تتكاثر الأسئلة عن أسباب التخلف
الكبير الذي تعاني منه المجتمعات
العربية على مختلف الأصعدة
والمستويات، فمن تخلف سياسي إلى
تخلف اقتصادي إلى تخلف ثقافي،
ناهيك عن التخلف في مجال البحث
العلمي وبراءات الاختراع والصناعة
والتكنولوجيا والمعلوميات وغيرها
كثير.
منهم من يقول أن السبب هو بنية
العقل العربي التي لا تمكنه من
استيعاب حركة التطور والتقدم في
العالم ولا مجاراتها أو التأثير
فيها، عقل تحجر وتكلّس خلال قرون
من الجمود الفكري واجترار حكايات
الماضي العتيد.
ومنهم من يقول بأن السبب هو
الدين، حيث أن دعاة الإسلام وشيوخ
السلاطين وأصحاب الفتاوى قد دمغوا
على عقول الناس منذ قرون، منذ أن
أغلقوا باب الاجتهاد والتفكير
والمساءلة.
منهم من يعود بالأسباب إلى القرون
الأربعة التي جثم خلالها الاحتلال
العثماني على صدور العرب باسم
الدين، أدخلوهم خلالها في غياهب
الجهل والفقر والمرض وقضوا على كل
إمكانية للخروج إلى فضاء الفكر
والعلم والحضارة.
منهم من يرده إلى الاستعمار
الغربي (البريطاني والفرنسي) الذي
قسّم أرض العرب، إلى أقطار
ودويلات ضعيفة ليتمكن من السيطرة
على ممراتها الإستراتيجية و
ثرواتها الطبيعية وعلى رأسها
النفط،، وأنه ومن أجل منع أي
إمكانية لتوحيد تلك الأقطار من
جديد، والحد بينها وبين مسيرة
التطور الطبيعي، خلق الكيان
الصهيوني في قلب تلك الأمة.
ومنهم من يتهم النظام الإمبريالي
الأمريكي بالوقوف وراء أسباب
تخلفنا .
وآخرون يرون أن الأنظمة القطرية
تعرقل خطوات الخروج من دائرة
التخلف لأن مجتمعا واعيا ومثقفا
لا يروق لها، حيث أنه سيقف حتما
ضد هيمنتها على مقدرات البلاد
والعباد.
وللحقيقة أقول أن كل تلك الأسباب
قد ساهمت منفردة أو مجتمعة في
وصولنا إلى ذلك الوضع المأساوي من
التأخر عن مسيرة الإبداع البشري
في المجالات كافة والعلمية منها
على وجه الخصوص
ففيما يتعلق ببنية العقل العربي،
فإن المراحل التاريخية التي مرت
فيها المجتمعات العربية والظروف
والبيئة والطبيعة التي كانت تعيش
فيها، تركت بصماتها على الذهنية
العربية وكيفية تعاملها مع الواقع
المعاش.
فأولا، كان للمجتمع الرعوي طبيعته
الخاصة حيث لا دولة ولا سلطة
مركزية، إنما شيوخ ووجهاء للقبائل
وللعائلات، والولاء كله لرئيس
القبيلة وللعائلة مهما كانت
الأحوال والظروف.
في ظل ظروف الحل والترحال التي
تميز المجتمع الرعوي، لا يمكن
الحديث عن تطور اجتماعي مهم لأنه
محكوم بمنظومة من القيم والعادات
والتقاليد والاتفاقات التي تنظم
الروابط والعلاقات بين الأفراد
وبين القبائل.
أما في العصر الجاهلي، فبالإضافة
إلى مجموعة القيم والعادات
والتقاليد الموروثة ، كان الشعر
هو الإنجاز الفكري الرائع الذي
وصلنا من ذلك العصر، ذلك الشعر
الذي كانت له وظائف كثيرة مثل
المديح والهجاء والمفاخرة والبكاء
على الأطلال والغزل وغيره، ، وعن
غير قصد – ربما – أصبحت تلك
القصائد الشعرية الرائعة مرجعا
تاريخيا لمعرفة الكثير من الأحداث
والوقائع والخلافات والتحالفات
التي كانت تقع بين القبائل.
وقد يكون للصحراء وفضاؤها الشاسع،
أثرا كبيرا في شحذ خيال الشعراء
وتمكينهم من صور بيانية وشعرية
رائعة، إضافة إلى صفاء الذهن
والفكر والإحساس المرهف.
