إذا كانت نتائج الحروب تعيد رسم
خارطة التحالفات الدوليَّة وتجعل
من أصدقاء الأمس أعداء اليوم،
فإنَّ فشل السياسات والهزائم
العسكريَّة له ثمن تدفعه حتى
الدول الموصوفة بالعظمى، ويجعلها
تلعق جراحها وتتراجع عن مواقفها،
وتقبل التعامل حتَّى مع أشدِّ
خصومها، وتقدِّم تنازلات جذريَّة
من أجل الخروج من مأزقها بأقلَّ
كلفة. لا جدال في أنَّ الإدارة
الأمريكيَّة اليوم، تجد نفسها،
بكلِّ المقاييس، محشورة في موقع
انعدام الخيارات السهلة نتيجة
سياساتها الخاطئة ونهجها
التوسُّعي العدواني، والأهم من
ذلك، نتيجة صمود شعب العراق
وتضحياته وشجاعته، وحكمة قيادة
المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة.
تواردت في الأيَّام الأخيرة أنباء
عن لقاء مسوؤلين في إدارة بوش
ممثِّلين عن حركة طالبان
الأفغانيَّة رعاها العاهل السعودي
عبد الله في مدينة مكَّة
المكرَّمة. ومع ندرة ما نُشرعن
اللقاء، فالتجربة التاريخيَّة
تشير إلى أنَّ تسرُّب أنباء
لقاءات مهمَّة لا يتحقَّق إلاَّ
بعد توصُّل الأطراف المعنيَّة إلى
تفاهم بشأن خطوطها العامَّة. هذا
اللقاء على الرغم من الصراع
الراهن بين طرفيه ليس أمرًا
مُستهجنًا أومُستبعدًا، بل واقع
فرضته الصعوبات الجسيمة التي
تواجهها الإدارة الأمريكيَّة على
شتَّى الأصعدة. من الضروري
الإشارة إلى أنَّ مساعي مدِّ
الجسور مع حركة طالبان ومحاولات
تجميل وجهها والاعتراف المفاجئ
بقوَّتها ليست مقتصرة على إدارة
بوش أو الولايات المتَّحدة
الأمريكيَّة. فخلال الأسابيع
المنصرمة، صدرت عن مصادر دوليَّة
متعدِّدة دعوات مفتوحة للحوار مع
حركة طالبان وإيجاد صيغ تمهِّد
لمشاركتها في التركيبة
السياسيَّة. مثل هذه الدعوات،
يمكن التقاطها بسهولة في السجال
الدائر بين المرشَّحَين للرئاسة
الأمريكيَّة، أو في تصريحات عدد
من المسوؤلين الدوليِّين ولا
سيَّما المتورط منهم في المشكلة
الأفغانيَّة. ففي كندا على سبيل
المثال، طالبت أحزاب المعارضة قبل
أسابيع حكومة المحافظين بضرورة
تشجيع مساعي حكومة كرزاي للحوار
مع حركة طالبان وبحث احتمال
مشاركتهم في السلطة! وصدرت دعوات
مماثلة عن عدد آخر من قيادي الدول
والهيئات الدوليَّة، كان آخرها
تلك الصادرة عن الأمم المتَّحدة
وقيادة حلف الناتو.
ما يستحقُّ الانتباه في لقاءات
مكَّة المكرَّمة، هو دورالنظام
السعودي في ترتيب اللقاء ورعايته،
وبشكل خاص قدرته على التوفيق بين
علاقته الاستراتيجيَّة بالإدارة
الأمريكيَّة، كواحد من أقرب
أصدقاء إدارة بوش والمجموعة
المتطرِّفة في الحزب الجمهوري،
وبين احتفاظه بعلاقات متميِّزة
بحركة طالبان المصنَّفة حركة
إرهابيَّة من إدارة بوش، وعدوَّها
المُعلن!
