه يضرب كفا بكف
ويقول "لا حول ولا قوة إلا
بالله".
فهذا آخر، آخر ما يمكن أن تصل
الإهانة اليه.
والشيخ آل الشيخ لا ينظر (إذا
نظر) في بيئة الأحقاد إلا الى ما
يجول في خاطره.
وليس في هذا الخاطر، لحسن الحظ،
أي شعر.
فلو كان للشعر مكانٌ في قلب هذا
الرجل، لما انتهى الى إصدار فتاوى
تماثلُ، بالمقاييس الإنسانية
المعاصرة، جرائمَ وانتهاكاتٍ
وأعمالاً وحشية.
شرفٌ للشعر أن يكون مُتهما من
جانب الشيخ آل الشيخ. فهذا دليلُ
براءةٍ من ظلامية تتفشى في كل وجه
من وجوه حياتنا.
وشرف للثقافة العربية ولتاريخها
أن تنال نقدا من مفتي تزويج
القاصرات، ففيه ما يعني انه ما
يزال في الدنيا بعضُ خير.
الشعر، فصيحه وعاميه، معتركُ أدب،
وسباقاته تجسدُ محاولاتٍ جماليةٍ
تزيدُ في إنارة بيئةٍ يتكلكلُ
فيها الكثير من سُحب الظلام.
والحال، فان الثقافة العربية
تتصحر، ويغزوها الرخيص والمبتذل،
إذا تراجعت فيها مكانة الأدب،
وإذا انحسرت المهرجانات التي
تحتفي بمبدعيه.
عملٌ من أعمال مكافحة التصحر
الثقافي، هي سباقات الشعر
ومهرجاناته. وهي بطبيعتها
الثقافية والإبداعية، عملٌ مناهضٌ
للأحقاد.
الثقافةُ والأحقاد، نقيضان لا
يجتمعان.
ما يريد الشيخ آل الشيخ التعبير
عنه، بالأحرى، هو أن موقفه
المناهض للشعر إذا كان يناظر
موقفه المناهض للحياة، فلأن عالمه
خال من الثقافة، خال من الروح،
وخال من المعنى. ومليءٌ، بالتالي،
بكل ما عداها.
وحده إفتاء الظلمات، هو الذي
يمكنه أن يتخذ من الشعر خصماً.
وهو يفعل ذلك لأنه لا يرى في
الأدب مقوماً جوهريا من مقومات
الحياة.
ومثلما أن المرأة ليست سوى عورة
في "نظر" (او بالاحرى انعدام نظر)
هذا الإفتاء، فان باقي الخلق، في
حسابه، ليسوا سوى دواب، لا تؤدي
أي وظائف ثقافية.
ولعل الدواب مخلوقات أكثر صلاحا
من البشر، في "نظره" لأنها لا
تقرأ الشعر ولا تكتبه، ولا تصغي
اليه.
ولكن إذا كان هناك من صلة بين
الشعر واللغة التي يتحدث بها
الشيخ آل الشيخ، فالسؤال هو: كم
هي مُعذبة ومظلومة تلك العربية
التي ينطق بها هذا الرجل؟
ألا يكون من الأجدى والأجدر أن
يبحث الشيخ آل الشيخ عن لغة لا
يشكل الشعر مقوما من أبرز
مقوماتها؛ لغة لم يصنعها الشعر
أصلا؟
ألا يكون أكثر استقامة مع نفسه لو
انه أفتانا بلغة أخرى؟
على الأقل، سنقول انه يهين تاريخا
لم يعش فيه ولم يفهمه ولم يدرك
مصدر بلاغته.
أما أن يهبط علينا من الجانب
المظلم للمريخ ليُفتينا بما لا
دخل له فيه، فهذا كثير في الواقع.
كثير على اللغة. كثير على
الأحياء. وكثير على الأموات.
|