أما المجتمعات الزراعية التي
تشكلت حول مجاري الأنهار(مصر و
بلاد الرافدين مثلا)، فقد كانت
بحاجة ماسة إلى وجود سلطة مركزية
قوية تقوم بشق القنوات وتوزع
المياه وتنظم العمل في الحقول.
ولكن تلك السلطة تحولت إلى نظام
إقطاعي تشكل من كبار ملاكي
الأراضي الذين شكلوا بدورهم القوة
التي تحميهم ، تلك القوة التي
كانت عبارة عن جيش قمعي مرتبط
مباشرة بهم وتحت إمرتهم.
من الطبيعي أن المجتمع الإقطاعي
والعلاقات الإقطاعية التي تسوده،
لا تسمح بوجود حيز ولو ضيق، لأي
نوع من التطور والتقدم والإبداع،
فهناك طبقة ملاك الأراضي التي
تحكم وتسود، وبقية أفراد المجتمع
الذين هم مجرد أيدي عاملة وعبيد.
لقد استمرت العلاقات الإقطاعية
ردحا طويلا من الزمن تركت آثارا
سلبية على مستوى التطور الفكري
للأغلبية الساحقة من أفراد الشعب
(الرعيّة).
وحتى حين ظهر الإسلام وانتصر
وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها،
فإن طابع العلاقات الاجتماعية
والنشاط الاقتصادي لم يتغيرا
جذريا، فإذا استثنينا بعض الفترات
المضيئة التي حكم فيها خلفاء أو
ملوك أو أمراء ، أيام الدولة
الأموية أو العباسية أو الفاطمية
أو في الأندلس، فإن التاريخ
الإسلامي حافل بفترات الحروب
والاقتتال والظلم والقمع الفكري
واضطهاد الفلاسفة والمفكرين ومنع
الاجتهاد في المسائل الدينية
والدنيوية.
ويأتي العثمانيون ليحكموا باسم
الدين أربعة قرون كاملة، وصفت
بأنها من أكثر الفترات التاريخية
ظلاما عاشها العرب بكل مآسيها،
فترة انحطاط في كل شيء وعلى جميع
الأصعدة، قضت على إمكانية التطور
الطبيعي ، توقف فيها الفكر عن
العمل ، سادت الخرافات والأساطير
وعم الفقر والجهل والمرض، واستلبت
الإرادة.
ولم تنته تلك الحقبة المظلمة حتى
بدأت حقبة الاستعمار الغربي
(الفرنسي والبريطاني) بعد انتصار
الحلفاء في الحرب العالمية
الأولى.
لقد كانت طبيعة هذا الاستعمار
الحديث، أكثر مكرا ودهاء من
الاستعمار العثماني، إذ كان الهدف
المعلن هو التبشير لأفكار التقدم
والحرية والمساواة والعدالة،
وإخراج الشعوب المتخلفة من تخلفها
وفقرها، تلك الأهداف النبيلة
والسامية التي حملتها الثورة
الفرنسية (حرية ، تآخي، مساواة)،
إضافة إلى نشر الديمقراطية
بالمفهوم الغربي ، تلك
الديمقراطية المتجذرة في المجتمع
البريطاني منذ قرون.
لقد كان لتلك الأفكار أنصار
ومؤيدين من النخبة التي بدأت
تتشكل في أكثر من قطر عربي مع
نهاية القرن التاسع عشر وبداية
القرن العشرين، و كان لحملة
نابليون على مصر وما رافقها من
إدخال بعض من إنجازات الحضارة
الغربية إليها، دور هام في إثارة
الإعجاب بتلك الإنجازات التي شكلت
صدمة حضارية في مجتمع غارق في
ظلام الفقر والعبودية.
ومع خيبة الأمل من ذلك الاستعمار
الحديث الذي كشف عن أهدافه
الحقيقية في الاستيلاء على ثروات
المنطقة وممراتها المائية
الإستراتيجية، وتمزيق أوصالها إلى
أقطار وممالك وإمارات ومشيخات،
وفوق كل ذلك، زرع الكيان الصهيوني
في فلسطين، كانت الثورات الشعبية
والمقاومة وتشكيل الأحزاب القومية
والوطنية هي الرد الذي أنتج
استقلالا غير ناجز لأغلب الأقطار
العربية بعد الحرب العالمية
الثانية، واستلام أنظمة ذات طابع
قطري أو عائلي عشائري، أو أنظمة
عسكرية، مقاليد الأمور في أكثر
تلك الأقطار.