في العودة إلى دفء عباءة طالبان،
تأمل إدارة بوش في تحقيق عدَّة
أهداف تعكس في مجملها حالة اليأس
وانعدام الخيارات المتاحة أمامها
من جانب، وإصرارها على التمسُّك
بمشروع احتلالها البشع لشعب
العراق من جانب آخر.
أهمُّ هذه الأهداف:
أوَّلاً على الصعيد الشخصي، من
الواضح أنَّ بوش الصغير على معرفة
بتفاصيل سجلِّ إدارته المخزي
والحافل بالهزائم العسكريَّة
والكوارث الاقتصاديَّة
والانهيارات الماليَّة. فهو يدرك
أنَّ مقايسة منجزات رئاسته بسجلِّ
من سبقوه من رؤساء، تفرزه أسوء
رئيس للولايات المتَّحدة،
متقدِّمًا بدرجات قليلة على
والده، وعلى الرئيس الأمريكي
"هربرت هوفر" الذي تسنَّم
مسوؤليَّة الإدارة إبَّان مرحلة
"الكساد الكبير" في الثلاثينيَّات
من القرن الماضي. لا شكَّ في أنَّ
التخلُّص من لعنة التاريخ، وتحسين
سجلِّه المخزي في ساعات النزاع
الأخيرة للإدارة يشكِّل هاجسًا
مرعبًا لبوش ، يتطلَّب التخلُّص
منه تحقيقَ إنجاز إيجابيٍّ وإن
كان على شكل اتِّفاق مع حركة
حاربها بوحشيَّة، وصنَّفها حركة
إرهابيَّة ومجموعة من القتلة
المتخِّلفين.
ثانيًا، التوصُّل إلى ترتيبات
أمنيَّة وسياسية مع حركة طالبان،
فحلُّ المشكلة الأفغانيَّة ولو
كان شكليًّا ومؤقَّتا قد يمنح
الحزب الجمهوري شحنة معنويَّة
يمكن استثمارها في الحملة
الانتخابيَّة الرئاسيَّة لتحسين
موقع مرشَّحه جو ماكين المتراجع،
وربَّما الاحتفاظ بالبيت الأبيض.
ثالثًا، يتيح سحب القوَّات
العسكريَّة من أفغانستان للإدارة
الأمريكيَّة فرصة خفض حجم الإنفاق
العسكري، وإعادة توزيع قوَّاتها
وقدراتها العسكريَّة لخدمة جهود
السيطرة على شعب العراق.
رابعًا، عودة حركة طالبان إلى
سدَّة الحكم، وتأسيس نظام ديني
حليف لواشنطن، يمكن استثماره
مستقبلاً في مواجهة مخاطر تصاعد
القوَّة الروسيَّة، أو لمواجهة
إيِّ تحالف مستقبلي بين روسيا
والصين، بالإضافة إلى إمكانيَّة
استخدامها في تغذية الصراع
المذهبي في المنطقة الذي يشكِّل
عنصرًا مهمًّا من عناصر مشروع
الهيمنة الكوني للولايات
المتَّحدة الأمريكيَّة.
خامسًا، مع أهمِّيَّة الدوافع
المشار إليها أعلاه، إلاَّ أنَّ
الهدف الأكثر أهمِّيَّة لمدِّ
إدارة بوش جسور التفاهم مع حركة
طالبان، ينطلق من رحم
استراتيجيَّة تعزيز احتلال
العراق. هذه الإدارة تدرك رجحان
الأهمِّيَّة الجيوبولتيكيَّة
والاقتصاديَّة للعراق مقايسة
بالأهميَّة الاستراتيجيَّة
لأفغانستان، وأنَّ احتلال العراق
يشكِّل المحور المركزي في مشروع
الهيمنة الكوني الأمريكي. وإدارة
بوش على دراية أيضًا بأنَّ نجاحها
في العراق في ظلِّ الوضع
الاقتصادي المتدهور، يفرض عليها
تقديم تنازلات في أفغانستان،
وأنَّ التخلُّص من التزاماتها
الأفغانيَّة يمكِّنها من تركيز
جهودها العسكريَّة والسياسيَّة في
العراق على خنق المقاومة، وخلق
مناخ مستقرًٍّ لحكومة بغداد
العميلة، تتمكَّن من خلاله تنفيذ
مشروع الاحتلال والإبقاء على
التواجد العسكري الأمريكي في
العراق لأمد طويل من خلال منحه
"الشرعيَّة الوطنيَّة" بعد
إقرارها اتِّفاقيَّات الذلِّ
وصفقات بيع الوطن.
