كي لا يصل النظام الإيراني إلى
الطريق المسدود كما وصل إليه
حليفه جورج بوش، ولكي لا يعترف
متأخراً كما اعترف حليفه بأنه لم
يكن مستعداً للحرب ضد العراق
عندما تولى رئاسة الولايات
المتحدة الأميركية، هذا إضافة إلى
اعترافه بأن أجهزة المخابرات قد
ضلَّلته.
وكي لا تُعاد أيام حرب الثماني
سنوات بين إيران والعراق، ويُرغم
النظام على تجرع السم مرة أخرى.
تلك الحرب التي نراها قادمة بعد
الانسحاب الأميركي، كنتيجة
مُحَقَّقة، إذا ما ظلَّ النظام
الإيراني مسكوناً بأوهام القوة
والعظمة، اللتان لم يحز عليهما
لولا الضعف الذي انتاب الثور
الأميركي.
وكي لا يبكي مشجعو النظام
الإيراني وأنصاره من العرب فرصة
للسلام مع إيران كانت متاحة وتمَّ
تفويتها من قبله بمجاملاتهم،
ومواقفهم القاصرة عن رؤية
المستقبل.
وكي لا يأتي اليوم الذي يكتشف فيه
النظام الإيراني أنه كان
مضلَّلاً، وعليه أن يثوب إلى
رشده، ويقلع عن الأوهام التي
تتلبسه بأنه يحتل اليوم موقع قوة.
كل ذلك كان دافعاً لنا لكتابة ما
نكتب.
نحن لا نتجاهل دور الاحتلال
الأميركي كسبب رئيسي لما جرى
ويجري في العراق. فدور الاحتلال
الأميركي قد انتهى، لأن المقاومة
الوطنية العراقية التي وضعته على
حافة الهاوية كفيلة باستمرارها
ووحدتها أن تدفعه إليها.
ولأن المقاومة العراقية قد كتبت
نهاية للحرب والعدوان، لم يبق
لدينا إلاَّ أن نعمل من أجل إزالة
الألغام التي قد تعيق إلى حين
إعادة توحيد العراق كما كان قبل
العدوان، ولا نرى أكثر أهمية من
رؤية الدور الإيراني الذي سيكون
عائقاً بحيث يحفر منذ الآن خنادق
جديدة قد تزيد من ألم العراق
والعراقيين في المرحلة الفاصلة
بين انسحاب قوات الاحتلال
الأميركي وبين إعادة نظام وطني
يجمع ويبني ويرمم ويعيد العراق
موحداً ناهضاً متقدماً.
لماذا إيران؟
وهل إيران قوية في هذه المرحلة؟
في مرحلة انتقالية كبرى، كالتي
تمر بها الأمة العربية، قياساً
بالتحولات المرتقبة، التي فرضتها
المقاومة في العراق على أميركا
وعبرها على العالم بأسره، قد يكون
من المستغرب أن نخصص مقالنا عن
إيران. هذا الأمر، إذن، يطرح
التساؤل التالي: ولماذا إيران؟
غامرت الولايات المتحدة
الأميركية، رغماً عن إرادة العالم
الحر، بالعدوان على العراق
واحتلاله، من أجل احتلال موقع
ريادة الكون وقيادته ووضعه تحت
إمرة الإدارة الأميركية لبناء قرن
أميركي جديد. ولتدعيم مغامرتها
وضمان نجاحها استدرجت النظام
الإيراني، بالإضافة إلى سيطرتها
على معظم أنظمة العرب الرسمية
المذعنة أصلاً، ووعدته بحصة من
كعكة العراق. فوقع النظام المذكور
بالفخ وأسهمت بوقوعه فيه نزعة
الثأر التي كبتها بعد فشل تصدير
مشروعه في العام 1988.
وخلافاً للقاعدة السياسية المشبعة
بالأخلاق والمروءة التي وضعها
الإمام علي بن أبي طالب، التي تنص
على أنه (إذا غزا بن الأصفر
الدولة الإسلامية فسوف يتحالف مع
معاوية بن أبي سفيان)، فقد فعلها
النظام الإيراني وتحالف مع ابن
الأصفر. فغزا ابن الأصفر بغداد
وسار النظام الإيراني في ركابه.
منذ تلك اللحظة التي دخل فيها
عملاء إيران إلى بغداد، تحت مظلة
ابن الأصفر، توهَّم النظام
الإيراني أنه احتل موقع قوة على
الأرض العربية، خاصة وأن صحة ابن
الأصفر في العراق اعتلَّت وساءت
إلى الدرجة التي أعلن فيها
الانسحاب من العراق.
ولو جئنا لنتفحص صحة الوهم
الإيراني بأنه قوي لوجدناه عليلاً
يهذي من شدة الحرارة التي ارتفعت،
ودليل ذلك أن القوة التي ساعدته
في دخول العراق أصبحت من الضعف
درجة لم يعد بالإمكان إخفاؤها.
العدو الأميركي أعلن انتصاره
الموهوم في أيار من العام 2003،
أما النظام الإيراني فقد أعلن
انتصار أفكاره ونواياه منذ أن بدا
الضعف ينهش بمشروع حليفه اللدود،
وهو لا يزال يحلم باليوم الموعود
الذي يتوج فيه هذا الانتصار. وهو
يتصرف الآن كونه الأقوى في الساحة
العراقية.
