إن الحديث عن البعث العربي
الإشتراكي في هذه المرحلة
التاريخية العصيبة التي تمر بها
الأمة العربية يعتبر حديثا ضروريا
ضرورة الجسد الحي الى الهواء
النقي والجسم المريض الى الدواء
الشافي والعقل الحائر الى الأمل
في الخلاص ؛ ولعل في هذا القول ما
يغني عن بيان القيمة الحقيقية
لحزب البعث العربي الإشتراكي الذي
جاء أساسا لتأصيل كيان الأمة وبعث
طاقاتها الخلاقة وإمكاناتها
المبدعة وتحقيق آمال الجماهير
العربية الصابرة المجاهدة في
الوحدة والحرية والإشتراكية
والإلتحام بنضال الإنسانية من أجل
صد العدوان ونبذ الطغيان ودرء
الإستبداد والقضاء على الإستعباد
.
فالحديث عن البعث العربي والحالة
تلك هو في الحقيقة حديث عن الأمة
العربية وهي تكافح من أجل الخلاص
من نير الصهيونية والإمبريالية
والرجعية والتخلف والإنحطاط ؛
حديث عن الجماهير العربية
المكافحة وهي تكابد من أجل لقمة
العيش بعد أن عاث الحكام والأمراء
وحاشيتهم من السماسرة والقوادين
ومصاصي الدماء بثروات الأمة
وأرزاق الشعب فأفسدوا في الأرض
وإنتهكوا الحرمات والأعراض وجابوا
الوطن الجريح طولا وعرضا ناهبين
كل ما يعترض سبيلهم من خيرات ؛
حديث عن الأمم المضطهدة في العالم
وهي تصارع من أجل وجودها وبقائها
وإستمرارها أمام الهجمة الشرسة
والبربرية للإمبريالية العالمية
ممثلة في الولايات المتحدة
الأمريكية وحلفائها والمتواطئين
معها .
ولأن الأمة العربية تخوض في
المرحلة الراهنة معركتها المصيرية
في فلسطين والعراق ولبنان
والسودان والصومال فإن الحاجة الى
حديث البعث تصبح أكثر إلحاحا ذلك
أن المعركة أية معركة تستلزم
دليلا نظريا ينير الطريق ويضيء
السبيل وقيادة تاريخية حازت ثقة
الجماهير عبر تاريخ طويل من
النضال في صفوف الشعب الأمامية
وكان لها شرف التضحية بالغالي
والنفيس من أجل مستقبل الأجيال
العربية المقبلة وتنظيم وحدوي
إشتراكي يتصدى لمشكلات التخلف
والتجزئة على إمتداد الوطن العربي
فيكون بمثابة الأداة التنظيمية
التي تجمع الجماهير المناضلة
الكادحة عبر الرقعة الجغرافية
الممتدة من المحيط الى الخليج
وتوحّد نضالاتها من أجل الوحدة
والحرية والإشتراكية في مواجهة
التجزئة والإستعباد والإستغلال
والتخلف .
ولقد كان البعثيون وعلى رأسهم
الشهيد القائد المجاهد صدام حسين
مثالا للصمود والتضحية والفداء
ونموذجا للجيل العربي الجديد الذي
إرتضى لنفسه أن يكون أوّل من
يضحّي وآخر من يستفيد ؛ جيل عهد
البطولة كما سمّاه مؤسس البعث
وواضع أسسه النظرية والفكرية
والعقائدية الأستاذ أحمد ميشيل
عفلق رحمه الله ؛ جيل لا يهاب في
الله لومة لائم ولا في الحق صولة
صائل ولا في النضال والجهاد قوة
ظالم مهما بلغت سطوته وجبروته
وتعسّفه وتعدّيه . ذلك الجيل الذي
يمثل الطليعة العربية الثورية
التقدمية بأخلاقها الأصيلة وروحها
الجهادية التي لا تكلّ وتصميمها
الأسطوري على تحقيق أهداف وطموحات
الشعب العربي وجماهيره المناضلة
في زمن عزّ فيه الرجال وأصبحت فيه
قيم المبادئ عملة نادرة ؛ في زمن
السطوة الأمريكية التي أخضعت
الحكّام الأذلاء بطبعهم لمشيئتها
وجعلتهم يدورون في فلكها ووفقا
لإرادتها خدّاما وعبيدا لا حول
لهم ولا قوّة ؛ في زمن النفاق
السياسي والشعوذة الطائفية
والدّجل اللابس لعباءة التدين ؛
في زمن التقية حيث يبطن البعض غير
ما يظهر ويصرح بغير ما يعتقد
ويقول ما لا يفعل .