في المقابل، سيتيح الاتِّفاق مع
الإدارة الأمريكيَّة إذا ما
تحقَّق، لحركة طالبان وحلفائها
العودة إلى كابول وقندهار بشكلٍ
رسميٍّ وتعزيز سيطرتها على
الأقاليم الأخرى، وصولاً إلى
الهيمنة المطلقة على القرار
السياسي في أفغانستان. فقادة حركة
طالبان يدركون عدم قدرة حكومة
كرزاي على الصمود بعد مغادرة
القوَّات الأجنبيَّة، وأنَّهم
عاجلاً أم آجلاً سوف يحقِّقون
سيطرتهم على السلطة واحتكارها.
المهم من لقاءات مكَّة المكرَّمة،
وما قد يترتَّب عنها من
اتِّفاقيَّات، انعكاساتها على
العراق، وتأثيرها في صراع شعبنا
ضدِّ الاحتلال، وعلى مسيرة
المقاومة والتحرير تحديدًا. لا
نخفي توجُّسنا خيفة من احتمالات
تضمين الاتِّفاقيَّات المحتملة
بين واشنطن وحركة طالبان فقراتٍ
تشكِّل خطورة على مصالح شعبنا،
وعلى مقاومتنا آنذاك أن تسدِّد
فاتورة المقايضة، وأن يكون الدافع
الأساس لها تعزيزالاحتلال
الأمريكي لشعبنا. أسباب قلقنا
واضحة ومشروعة، وليس ضربًا
التهويل أو الشطط قولنا بأنَّ
ديمومة الاحتلال وتعزيز الهيمنة
على ثروة العراق النفطيَّة لا
بدَّ من أن يشغل حيِّزًا كبيرًا
في أيَّة ترتيبات إقليميَّة أو
دوليَّة ترعاها إدارة بوش.
من المسلَّم به أنَّ الولايات
المتَّحدة الأمريكيَّة بقوَّتها
الاقتصاديَّة والسياسيَّة
والعسكريَّة المعروفة لن تقدِّم
تنازلات جوهريَّة كانسحاب
قوَّاتها وقوَّات حلف الناتو من
أفغانستان، أو توافق على عودة
حركة طالبان إلى كابول من دون أن
تجني بالمقابل مكاسب تعوِّضها عن
خسائر الانسحاب. فقبول التعامل مع
مَن حمَّلتهم مسؤوليَّة هدر
الدماء الأمريكية في مانهاتن
وواشنطن عام 2001، وقبول عودتهم
إلى السلطة له أثمان سياسيَّة
كبيرة لا بدَّ من تغطيتها في
مكاسب اقتصاديَّة وسياسيَّة من
مصادر أخرى. لا نأتي بجديد إذا
قلنا بأنَّ تعزيز احتلال العراق
وإبقاء الهيمنة الأمريكيَّة على
ثروته النفطيَّة بدون شكٍّ مطلب
لن تتنازل عنه الإدارة
الأمريكيَّة الراهنة الآيلة إلى
زوال، ولا تلك التي سترثها،
ديمقراطيَّة كانت أم جمهوريَّة.