لقد كان لتلك المراحل التاريخية
نتائج وخيمة على طبيعة ونوعية
التفكير الذي يطغى في مجتمعاتنا
العربية، كما تركت أثرا سلبيا على
تكوين الإنسان العربي الذي يبدو
وكأنه يعيش انفصاما في الشخصية
وتناقضا في المواقف، وإذا كنت أخص
بالذكر هنا فإني أقصد الإنسان
الذي يمتلك تعليما وثقافة ويعتقد
أنه يلعب دورا معينا في حياة
المجتمع.
إن قرونا من القهر والاضطهاد
وملاحقة أصحاب الرأي من المفكرين
والفقهاء والعلماء، وسيطرة الرأي
الواحد، والزعيم الواحد والقبيلة
أو الطائفة أو الحزب الواحد، قد
خلقت مجتمعا لا يعرف معنى التسامح
والاستماع للرأي الآخر ولا
المشاركة في الحكم أو تداول
السلطة بشكل سلمي.
إن مجتمعنا لا يملك عرفا
ديمقراطيا بالمعنى الحديث أو
القديم للكلمة، لذا فإنه أوجد
وعلى مر العصور أنظمة استبدادية
وداخل كل نظام من هذا النوع يشعر
أي مسؤول أنه هو أيضا زعيم في
موقع المسؤولية الذي يحتله، يمارس
من خلاله اضطهادا على من هم تحت
مسؤوليته، فيمتد الظلم والاستغلال
من أعلى إلى أدنى مستوى.
ولكون أي نظام استبدادي يخاف من
المفكرين والمثقفين، فإنه يمارس
نوعين من السلوك تجاههم، الأول هي
محاولة استمالتهم، وذلك من خلال
إغرائهم بمناصب أو مسؤوليات أو
امتيازات مادية شرط عدم الخوض في
أمور الحكم أو السياسة، فيجعل
منهم قوة خارج إطار التأثير في
حركة التطور والتغيير، أو أنهم
يلعبون دورا أكثر خطرا، وذلك من
خلال الترويج للنظام المستبد
وتحولهم إلى أبواق له.
والثاني هو قمع واعتقال ومطاردة
من لا يرضون القيام بهذا الدور
ويتمسكون بآرائهم الإصلاحية
ويقفون في صف أبناء الشعب الذي
يتوق إلى الحرية والانعتاق من
الظلم والخروج من دائرة الجهل
والمرض، ويطمحون للعب الدور
القيادي من أجل إحداث التغيير
المنشود، فيتحول هؤلاء المفكرون
والمثقفون إلى قوة مضطهدة بعيدة
عن دائرة التأثير ولو إلى حين.
إن التخلف لا يقاس بعدد الأميين
الذين لا يعرفون القراءة أو
الكتابة فقط، لكنه يقاس بمجموعة
من الممارسات والسلوكيات والقيم
التي يتعامل بها الأفراد
والمنظمات والأحزاب، وتتعامل بها
السلطة تجاه مواطنيها،
كما أنه يقاس بالمقارنة بين
المجتمعات المتخلفة والمجتمعات
المتقدمة، ليس فقط من جهة الإنتاج
الأدبي والصناعي والعلمي، لكن
أيضا بالفارق من ناحية النظرة
للإنسان المواطن وللمثقف ودوره في
المجتمع.
في المجتمع المتحضر، يعتبر
الإنسان قيمة فكرية هامة يجب
احترامها وتطويرها، ولكل فرد
كرامته التي تحفظ له، وموقع، ودور
يؤديه حسب إمكانياته الفكرية،
العلمية منها أو الأدبية، وحسب
مهاراته الفنية أو التكنولوجية،
والناس سواسية أمام القانون في
حال حدوث أية مخالفات أو تجاوزات.
في الدول التي تحترم مواطنيها
ومثقفيها، ينام المثقف مطمئنا، لا
يخاف أن يأتيه أحد ليلا لاعتقاله
أو مساءلته مهما كان رأيه
السياسي، ويستطيع أن يعبر عن رأيه
بكل حرية وأن ينتمي لأي حزب يريد.