في هذا الزمن الرديء الذي يمثل
التحدي الأخلاقي والسياسي
والثقافي والحضاري تطفو على السطح
حتمية الإستجابة كمدخل لا بد منه
لولادة جديدة أو ما نسميه نحن
البعثيون بالإنبعاث أو الإنقلاب
من خلال المعادلة الجدلية العلمية
التاريخية التي تتمحور أساسا حول
ثلاثية التحدّي والإستجابة
والولادة وهي معادلة تلخص فلسفة
البعث ونظريته الثورية التقدمية
وأسلوبه في العمل النضالي وعقيدته
الجهادية .
فالتحدي الإستعماري من شأنه أن
يولّد إستجابة تبرز في شكل رفض
شعبي وردّ فعل عفوي وتلقائي غير
منظم في البداية ولكنه سرعان ما
يتطور من خلال قانون الحاجة
والضرورة ليمهد الطريق أمام ولادة
حركة إستقلالية منظمة أدركت طبيعة
التناقضات التي تشقّ المجتمع
المحتل وسبل حلها وتوصلت من خلال
المعاناة والنضال اليومي الى
الوقوف عند حقيقة الظاهرة
الإستعمارية وطبيعتها الإستغلالية
وحتمية زوالها ؛ وهكذا تولد
الحركة الثورية المقاومة من باطن
الحركة الإستعمارية لتنفيها
وتتجاوزها فلولا الحركة
الإستعمارية لما وجدت أصلا حركة
إستقلالية ولولا التحدي
الإستعماري لما كانت هناك حاجة
الى ولادة حركة تحررية .
وبالمثل فإن تحدي التجزئة المرتبط
إرتباطا وثيقا بالإستعمار يحمل في
رحمه سبب زواله ذلك أن الأصل هو
في وحدة الأمة والشعب والوطن
والإستثناء في تقسيم الوطن
وتجزئته الى دول وإمارات وممالك ؛
ومن هناك كان من الحتمي إرجاع
الأمور الى نصابها وقبول التحدي
من خلال الإستجابة له بعد وعيه
وإدراكه ومعرفة أهدافه المكشوفة
والمخفية والوقوف عند أسباب قوته
وضعفه ؛ فلا إستجابة بدون إرادة
ورغبة مسبقة في الخلاص ولا خلاص
بدون وعي لطبيعة التجزئة كعامل من
عوامل الضعف والهوان والتخلف
والإنحطاط .
ولقد أدرك البعث منذ البداية أن
تحدي التجزئة يشكل أهم التحديات
التي تواجهها الأمة العربية فكان
سعيه المبكر للتبشير بالوحدة
العربية وتجديد رسالة الأمة عبر
طرحه لشعار : أمة عربية واحدة ذات
رسالة خالدة وهو شعار يعبر
بالضرورة عن وعي تاريخي وحضاري
بخطورة تحدي التجزئة وفي نفس
الوقت يجسد النظرة الثورية
التقدمية الأصيلة للوحدة العربية
المنشودة كمشروع حضاري يمثل
الإستجابة العملية والعلمية
للتحدّي المطروح وفي هذا الإطار
يقول القائد المؤسس أحمد ميشيل
عفلق رحمه الله : (( إن الوحدة
العربية في نظر البعث فكرة ثورية
وعمل ثوري خلافا للمفهوم الذي كان
سائدا والذي لم تزل آثاره ممتدة
الى اليوم والذي يعني مجرد الجمع
والربط بين أجزاء الوطن العربي ؛
أما المفهوم الثوري فيعني خلق
التفكير والنضال المناقضين لحالة
التجزئة ولما أورثته التجزئة
وإصطنعته من عقلية وعواطف ومصالح
وأوضاع سياسية وإقتصادية
وإجتماعية داخل كلّ قطر من اقطار
... )) -1- .