لذا، فمطالبة الإدارة من حركة
طالبان تقديم ما من شأنه تعزيز
مشروع احتلال العراق مقابل تلبية
مطالبها في أفغانستان قضيَّة
جديرة بالاعتبار.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوَّة: ما
هي الآليَّة التي تتمكَّن حركة
طالبان بها دعم طموحات الهيمنة
الامريكيَّة على العراق؟
من الصعب إيجاد آليَّة غير تلك
التي تمرُّ عبر حليفهم الأساس،
منظَّمة القاعدة. هذه هي الآليَّة
الوحيدة التي تتمكَّن بها حركة
طالبان تقديم الدعم المطلوب
لواشنطن لقاء السماح لها بالعودة
إلى حكم كابول! المثير للقلق،
نجاح قادة طالبان في إقناع بعض
حلفائهم من الفصائل السلفيَّة،
وتنظيم "القاعدة" في العراق
تحديدًا بإيقاف عمليَّاتهم
العسكريَّة ضدَّ قوَّات الاحتلال
وحلفائها بصرف النظر عن حجم
العمليَّات، أو النجاح في دفعهم
لدعم استقرار حكومة موالية
لواشنطن وضمانها في بغداد
"سنيَّة" الهويَّة كانت أم
"شيعيَّة" ؟
الأمر الأكثرة إثارة للقلق،
والأكثر خطورة على مستقبل
المقاومة والتحرير، يكمن في
احتمال إشغال حلفاء طالبان
المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة
وجرِّها إلى معارك جانبيَّة
يحيِّدها عن تنفيذ برنامجها،
ويعيق برنامج التحرير ويطيل أمده.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ
محاولات مدِّ الجسور مع حركة
طالبان لا يصح عزلها عمَّا بذلته
الإدارة الأمريكيَّة من جهود خلال
الأسابيع الأخيرة لتأمين الدعم
العربي والدولي لحكومة بغداد
العميلة.
ما يهمنا أكثرمن مشروع إعادة
إحياء علاقة الولايات المتحدة
بحركة طالبان، هو موقف فصائل
المقاومة من الاتَّفاق المُحتمل،
وخططها ليس في مواجهة الأبعاد
السلبيَّة لهذا التطوُّر فحسب، بل
لمواجهة جميع مشاريع خنق
المقاومة.
في تقديرنا، لا يتوفَّر ردٌّ أكثر
حسمًا وأهميَّة من ضرورة تحقيق
وحدة فصائل المقاومة وتصعيد
تأثيرها، وتوسيع رقعتها وتوحيد
خطابها السياسي. إنَّ ضرورات
المرحلة ومستقبل أجيال العراق
ومصالحه الوطنيَّة والقوميَّة،
تتطلَّب التعجيل في تحقيق وحدة
المقاومة التي لم نفتأ ندعو
لتحقيقها منذ أمدٍ وفي أكثر من
مناسبة ومساهمة.
لم يعد أمرًا مقبولاً أن تتوانى
فصائل المقاومة عن توحيد قيادتها
أو تتهاون في تنسيق عمليَّاتها
وانسجام مواقفها السياسيَّة في
الوقت الذي تتَّحد فيه قوى الشر
والعدوان لخنق المقاومة، وتجتمع
لمصادرة حرِّيَّة شعبنا ونهب
ثرواته وتفتيت وحدته التاريخيَّة
وتغيير هويَّته الوطنيَّة
والقوميَّة.
لقد حان وقت التخلِّي عن
الجزئيَّات، وإزالة معوقات وحدة
فصائل المقاومة والالتقاء على
ثوابت الوطن والتحرير. وآن الأوان
للتخلِّي عن المطالب الهامشيَّة
والشروط التعجيزيَّة، والتراجع عن
المشاريع البديلة لخيار المقاومة
المسلَّحة، والالتقاء في مشروع
وطني جامع مستند على ثوابتنا
الوطنيَّة، وأهمُّها شرعيَّة
المقاومة وجدواها. لقد احتُلَّ
شعب العراق باستخدم القوَّة
المسلَّحة، ولن يتحرَّر إلاَّ
بالمقاومة المسلَّحة.
|