في المجتمعات الحريصة على تحقيق
أفضل مستوى من المشاركة السياسية
في حياتها، تتشكل لجان علمية
وقانونية وإدارية وأدبية، تتشكل
دوائر بحث مختصة في كل المجالات،
لإجراء البحوث وتقديم نتائج
دراساتها للمسؤولين السياسيين
والاقتصاديين والاجتماعيين
ليتخذوا قراراتهم على أساسها، إذ
لا يتخذ أي مسؤول قراراته، خاصة
إذا كانت تهم مصير البلد أو
المجتمع أو شريحة واسعة منه، إلا
بالرجوع إلى أصحاب الاختصاص
والدراسات الميدانية من الباحثين
والأكاديميين.
في البلاد التي تريد أن تكون
منارة في العلم والثقافة والإنتاج
الفكري والصناعي، تمنح المؤسسات
العلمية والمختبرات ومراكز البحث
كل الدعم المادي والبشري اللازم،
ويعين عل رأسها مسؤولون أكفاء
بخبراتهم وتجربتهم وقدراتهم وليس
لقربهم أو بعدهم من مراكز السلطة
السياسية.
في الدول المتقدمة التي يسود فيها
القانون، تسود فيها الحرية
والديمقراطية والشعور بالمسؤولية،
لا تجد كذبا ولا غشا ولا فسادا
ولا رشوة، لا تجد تهربا من القيام
بالواجب ولا تهربا من دفع ضريبة
ولا سرقة لأموال الشعب، لا تجد
استغلالا للمناصب ولا تملقا لأحد
مهما كان موقعه.
********
إذا ما استرجعنا تاريخنا لنتوقف
عند بعض المحطات المضيئة فيه،
فإننا نرى أن الفكر العربي قادر،
إذا ما توفرت جملة من الظروف، على
الإبداع وإثراء الفكر العالمي،
ليس فقط في مجال الأدب والشعر
والفلسفة، ولكن أيضا في علم الفلك
والرياضيات والطب والكيمياء
واختراع الأدوات العلمية اللازمة
لمثل تلك العلوم.
من أهم تلك الظروف، وجود مشروع
حضاري، والمشروع الحضاري يتبلور
من خلال تراكم مجموعة من العوامل
والظروف مرتبطة بمراحل التطور
والحاجات التي تفرضها كل مرحلة
منها، وكذلك بوجود قوى سياسية
واجتماعية تحمل ذلك المشروع وتعمل
على إنجازه وحمايته.
حصل هذا في مصر القديمة، وحدث هذا
في العراق أيام الخليفة المأمون،
كما حدث شيء من هذا على أيدي
الأمويين في دمشق في محاولة
لتحويل كل المعادن إلى ذهب، وكذلك
في الأندلس وغيرها كثير في فترات
متقطعة من التاريخ العربي وحتى
يومنا هذا.
وعلى العكس من ذلك، كان التخلف
يضرب أطنابه وتتراجع الحركة
الأدبية والعلمية، في العصور
والفترات التي كان المفكرون
والفلاسفة والمبدعون من المغضوب
عليهم، يُطاردون ويُحاربون ويُمنع
عليهم البحث والكتابة والتفكير،
وتحرق كتبهم ومؤلفاتهم، هذا إذا
نجوا من السجون أو القتل أو
الإبعاد.
حين كانت قوة غازية تدخل عاصمة
عربية إسلامية، كان أول ما تفعله
هو تدمير إرثها الثقافي والفكري
وحرق مكتباتها وما فيها من كنوز
الفكر والمعرفة، وما فعله المغول
التتار في بغداد حين رموا بكتبها
في نهر دجلة حتى تلونت مياهه
بالأسود لثلاثة أيام، خير دليل
على الحقد الذي يكنه الأعداء
لتراثنا وحضارتنا وإنتاجنا الفكري
وإبداعنا العلمي، وحرصهم على قطع
كل الطرق بيننا وبين الثقافة
والعلم، وسد كل الأبواب والنوافذ
التي يمكن أن تدخل منها رياح
الحضارة من جديد إلى هذا العالم
العربي.
هكذا كان سلوك التتار، وهكذا كان
سلوك العثمانيين ومن بعدهم كل
أنواع الاستعمار والغزو.
وتتأكد تلك المعادلة من جديد في
القرن العشرين وبداية الألفية
الثالثة، فلقد شهد العالم العربي
نهضة فكرية وعلمية كبيرة حين
توفرت الظروف الملائمة لها في مصر
وسورية والعراق، وغيرها من
الأقطار.
