( الاحتلال
الاميركي في العراق ، مثل اي
احتلال استعماري اخر ، لن يسحب
قواته المباشرة الا بعد ان يضمن
وجود قوة "محلية" وكيلة عنه تكون
من ناحية مؤهلة للحلول محل قواته
في تنفيذ اهدافه من الاحتلال
وتضمن من ناحية ثانية حماية نظام
سياسي موال يحل محل ادارته
"المدنية" في ضمان مصالحه
)
ربما تكمن الايجابية الوحيدة ل"الاتفاقية الامنية" التي صادق عليها يوم
الخميس الماضي برلمان "العملية
السياسية" التي هندسها واطلقها
ويضبط ايقاعها الاحتلال الاميركي
للعراق في كونها اعلانا مدويا عن
نجاح المقاومة الوطنية العراقية
في اسقاط قناع "شرعية الامم
المتحدة" التي تستر هذا الاحتلال
به منذ غزوه عام 2003 ، ومن
المؤكد ان مهمة تمزيق الغلالة
المفضوحة لشفافيتها للغطاء
"العراقي" البديل المفترض ان
توفره هذه الاتفاقية سيكون اسهل
كثيرا على المقاومين الوطنيين من
مهمة تمزيق الغطاء الاممي عن
الوجه البشع للاحتلال ، وهذه مجرد
واحدة من الحقائق الساطعة الغارقة
في صخب الاخراج الاعلامي المسرحي
ل"الاتفاقية الامنية" ، مثلها مثل
حقيقة ان المقاومة تكاد تطوي صفحة
من الاحتلال لخصتها النيويورك
تايمز يوم الجمعة الماضي بقولها
ان "الاتفاقيات الامنية بين
العراق وبين الولايات المتحدة
تشير الى بداية نهاية الحرب" وهو
ما خلصت اليه ايضا التايمز
البريطانية في اليوم التالي في
تقرير عنوانه "الحرب في العراق
تنتهي بالنسبة للقوات الدولية" .
والمفارقة ان الشبكة العنكبوتية
الضخمة التي شجعها الاحتلال في
العراق منذ الغزو تساهم في تغييب
الحقيقة عن وعي الشعب العراقي بدل
ان تكون وسيلة لكشف الحقائق حول
المحتل والاحتلال والمتعاونين
معهما مما يكشف الهدف الحقيقي
للاحتلال من تشجيعها تشجيعا مريبا
ظاهره ان تكون هذه الشبكة للاعلام
المقروء ، المطبوع والالكتروني ،
والمرئي فضائيا والكترونيا ،
والمسموع اذاعيا تعبيرا ملموسا عن
صدق المحتل في ادعائه بترويج
الديموقراطية كهدف يسوغ احتلاله
بعد ان تهافتت كل المسوغات الاخرى
.
ان صخب الاخراج الاعلامي المسرحي
ل"الاتفاقية الامنية" الذي تثيره
هذه الشبكة يغيب مجموعة من
الحقائق الاساسية الاخرى ، اولها
ان هذه الاتفاقية نفسها اذا تجردت
من كل هذا الصخب فانها ستظهر
مجردة وعارية وبسيطة باعتبارها
قرارا اميركيا اضطر صاحبه الى
التهديد الصريح علنا لكي ينتزع
غطاء عراقيا لتمديد بقاء القوات
المحتلة في العراق بصورة مؤكدة
لمدة ثلاث سنوات اخرى ، اذ بدون
هذا الغطاء المفتعل كان امام هذه
القوات خياران فقط: اما البقاء
كقوات غزو سافرة سقطت عنها شرعية
الامم المتحدة ولم تحصل على شرعية
عراقية بديلة ، او الانسحاب قبل
موعد سقوط غطاء الشرعية الاممية
عنها في الحادي والثلاثين من شهر
كانون الاول / ديسمبر المقبل ،
وكل ما يقال حول الاتفاقية عدا
ذلك ، او الغرق في تفاصيل الجدل
المسرحي المؤيد والمعارض لها بين
اطراف الجوقة التي هللت وطبلت
للغزو الاميركي باعتباره "تحريرا"
، انما يندرج فقط في سياق التضليل
الاعلامي الذي يحاول تصوير اتفاق
على التمديد لبقاء القوات المحتلة
باعتباره اتفاقا يجدول انسحابها .