فالوحدة العربية بمفهومها الثوري
وغاياتها التقدمية هي الجواب
الطبيعي على تحدي التجزئة ولا
بقاء وإستمرار للأمة في ظل واقع
التجزئة المفروضة فرضا على الوطن
العربي كما أنه لا كرامة للشعب
العربي وجماهيره المناضلة في ظلّ
حالة التفتت والإنقسام والتقوقع
القطري البغيض ؛ وعلى هذا الأساس
فإن العمل من أجل الوحدة العربية
يعتبر الردّ المنهجي والعلمي على
جملة التحديات التي تواجهها الأمة
كالتحدي الإستعماري وتحدي التخلف
والرجعية والتجزئة والإضطهاد ؛
فالعمل الوحدوي هو عمل ثوري
تقدّمي بطبعه إذا ما شكّل إستجابة
تاريخية وولادة حضارية تنهض
بأعبائها الجماهير الكادحة في
الوطن العربي صاحبة المصلحة
الحقيقية في الوحدة والتقدّم
وبذلك يصبح العمل من أجل الوحدة
بالضرورة عملا ثوريا تقدميا بحيث
يتماهى مفهومي الوحدة والثورة
وينصهران في مفهوم واحد يؤدي في
النهاية الى نفس المعنى ولهذا قال
القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق
رحمه الله إنه : (( عندما تكون
الوحدة العربية هي المحور لثورتنا
والقلب الذي يغذيها والأفق الذي
يلهمها تنتفي جميع الأسباب
والمحاذير التي كانت تفرض على
حياتنا ذلك المستوى المنخفض من
التفكير والعمل وتلك السطحية
والزيف في معالجة أمورنا وأوضاعنا
؛ فسواء في معركة الحرية
والإستقلال أو في معركة التقدم
والثورة الإجتماعية فإن فكرة
الوحدة تفتح الباب على مصراعيه في
كل قطر عربي للحلول الجذرية
الحاسمة وبذلك نرى أن الوحدة تقود
الى الثورة كما أن الثورة تقود
الى الوحدة ...)) -2-.
وهكذا فإن العلاقة الجدلية
القائمة بين الثورة كعملية تغيير
مستمر ومتجدد وبين الوحدة كنتيجة
حتمية للتفاعل الحي والخلاق داخل
مختبر التطور الحضاري للأمة من
شأنها أن تفسر طبيعة الصراع
الوجودي القائم بين الأمة العربية
والتحديات الخطيرة التي تواجهها
في المرحلة الراهنة ؛ فالثورة
العربية المقبلة إما أن تكون
وحدوية إشتراكية تحررية إنسانية
أو لا تكون مطلقا والوحدة العربية
المنشودة إما أن تكون ثورية
إنقلابية معبرة عن جوهر الأمة
النضالي والإنبعاثي الأصيل أو لا
تكون مطلقا . وكنتيجة لهذا المنطق
العلمي الجدلي التاريخي فإن
الثورة والوحدة يتضمنان نفس
المعنى والجوهر إذ تشكلان في
نهاية المطاف الوسيلة والغاية
اللتين تتبادلان المواقع إذ يمكن
للوحدة أن تكون وسيلة للثورة كما
يمكن لهذه الأخيرة أن تكون وسيلة
للوحدة .
وبعبارة أخرى فإنه ليس هناك ثورة
منفردة مجنّحة معزولة ووحدة فوقية
مجرّدة من المضمون ومنزلة من
السماء بل هناك ثورة وحدوية ووحدة
ثورية تستهدفان كافة التحديات
والأمراض التي تنخر جسم الأمة
العربية إستهدافا شاملا يتناول ما
هو سياسي وإجتماعي وإقتصادي
وثقافي وعلمي ولذلك قال الدكتور
منيف الرزاز رحمه الله إن : ((
بداية الثورة تكون في بداية العمل
من أجل تحقيق الوحدة وتحقيق
الوحدة هو نهاية مرحلة في سبيل
الثورة الحضارية ...)) -3- .