لا شك أن سنوات ما بعد الاستقلال
قد شهدت ارتفاعا كبيرا في نسبة
المتعلمين في جميع مستويات
الدراسة الابتدائية والإعدادية
والثانوية والجامعية، وذلك في
جميع الأقطار العربية، كما زادت
أعداد الأطباء والمهندسين
والفنيين في جميع الاختصاصات،
ورصدت كثير من الدول العربية
مبالغ طائلة من ميزانياتها من أجل
بناء المزيد من المدارس والجامعات
والمعاهد العليا، وكذلك بناء
المستشفيات والمستوصفات، وصرفت
أموال كثيرة من أجل إرسال الطلبة
لإكمال دراساتهم العليا في
الجامعات الغربية، لكن السؤال
الذي يطرح نفسه بحدة هو الآتي: هل
ساهمت كل تلك الجهود والأموال في
القضاء على التخلف وإحداث ثورة
علمية وتكنولوجية في الأقطار
العربية؟ هل تم القضاء على
الأمية؟ هل تم تشغيل أصحاب
الكفاءات العلمية في المراكز التي
تليق بهم؟ هل وضعت بعض الدول
العربية قدما خارج دائرة الفقر
والحاجة؟ هل أخذ المثقفون
والعلماء والفنيون دورهم في قيادة
المجتمع نحو آفاق واعدة؟ وهل تم
بناء المجتمع المتماسك وطنيا
وأخلاقيا، المجتمع المتمسك بقيمه
وخصوصياته الثقافية والحضارية؟
للأسف الشديد أن الجواب على كل
تلك الأسئلة وعلى الكثير من
مثيلاتها هو بالنفي، فحتى الآن لم
يتم القضاء لا على الأمية ولا على
الأمراض المعدية والفتاكة، ولم
تحصل نهضة صناعية تؤدي إلى
الاكتفاء الذاتي ولم يتم إنتاج ما
يكفي من المواد الغذائية
الزراعية، هناك انهيار بالقيم،
انهيار بالعلاقات الاجتماعية
والأسرية، وتراجع حاد بمفهوم
المواطنة والاستعداد للدفاع عن
الوطن.
إن ما نراه هو العكس تماما، فنسبة
الأمية في ازدياد، وأمراض جديدة
بدأت تظهر وأمراض كنا نعتقد أنه
تم القضاء عليها قد استعادت
وجودها من جديد، أصبحت الحاجة أشد
على الصعيد الغذائي وعلى الصعيد
الصناعي ، أي أن الوضع ازداد
تفاقما وأصبح أكثر خطورة، بدأت
الكفاءات العلمية والأدبية
والفنية تهرب من بلدانها، حيث
ازدادت حدة هجرة العقول إلى كل
دول العالم، والغربي منها بشكل
خاص، وهنا لا بد من التساؤل:
لماذا هذا الفشل على كل الأصعدة؟
أين يكمن الخلل؟
إني أرى أن الخلل يكمن بعدم وجود
ذلك المشروع الحضاري على مستوى
الوطن الكبير، عدم وجود مشاريع
إنتاجية، صناعية وزراعية، على
مستوى حاجيات الوطن العربي، ويكمن
أيضا باتباع سياسات ذات أفق قطري
ضيق، كما يكمن بتغييب المنطق
والعقل في تسيير الميزانيات
الخيالية وصرفها في جوانب
استهلاكية عديمة الجدوى، وعدم
الاستثمار على الصعيد البشري ،
إنه يكمن أيضا بعدم وجود ميزانيات
للبحث العلمي والتشجيع على
الإبداع، وبعض الدول العربية
اعتقدت أنها باستيراد المعامل
الجاهزة أو ببناء الأبراج العالية
أو فتح البلاد للسياحة، يمكنها أن
تتجاوز مرحلة التخلف، متناسية أن
تحقيق تلك المهمة يكمن في
الاعتماد على النفس لتحقيق مشاريع
إنتاجية من ألفها إلى يائها،
والاستفادة من إنجازات العلم
الهائلة ومن ثورة المعلوميات
ووسائل الاتصال وانتقال المعلومات
بشكل سريع جدا، لكن ومرة أخرى لا
بد من مراكز ومؤسسات للبحث العلمي
الأساسي والتطبيقي، مراكز يديرها
ويخطط لها ويشرف على تسييرها
علماء واختصاصيون عرب ممن ضاقت
بهم بلدانهم فهربوا منها إلى آفاق
أكثر رحابة واتساعا، وإلى بلدان
تعرف كيف تجعلهم يقدمون
إمكانياتهم بلا حساب.