اما ثانية هذه الحقائق الغارقة في
هذا الصخب فانها مزدوجة وقد كشفها
الرئيس جورج بوش نفسه ، قائد
الغزو الذي قدم له وكلاؤه
العراقيون الاتفاقية كهدية في
اليوم الذي كان يحتفل فيه ب"عيد
الشكر" الاميركي مع اسرته في كامب
ديفيد باعتبارها "الجائزة"
الوحيدة التي يحصل عليها طوال
ثماني سنوات من سياساته الخارجية
الفاشلة ، وذلك عندما عبر عن
امتنانه لهم يوم الخميس ايضا
بالتهليل لمصادقة "البرلمان
العراقي" على الاتفاقية وكذلك على
"الاتفاق المنفصل" الذي كما قال
"يضع الاساس" لعلاقة "طويلة
الامد" بين واشنطن وبين بغداد ،
فلماذا يغيب الاعلام المصادقة على
الاتفاقية الثانية التي اشار بوش
اليها والتي قد تكون اهم من
الاولى بكثير لانها تؤسس لربط
العراق بعلاقة "طويلة الامد" مع
القوة الاميركية المحتلة وهذا هو
الهدف الاستراتيجي للاحتلال بينما
تمدد الاتفاقية الاولى وجود قوات
الاحتلال بانتظار استكمال القوة
المحلية الوكيلة لقدراتها
العسكرية اللازمة لحماية هذا
الهدف الاستراتيجي !
وهذه الحقيقة المزدوجة التي كشفها
بوش تكشف بدورها حقيقة ثالثة وهي
ان الاحتلال الاميركي في العراق ،
مثل اي احتلال استعماري اخر ، لن
يسحب قواته المباشرة الا بعد ان
يضمن وجود قوة "محلية" وكيلة عنه
تكون من ناحية مؤهلة للحلول محل
قواته في تنفيذ اهدافه من
الاحتلال وتضمن من ناحية ثانية
حماية نظام سياسي موال يحل محل
ادارته "المدنية" في ضمان مصالحه
، وهذه القوة الوكيلة وهذا النظام
الموالي هما جزء لا يتجزأ من
الاحتلال الاميركي ومشروعه للعراق
ولجوار العراق الاقليمي ، وبقاء
هذه القوة وهذا النظام يعني بقاء
الاحتلال حتى لو انسحب اخر جندي
من قوات الاحتلال التي قامت
بالغزو في البداية ، لذلك فان
قيام قادة هذه القوة وهذا النظام
بتسويق الاتفاقية باعتبارها جدولة
لرحيل الاحتلال ينطوي على تضليل
وخداع لا ينطليان على احد ، ناهيك
عن الشعب العراقي الذي كانت سنوات
الاحتلال كافية لمعرفة ان من
رفعته دبابات الاحتلال الى سدة
الحكم لا يمكنه الا السعي الى
اتفاقات "تضع الاساس" لعلاقة
"طويلة الامد" ، كما قال بوش ،
بينه وبين القوة المحتلة تضمن
بقاءه في الحكم ، ويمكن ايضا في
هذا السياق مراجعة البيان المشترك
الذي اصدره في يوم المصادقة
البرلمانية على الاتفاقية السفير
الاميركي (مهندس الاتفاقية) رايان
كروكر وقائد القوات الاميركية في
العراق راي اوديرنو ووصفاها بانها
"صفقة شراكة" بين الجانبين .
وحقيقة رابعة يغيبها الصخب
الاعلامي تتمثل في ان "حوالي
سبعين في المائة من اعضاء
البرلمان العراقي" الذي صادق على
الاتفاقية الامنية "ليست لديهم أي
فكرة عما يوجد في الاتفاقية" كما
قال مراسل النيويورك تايمز في
تقرير له من داخل البرلمان العتيد
نفسه في الرابع والعشرين من الشهر
الماضي ، ناهيك عن اهلية تمثيل
هذا البرلمان الذي صادق على
الاتفاقية للشعب العراقي وخصوصا
تمثيله للمقاومة بفصائلها
المختلفة وشهدائها واسرهم
وللملايين من المهجرين في الخارج
والداخل ومن المعتقلين والارامل
واليتامى .
فعلى سبيل المثال يغيب الصخب
الاعلامي "الديموقراطي" لاطراف
"العملية السياسية" حقيقة خامسة
وهي ان "اتفاقية وضع القوات –
سوفا" في نصها تجيز اجراء تعديلات
عليها بموافقة الطرفين للتمديد
لبقاء القوات المحتلة حتى بعد
موعد الحادي والثلاثين من كانون
الاول / ديسمبر عام 2011 اذا كانت
الاوضاع الامنية على الارض في
العراق مضطربة بحيث تعجز القوات
العراقية عن ضبطها ، خلافا لكل
تاكيدات رئيس الوزراء المنطقة
الخضراء نوري المالكي بان هذا
الموعد لرحيل القوات الاميركية هو
موعد "نهائي" .