إن النظام الإيراني الآن قوي
فعلاً، ولكنه أقوى الضعفاء في
العراق. ومن بنى قوته على هذه
القاعدة فعبثاً يحرز أي نصر،
وسيتحول نصره إلى حفنة من ريح سوف
تذروها المقاومة العراقية ولن
تدعها تمطر حيث يشاء النظام
الإيراني أو يتوهم أنها سوف تمطر.
أما السبب فلن يعوزنا التفكير
طويلاً لتحديده.
سبب قوة المقاومة الوطنية
العراقية، أنها ممولة من كرامة
العراقيين ورجال العراق وسلاحهم
وأموالهم، ولا يزال هذا التمويل
على زخمه إذا لم تكن معاناة
العراقيين قد زادته قوة على قوة،
والحبل على جرار وقع تتالي إعلان
الهزائم الأميركية المنبعثة من
دخان الساحة العراقية.
لقد تواطأ قويان على احتلال
العراق، وعجزا عن تثبيت قاعدة
سياسية أو عسكرية واحدة على أرضه،
أما المرحلة الراهنة فيقود
الاحتلال ضعيفان فالأحرى
بالمقاومة التي أضعفت قويين أن
تضعف ضعيفين.
في المستقبل القريب سينسحب واحد
من الضعيفين، وسيبقى الضعيف
الإيراني وحيداً، فيا ويله من ذل
المستقبل. ولا يعفيه من ذلك الذل
أنه جار للعراق يوفر الدعم
لعملائه من دون عوائق جغرافية
أولاً، أو أنه يمتلك عمقاً
مذهبياً يشكل له قاعدة ثابتة
للانطلاق ثانياً. فعملاؤه لن
يصمدوا في مرحلة ما بعد رفع
الحماية الأميركية عنهم، والعمق
المذهبي لن يصمد أمام عمق
المقاومة العراقية الوطني.
هذه الحقيقة سوف تحول المشروع
الإيراني إلى أضغاث أحلام ستذروها
لحظة الصحوة المبنية على قاعدتين
نفسيتين:
-الأولى عندما يستفيق العراقي
المتردد المسكون بالضعف ويرى أن
أكبر أباطرة الشر قد رحلوا.
-أما الثانية فعندما يستفيق
العميل المستند إلى قوة أميركا
فيراها مهزومة يلوذ جنودها إلى
طلب السلامة، فسيلوي ساقيه
ويعدهما للهرب، وتصبح عنده
(السلامة غنيمة) لأنه لن يبقى
لديه ما يحميه.
هذه الحقيقة تبرهن على خطل أوهام
النظام الإيراني وعليه أن يحسبها
بدقة، ففحول إدارة الشر الأميركية
بكل عنفوان قوتها كانت عاجزة فكيف
(الخصية السود)؟
وإذا كان الاحتلال الأميركي،
لحقيقة واضحة فعلاً، قد دفع
غالياً ثمن مغامرته، فهل يتوهم
النظام الإيراني أنه لن يدفع
الثمن لأنه جار للعراق أولاً،
وانه ستحميه زمرة من عملائه
ثانياً؟
الاحتلال هو احتلال سواءٌ أكان من
بعيد أم من قريب. وتفتيت وحدة
العراق الوطنية هو تفتيت سواءٌ
أمارسته أميركا أم الصهيونية أم
إيران. فوحدة العراق هو ثابت لا
يمكن للشعب العراقي أن يتخلى عنه.
وخلاف ذلك سيكون مخالفاً لقواعد
إنسانية كأن تدعو إلى رفض الظلم
من البعيد وتتقبله من القريب، أو
لم نتعلم أن (ظلم ذوي القربى أشد
مظاظة)؟؟
لكل ذلك، ولغيره من الحقائق
الأخرى، لا نحسب أن النظام
الإيراني قوي، بل هو في أدنى
درجات الضعف. فما يبدو شحماً ليس
أكثر من ورم ستفقأه الحقيقة عندما
يحين أوانها، وهو أقرب إلينا أكثر
مما يتصور هذا النظام.
إن من يريد أن يبنى قوته على ضعف
الآخرين فقوته ليست أكثر من ضعف.
فالموقع الضعيف هو حاصل جمع عدة
مواقف ضعيفة.
أما كيف يكون موقع النظام
الإيراني قوياً؟
نحن نحسب أن مجموع مصالح الأمة
العربية، زائداً مصالح جوارها
الجغرافي، متوازنة متعاونة
متساندة في مواجهة كل طامع قادم
من حرم النظام الرأسمالي العالمي،
وفي المقدمة منه أميركا
والصهيونية، هي القاعدة الحقيقية
للقوة. وإن حاصل جمع أنظمة عربية
رسمية ضعيفة، زائداً حاصل جمع دول
مجاورة ضعيفة، سيشكل الحزام
الأضعف أمام هجمة أميركية صهيونية
جديدة إذا ما استقر الوضع أمام
أميركا في الخروج من أزماتها، وإن
ضعف الأمة العربية إضافة لضعف
الجوار العربي سيظل أفضل الظروف
لاستعادة الأطماع الأميركية
والصهيونية.
واستئنافاً، فقوة العرب لن تكون
بغير وحدتهم، وبغير جار قوي.
وقوة النظام الإيراني، لن تكون
بغير جوار عربي موحد.
|