لقد حمل حزب البعث مشروعا قوميا
حضاريا، وحمل عبد الناصر أيضا
مشروعا حضاريا قوميا، كانت الحاجة
إليه أشد ما تكون في ظل وضع عربي
مفكك، وهيمنة غربية واحتلال
صهيوني لفلسطين ونهب للثروة
النفطية وتبديد لعائداتها، وأمية
بمستويات قياسية وفقر وبطالة،
وآفات اجتماعية أخرى، لذا كان من
الطبيعي أن تلتف جماهير عريضة ومن
كل الأقطار العربية خلف جمال عبد
الناصر ومشروعه الحضاري، كما
التفت حول حزب البعث وما حمله من
أفكار ومبادئ وأهداف، واستطاع عبد
الناصر إحداث قفزة نوعية في الوعي
وفي الفكر والثقافة والعلوم
والإنجازات الصناعية، وتحقيق نوع
من العدالة الاجتماعية بالقضاء
على الإقطاع توزيع الأراضي على
الفلاحين وبناء السد العالي وغيره
كثير، جعلت من مصر نواة استقطاب
لكل الشعوب المناضلة من أجل
حريتها ومن أجل تقدمها وخروجها من
دائرة التخلف، وكان من الطبيعي أن
يلتقي مشروع عبد الناصر مع مشروع
البعث وتتحقق أول وحدة عربية بين
قطرين عربيين في التاريخ الحديث،
قبل أن تقع تلك الوحدة وما حملته
من مشروع حضاري، فريسة قوى مضادة
ومعادية في الداخل والخارج.
إذا كان مشروع عبد الناصر قد
انتهى بموته، فإن مشروع البعث لم
ينته، ووجد له حاضنة قوية في
القطر العراقي.
قد نكون من المحبين للشهيد صدام
حسين أو لا نكون، ولكننا لا بد أن
نعترف أن العراق شهد أيام حكمه
قفزة نوعية على طريق إنجاز هذا
المشروع تجسدت في مجال الثقافة
والفكر والبحث العلمي والتقدم
التكنولوجي والصناعي.
لقد تحققت تلك القفزة نتيجة عوامل
عديدة منها:
- توفر الظروف الموضوعية والإرادة
السياسية للدفع بالثقافة وا لفكر
والبحث العلمي لآفاق جديدة تساير
مثيلاتها في العالم المتقدم.
- توفير الإمكانيات المادية
اللازمة من أجل تحقيق تلك
الأهداف، فالعراق كان البلد
العربي الوحيد الذي خصص ما يعادل
واحد بالمائة من دخله القومي
للبحث العلمي، والوحيد الذي توفرت
له إمكانية إصدار مجلة علمية تنشر
بها نتائج البحوث وكانت تتوفر على
تقدير عالمي كبير في الأوساط
العلمية.
- الاهتمام بالمثقفين والمفكرين
والعلماء والباحثين، فالعراق هو
أيضا البلد العربي الوحيد الذي
احتضن العلماء العراقيين واستقدم
العلماء العرب من جميع الأقطار
العربية ووفر لهم شروط العمل
الجيدة والإمكانيات المادية
المشرفة ليقوموا بعملهم على أحسن
وجه ويساهموا بمسيرة إخراج البلد
من دائرة التخلف.
- إرسال المئات، بل الآلاف من
الطلبة الباحثين في كل
الاختصاصات، إلى بلدان أوربا
وأمريكا وغيرها لاستكمال دراساتهم
العليا، مع ضمان العمل لهم بعد
تخرجهم وعودتهم إلى القطر.
- الحرب مع إيران وما خلقته من
حاجة في التفكير جديا ببناء صناعة
عسكرية ومدنية متقدمة وتخصيص ما
يلزمها من متطلبات، كما لم تغب
المواجهة المحتملة مع إسرائيل
والموقف القومي من القضية
الفلسطينية عن هذا الجهد.