وربما تكمن حقيقة سادسة في ترحيب
بروك اندرسون -- المستشارة
السياسية لفريق الرئيس الاميركي
المنتخب باراك اوباما والناطقة
باسم هذا الفريق -- بالمصادقة على
اتفاقية "سوفا" لان فريق اوباما
"قد تشجع لرؤية تقدم" في توفير
الشروط لاستمرار الوجود الاميركي
في العراق بعد انتهاء تفويض الامم
المتحدة بنهاية العام ، كما نسبت
النيويورك تايمز لها القول في
الثامن والعشرين من الشهر الماضي
، مما قد يخفف من تفاؤل البعض
ب"التغيير" الذي وعد به اوباما .
كما يغيب هذا الصخب المبرمج حقيقة
سابعة هي ان الوجود "الاجنبي"
للاحتلال لا يقتصر على التمديد
لبقاء القوات الاميركية فحسب ، اذ
اعلنت لندن انه يجب عليها بدورها
عقد اتفاقية مع العراق توفر لما
يزيد على اربعة الاف من قوات
الاحتلال البريطاني شرعية
"عراقية" مماثلة بعد سقوط شرعية
الامم المتحدة عنها بنهاية العام
الحالي ، ومثلها تستعد استراليا
وايستونيا والسلفادور التي تخطط
لابقاء قواتها في العراق ايضا ،
وكذلك يفعل حلف شمال الاطلسي
"الناتو" لتوفير مظلة شرعية لاكثر
من مائتين من "مستشاريه وخبرائه"
بعد عام 2008 ، ولا بد هنا من
الاشارة الى ان ثلاث عشرة بلدا
اخرى منها اليابان وكوريا
الجنوبية تستعد لسحب قواتها
المحتلة من العراق قبل نهاية
العام .
والحقيقة الثامنة الضائعة في
الصخب الاعلامي المبرمج ان جيشا
اجنبيا يزيد عديده على مائة الف
من "المتعاقدين" الامنيين وغير
الامنيين مع القوات النظامية
لجيوش الاحتلال ، ولم يعد سرا ان
منهم شركات امنية اسرائيلية ،
انما هو جزء لا يتجزأ من الاحتلال
سوف يبقى بل ويزدهر ايضا في
العراق .
ان تغييب وسائل الاعلام الرئيسية
العراقية وكذلك العربية لراي
المقاومة العراقية وغيرها من
القوى السياسية غير المشاركة في
"العملية السياسية" التي يديرها
الاحتلال المعارضة ل"الاتفاقيتين"
وتسليطها الاضواء فقط على
المعارضة من اطراف هذه العملية هو
حقيقة تاسعة لافتة للنظر اذا كانت
لا تثير اسئلة مستهجنة حول صدقية
وسائل الاعلام العراقية لاسباب
غنية عن البيان فانها تثير الكثير
من الاسئلة حول موضوعية وسائل
الاعلام العربية ومهنيتها وحيادها
بخاصة الفضائيات الرئيسية منها .
والحقيقة العاشرة المغيبة هي
الاخراج الاعلامي المبرمج لمسرحية
معارضة القوى الطائفية والعرقية
والحزبية المشاركة في "العملية
السياسية" والممثلة فوق المسرح
البرلماني لهذه العملية ، فهذه
الحقيقة لم تخدع الا من بلغت بهم
السذاجة حد ان يفكروا ولو للحظات
بان من كانوا كاسحة الغام عراقية
للغزو يمكن ان يستيقظ فيهم ضمير
وطني لكي يعارضوا الاتفاقيتين حقا
، فهؤلاء الذين جاؤوا بالاحتلال
وجاء بهم الاحتلال قد مات فيهم
الضمير الوطني ، وفي الاقل لم
يثبت أي منهم حتى الان عكس ذلك ،
بعد ان كافأهم الاحتلال اولا
بادوار في ادارته المدنية
المباشرة ، قبل ان يطورها
الاحتلال بعد رحيل سيء الذكر بول
بريمر الى ادارة محلية وصفها
بالعراقية وسماها حكومة ووفر مقرا
لها ولمجلس رئاستها ولبرلمانها في
المنطقة الخضراء ببغداد لتستظل
بالحماية التي تتمتع بها سفارته
العملاقة هناك .
ان القلة من امثال هؤلاء السذج
ممن قد يأملون في ان يسمح
الاحتلال لاي من مؤسسات العملية
السياسية الكرتونية باسقاط
الاتفاقية ، بل الاتفاقيتين ،
انما يخدعون انفسهم فقط ، فمثلما
كان مؤكدا ان يصادق البرلمان على
الاتفاقية الامنية بعد اقرار
الحكومة لها ، فان "مجلس الرئاسة"
سيقرها ايضا وسوف تكون نتيجة
"الاستفتاء الشعبي" عليها في
الصيف المقبل ايجابية كذلك ، وما
الايحاء الخادع بالديموقراطية عن
طريق تمرير الاتفاقية عبر هذه
المؤسسات العراقية للاحتلال
الاميركي الا مسرحية مكشوفة سيئة
الاخراج ، اذ كانت النتيجة محسومة
سلفا منذ توافق نوري المالكي
وجورج بوش على الاتفاقية في الشهر
الاخير من عام 2007 المنصرم ،
وهذه هي الحقيقة الحادية عشر
الضائعة في خضم الصخب الاعلامي
المبرمج .