فثورتنا الحضارية الشاملة
والحقيقية هي الثورة المتجاوزة
ليس فقط للتسلط السياسي
والإستغلال الإقتصادي والتجزئة
القومية بل للتسلّط الحضاري
المرتبط بمعطيات المجتمع العالمي
الحالي الذي إنفردت به قوى
الإستبداد والعدوان المتمثلة
أساسا في رأس الأفعى الإمبريالية
؛ ولهذا كانت حركة البعث العربي
الإشتراكي حركة تاريخية بأتم معنى
الكلمة وكان البعثيون في مقدمة
المضحين بأنفسهم من أجل التصدي
لمهمة الردّ الحضاري على التحديات
الحضارية المفروضة دليلهم في ذلك
الإيمان العميق والإقتناع الراسخ
بأن حركة التاريخ تسير بالضرورة
في نفس الإتجاه الذي يسيرون فيه ؛
إتجاه الحرية والعدل والوحدة
والمساواة ؛ إتجاه التقدم والإخاء
والمحبة ذلك الإتجاه الذي لن
تتحقق أهدافه إلا عبر النضال
اليومي ضد مظاهر التخلف والرجعية
والإستبداد الطبقي والقومي
والإنحطاط الثقافي والحضاري ؛ فمن
خلال النضال يتحقق الوجود
الإنساني ويترسخ وتستعيد القيم
النبيلة عافيتها وعنفوانها
وتسترجع الأمة العربية ثقتها في
نفسها وقدراتها الكامنة وتستطيع
أن تبصر طريقها واضحة جلية وهذا
بالضبط ما ذهب إليه القائد المؤسس
أحمد ميشيل عفلق حينما قال إن :
(( الأمة العربية متحققة في كل
مكان يوجد فيه نضال وبشكل خاص إذا
كان جديا يواجه الموت في كل ساعة
... أمتنا إذن موجودة في كل مكان
يحمل فيه أفرادها السلاح ...))
-4-.
ولقد إستلهم البعثيون هذا المعنى
منذ البداية فسخّروا أنفسهم
وجهودهم وطاقاتهم في سبيل تمثّل
القيم النضالية الأصيلة وترجمتها
على أرض الواقع عبر مسيرة طويلة
وشاقة ملؤها الأشواك والعراقيل
والمؤامرات والتحديات وكانوا في
كل مرة يواجهون فيها التحدي
يخرجون أكثر تصميما على مواصلة
الطريق كلفهم ذلك ما كلفهم من
إضطهاد وإعتقال وإغتيال وتصفية
ونفي ولم يفكروا يوما في ذواتهم
وأشخاصهم ومصالحهم بقدر ما ركّزوا
تفكيرهم في مستقبل الأمة وطموحات
الجماهير وهموم وآمال الشعب ؛
وكذلك كان شأن العظماء والأبطال
في التاريخ من الذين قدموا
أرواحهم فداءا لقيم الحق والعدل
والتقدم ووضعوا رؤوسهم فوق أكفّهم
مقتحمين معترك الحياة من أجل كلمة
حق كان من الواجب أن تقال .
ومن هذا المنطلق تمضي قوافل شهداء
البعث العربي الإشتراكي على مذبح
الحرية والوحدة والإشتراكية
أفواجا بعد أفواج يوصي السابقون
اللاحقين من حملة المشعل خيرا
بالأمة العربية فيتسلّم الجيل
الجديد الراية ويستمرّ في العطاء
والتضحية مكملا دورة الجدل
النضالي من خلال ولادة جديدة
تستجيب للتحديات المتجددة وكما
يقول الأستاذ قسطنطين زريق فإن :
(( ضماننا هو في صدق عزمنا على أن
لا نظل منقادين منفعلين يفعل فينا
غيرنا ويحكم علينا التاريخ ولا
نفعل نحن ولا نحكم ؛ إنه في جلال
طموحنا الى العمل التاريخي المبدع
؛ إنه في توقنا الى أن يكون حكم
التاريخ لنا لا علينا في مبلغ
تقديرنا لما تتطلبه هذه الغايات
الرفيعة من شروط ولما تلقيه من
تبعات وفي صدق إستعدادنا للبذل
المطلوب ؛ إنه في مدى إرتفاعنا
الى مستوى التحدي الرائع الجلل
والردّ عليه بما هو أجلّ وأروع
...)) -5-.
|