بفضل تلك السياسة كان العراق
البلد العربي الذي وضع قدميه خارج
دائرة التخلف فعلا، وبدأ باللحاق
سريعا بالدول المتقدمة، كان لديه
أفضل نظام تعليمي وأفضل نظام صحي
وأفضل بنية صناعية وتكنولوجية
معتمدة على الخبرات والكفاءات
الذاتية، أثارت إعجاب المحبين
والمخلصين، كما أشعلت نار الحقد
والكراهية في قلوب الأعداء.
إذا كان العراق قد استطاع أن يعيد
بناء الكثير مما دمرته القوات
الأمريكية الغازية أثناء حرب
الخليج الأولى، فلأنه كان يتوفر
على عدد كبير من المهندسين
والفنيين وذوي الاختصاصات العلمية
في مجال الصناعة وإصلاح الجسور
والطرقات وإعادة استخدام الأجهزة
المدمرة بعد إصلاحها وتصنيع قطع
الغيار اللازمة لها.
وإذا كان العراق قد استطاع مقاومة
الحصار الغاشم لثلاثة عشر عاما،
فلأنه اعتمد على خبرات الأساتذة
الجامعيين من الاقتصاديين الذين
لعبوا دورا هاما في رسم سياسة
اقتصادية لمواجهة الحصار وتقنين
وعقلنة الاستهلاك لجميع
الاحتياجات الغذائية منها أو
الصناعية وكذلك في رسم سياسة
إنتاجية تتماشى مع الظروف الصعبة
والاستثنائية التي كان يواجهها
القطر.
إلا أن الولايات المتحدة
الأمريكية ومعها الصهيونية
العالمية وأنظمة عربية وجهت ضربة
قاضية لهذا المشروع ودمرت كل
الإنجازات التي تحققت من خلاله.
لقد رأى العالم كله كيف أن أول ما
أقدمت عليه القوات الغازية
الأمريكية بعد أن دخلت بغداد، هو
تدمير ونهب المتحف العراقي، لأنه
رمز الحضارة والتاريخ والإرث
الإنساني الذي ساهم فيه العراق
بالشيء الكثير على مختلف العصور،
ومحاولة لسرق الذاكرة أو تشويهها.
كما كان الفعل الثاني الذي لا يقل
خطورة عن الأول هو تشكيل فرق
الموت لقتل وملاحقة العلماء
وأساتذة الجامعات والمهندسين
والأطباء وذوي الاختصاصات الفنية
وكل من ساهم في نهضة العراق
العلمية والتكنولوجية، وهذا العمل
الإجرامي ما زال مستمرا إلى يومنا
هذا، إذ أن هناك إصرارا من قوى
الاحتلال الأمريكية وفرق القتل
الإسرائيلية والإيرانية على إفراغ
العراق من كل أصحاب الكفاءات
والخبرات العلمية الذين ساهموا،
ويمكن أن يساهموا في نهضة البلد
وتقدمه الصناعي.
أن هناك إصرارا غربيا كبيرا
لمنعنا من الخروج من تخلفنا
العلمي والحضاري، يمارسه بكافة
الأشكال والأساليب، لنكون مجرد
مستهلكين لكل ما ينتج، وأخطرها
إنتاجه الثقافي، والقيم المرتبطة
بالتملك والاستهلاك مع تغييب لكل
القيم الأخلاقية النبيلة،
والسيطرة على مقدرات الأمور وعلى
الثروة وعلى العقول في بلداننا.
أريد أن أقول من وراء كل هذا أن
إحداث نهضة علمية وصناعية وثقافية
للخروج من دائرة التخلف التي ندور
فيها منذ قرون شيء ممكن إذا ما
توفرت الظروف الموضوعية والقوى
الحية التي تحمل مشروعها الحضاري،
وتعمل على تحقيقه من خلال توفير
الإمكانيات المادية والبشرية،
وفتح المؤسسات العلمية والمختبرات
ومراكز البحوث وفسح المجال أمام
الاختصاصيين لإظهار مهاراتهم
العلمية ورعاية وتبني مبتكراتهم
دون أن يخضعوا لأية اعتبارات
سياسية أو ضغوط من أي نوع، وأن
تكون الخبرة العلمية والكفاءة هي
المقياس الوحيد في تحمل
المسؤوليات للمؤسسات العلمية، كما
لا بد من تشجيع عودة الخبرات
والكفاءات العلمية إلى أقطارها
الأصلية أو احتضانها من طرف أي
دولة عربية قادرة على ذلك.