اما الحقيقة الثانية عشر المغيبة
فانها الدوافع الحزبية المحضة
للمعارضة المؤقتة التي ابدتها بعض
اطراف العملية السياسية اياها من
اجل المساومة على حصص افضل من
كعكة الاحتلال ، وهذه الدوافع
فشلت حتى في خداع الراي العام
العالمي فكم بالحري العراقي ،
فعلى سبيل المثال ، قال توبي دودج
من المعهد الدولي للدراسات
الاستراتيجية بلندن ان مطالبة
جبهة التوافق العراقية باستفتاء
شعبي على الاتفاقية استهدف الظهور
بمظهر الوطني المتشدد "وكان موقف
التوافق هذا مرتبطا بانتخابات
الاقاليم المقبلة" ، ليضيف جوست
هيلترمان من مجموعة الازمات
الدولية ان التوافق يمكنها بذلك
ان "تستخدم الاستفتاء كاداة
مساومة" ضد المالكي . ومما يكشف
الاهداف الحزبية الضيقة لجبهة
التوافق انها انضمت للمؤيدين
للاتفاقية بعد الموافقة على
مطالبها ألحزبية ، اما مطالبها
الخاصة ذات البعد الوطني مثل
اطلاق سراح المعتقلين والغاء
قانون اجتثاث البعث المعدل فانها
بالنسبة للمطلب الاول لم تحصل على
أي ضمانات او جدول زمني لاطلاق
سراح المعتقلين اصلا بسبب
مقاومتهم للاحتلال وللنظام
السياسي المنبثق عنه ومنه التوافق
، بينما تجاهلت تماما عدم
الاستجابة لمطلبها الثاني الاكثر
اهمية من الناحية الوطنية .
وينسحب هذا الدافع ليشمل "فصائل"
العملية السياسية الاخرى التي
عارضت ثم ايدت !
وفي هذا السياق لا بد من وقفة مع
التيار الصدري ، فقد كانت
الاتفاقية الامنية مناسبة لاختبار
فاصل بين القول والعمل ، وكانت
مناسبة لاعلانه طلاقا بائنا
بينونة كبرى بينه وبين الاحتلال
وبينه وبين العملية السياسية التي
يديرها الاحتلال ، حتى يحدث تطابق
بين مواقفه العملية وبين معارضته
اللفظية لكليهما ، التي يفضل
التيار وصفها بالمعارضة السياسية
، حيث ان معارضته المعلنة
للاحتلال تتناقض تماما مع كونه
جزءا لا يتجزأ من الهجين السياسي
المنبثق عن الاحتلال ، اذ لم
يستطع سحب وزرائه من الحكومة
سابقا ثم تعهده ب"المقاومة
السياسية" بعد المصادقة
البرلمانية على الاتفاقية اقناع
حتى قواعده نفسها بصدق معارضته
للاحتلال ، خصوصا وان من ينوي
مقاومة الاحتلال حقا لا يبقي على
"جيشه" خلال احتدام الفتنة
الطائفية وعندما تنام هذه الفتنة
يقدم على حل "جيشه" بدل ان يزيد
في تعبئتة ويزجه ضد القوات
المحتلة .
وتظل هناك حقيقتان هما الاهم
الغارقتان في خضم الصخب الاعلامي
المبرمج المثار حول الاتفاقية
الامنية ، الاولى ان مشوار
المقاومة العراقية لم ينته بعد
بالرغم من طي الصفحة الاصعب ضد
الاحتلال ، والثانية ان زيف
"المعارضات" المعلنة للاحتلال
التي تحظى بمعظم التغطية من وسائل
الاعلام العربية والعالمية
الرئيسية ما زال يحجب حقيقة ان
ايا من هذه "المعارضات" مهما تضخم
اعلاميا يظل محكوما بسقف فئوي
اثبت حتى الان عجزه عن احتضان
الوطن العراقي كافة وان تجربة
سنوات الاحتلال الست الماضية تثبت
مجددا بالدليل الملموس ان الجيش
الوطني العراقي كان وما زال وحده
العمود الفقري لصيانة وحدة العراق
الاقليمية والوحدة الوطنية لاهله
وان حزب البعث لو لم يكن موجودا
لوجب خلقه كرديف سياسي للجيش
الوطني عجزت كل معارضة له حتى
الان عن ايجاد بديل له يحتضن كل
طوائف العراق واعراقه وقبائله
واجياله ، بالرغم من اخطائه التي
يرى البعض في بعضها خطايا . |