إن من المخجل أن نجد آلاف العلماء
العرب في جميع الاختصاصات يعملون
في المختبرات ومراكز البحوث
والمصانع الغربية، حيث تتوفر لهم
إمكانيات العمل والإبداع وكذلك
ظروف العيش الكريم، بينما نراهم
لا يرغبون بالعودة إلى بلدانهم
لكثير من الأسباب، منها السياسي
ومنها الاقتصادي أو لعدم احترام
اختصاصاتهم وكفاءاتهم.
إن هؤلاء العلماء ثروة عربية
مهدورة، تقدمها الأنظمة العربية
للدول الأوربية ولأمريكا وكندا
وغيرها من البلدان مجانا، بعد أن
تكون قد خسرت عليهم أموالا طائلة
في تعليمهم الابتدائي والثانوي
والجامعي، ليعملوا في تلك الدول
التي تحتضنهم وتستفيد من
إمكانياتهم بأرخص التكاليف.
إن هجرة العقول العربية ليست قضية
بسيطة، إنها التعبير عن فشل
السياسات الرسمية القطرية بشكل
عام، فشل في التخطيط،، فشل في
تحقيق التنمية، وغياب للشعور
بالمسؤولية باعتبار أنها تبذير
للثروة الوطنية بشريا وماديا، كما
أنها تعكس أزمة على صعيد الحريات
الشخصية والفكرية والسياسية، حيث
يشعر المواطن المثقف أن كرامته
مهدورة ودوره معطل في مجتمع تسود
فيه علاقات الزبونية والمحسوبية
والانتهازية النفعية، وتسود قيم
الاستهلاك والميوعة وكل ما هو
رخيص.
لقد كان للمثقفين أدوارا مهمة وفي
أكثر من بلد، كانوا خلالها المحرك
الأساسي لكل التحولات الاجتماعية
والثورات التي غيرت وجه التاريخ
ومجراه، حدث هذا في أوربا التي
خرجت بفضل نضال المفكرين
والفلاسفة والأدباء والشعراء
والعلماء من عصر الظلمات إلى عصر
الأنوار، وحصل هذا إبان الثورة
الاشتراكية في روسيا، وحصل في
أكثر من بلد في العالم ومنها
وطننا العربي في فترات معينة،
ويمكن أن يحدث نفس الشيء الآن إذا
ما توفر هامش هام من حرية
التعبير، من الديمقراطية، ورفعت
يد الرقابة والمحسوبية والضغط عن
المفكرين والمبدعين، وكان لهم
حصانتهم ودورهم الذي يليق بهم في
المجتمع، وتوفرت لهم الإمكانيات
المادية الضرورية.
لا يمكن لبلد أن يتطور ويخرج من
دائرة التخلف بالخطب السياسية،
ولا بالنوايا الحسنة وحدها، إذ لا
بد من إشراك جميع أبنائه من
المثقفين والكتاب والأدباء
والشعراء والمسرحيين والفنانين
ومن ذوي الاختصاصات والكفاءات
العلمية والفنية ممن يلتزمون
بقضايا أمتهم بذلك، لأنهم وحدهم
الذين يشكلون القاطرة التي تجر
وراءها جميع مكونات المجتمع إلى
آفاق جديدة من التقدم والتطور
تغني عن الاعتماد على ما ينتجه
الغير ويستخدمه كسلاح ضدنا متى
شاء، وحتى يساهم الجميع بدوره
بشكل فعال، لا بد من إشاعة جو من
الديمقراطية وحرية الرأي ، إذ
بدونهما لا يكون هناك إبداع فكري،
لا في الأدب ولا في العلوم ولا في
الفن، ولا في الاقتصاد ، ونبقى
ندور في حلقة مفرغة ونتراجع سنين
ضوئية عن مسيرة التطور والحضارة.
إن مئات المليارات من الأموال
العربية، وعشرات الآلاف من
العلماء العرب الموزعين في أقطاب
الأرض الأربعة ومن المهمشين في
بلدانهم، قادرين، إذا ما توفرت
الإرادة السياسية وانتصرت حكمة
العقل، أن تخرج هذه الأمة من
غفوتها وتخلفها، وتعيد لها دورها
المتميز في مسيرة الحضارة
الإنسانية، وتؤمن مستقبلا مشرقا
لجميع أبنائها وتحفظ لهم حياة
عزيزة كريمة.
|