لا أحد من خبراء المال، ولا رؤساء المؤسسات
المالية الأميركية، ولا حتى البيت الأبيض
نفسه، يستطيع ان يعرف حجم الهوة التي تقف
البنوك وشركات التأمين الأميركية على حافتها.
"البضائع" المعقدة لعمليات التمويل والإستثمار
والمضاربات والتأمين تجعل من المستحيل على أي
مؤسسة أن تعرف حجم الديون غير القابلة للتحصيل
التي تتراكم لدى مؤسسة أخرى، او القيمة
الحقيقية لأصولها.
هذا هو السبب الذي أزال "الثقة" بين البنوك،
وهو السبب نفسه الذي ما يزال يمنعها من إقراض
بعضها البعض، لتدوير عملياتها اليومية. فالقرض
الذي تدفعه اليوم للبنك المجاور، قد لا تحصل
عليه غدا، إذا أعلن إفلاسه.
في البدء، كانت أزمة الرهون العقارية "غير
المضمونة" هي التي كشفت عن ان هناك أصولا ذات
قيمة إسمية ضخمة، لا قيمة لها في الواقع.
وبسبب الفارق الكبير بين القيمة السوقية لأسهم
شركات القروض وبين موجوداتها الحقيقية، فقد
كان من الطبيعي، مع إنكشاف الهوة، ان تنخفض
أسهم هذه الشركات ومعها كل البنوك التي تمول
عمليات الإقراض العقارية.
وفي آخر المطاف، فعندما اعلنت أكبر شركتين
للإقراض العقاري هما "فاني ماي" و"فريدي ماك"
اللتين تمولان نحو 50% من مجموع الرهون
العقارية في الولايات المتحدة (12 تريليون
دولار)، عن إفلاسهما، فقد كان من الواضح ان
الكارثة لا تقتصر، في الحقيقة، على مجرد عجز
لوجستي في التمويل، ولكنها تعبر عن إفلاس
حقيقي في القيمة.
بمعنى آخر، المشكلة لم تقتصر على خسارة 14
مليار دولار تكبدتها الشركتان في غضون سنة
واحدة، وانما في الـ6 تريليون دولار من القروض
التي مولتها.
بمعنى أوضح: ثمة 6 تريليون دولار اقترضها
مقترضون لشراء عقارات وبناء استثمارات (داخل
وخارج الولايات المتحدة). قسم مؤثر من هؤلاء
المقترضين لم يعد قادرا على خدمة ديونه
(القسط+الفوائد). وهذا هو سبب الخسارة
اللوجستية (الـ14 مليار دولار). ولكن الحقيقة
المُرة الأهم هي أن الأسواق اكتشفت ان الـ 6
تريليون لا تساوي 6 تريليون بالفعل. فبدأت
قيمة اسهم الشركتين تنخفض حتى انهارت كليا.
وحتى الآن لا احد يعرف كم تساوى قيمة اصول
الشركتين؟ 5 تريليون؟ 3؟ 2؟ لا أحد يعلم!
ولكن يقول الإقتصادي البريطاني مارتن وولف ان
"تأميم" (انقاذ) هاتين الشركتين وحدهما سيكلف
5400 مليار دولار، أو 40 بالمئة من الناتج
الإجمالي الأميركي.
وماذا كانت "فاني ماي" و"فريدي ماك" تفعلان؟
كانتا تقدمان ضمانات للبنوك التي تمنح القروض
العقارية، حيث تشتري هذه القروض وتحولها إلى
سندات مالية يتم تداولها عالميا.
وهو ما يعني ان الجميع متورط بالخسائر التي
جنتها هاتان الشركتان. وتبلغ الديون العقارية
الواجبة عليهما وحدهما حوالي 1.6 تريليون
دولار.
ومع تزايد مؤشرات الركود الإقتصادي، كان من
الطبيعي ان تنخفض قيمة الأصول العقارية نفسها.
كم الخسارة؟ تريليون؟ ثلاثة؟ خمسة؟ لا أحد
يعلم.
هناك إذن كم هائل من المال ضاع. هذا الكم، هو
أحد وجوه الفضيحة. والفضيحة لا تشمل شركة او
إثنتين. ولكن كل بنك وشركة إستثمار وتأمين
تقريبا. فكم هو حجم الخسارة الإجمالي؟ وكم
سيكلف إنقاذها؟ لا أحد يعلم.
فإذا أضيفت الى ذلك جملة من العمليات
"الإستثمارية" الورقية التي تدور بين "بضائع"
تأمين وإعادة تأمين و"تمويل المخاطر" (هيدج
فاند) وأعمال البيع والشراء خارج السوق من دون
ملكية لأي أصول فعلية. فكم ستكون الخسائر؟ هنا
يستطيع المرء ان يجرؤ على القول: حتى
"الشياطين الزرق" لن يكون بوسعها ان تعلم.
وذلك لسبب بسيط، هو انه لا يوجد ما يمكن أن
يُعلم أصلا!
فثمة وهم إقتصادي كبير صنع ثقبا أسود واسعا
بين القيمة الإسمية للأصول وبين قيمتها
الفعلية. وهذا الثقب ازداد إتساعا بتمويل
عمليات وهمية كانت تتيحها القروض المتداولة
فيما بين البنوك. الكثير من هذه العمليات كان
يحقق أرباحا حقيقية. إنما على وهم. الأرباح
منحت الجميع شعورا (على سبيل المثال) بان
منزلا يساوي 100 الف دولار، يمكن ان يساوي
مليونا. الكثيرون اقترضوا، على أساس انهم
يملكون مليونا. وهناك من إقترضوا المليون كله
لشراء المنزل المجاور. وهكذا، كبر الوهم، وكبر
الثقب الأسود.
هل تستطيع الـ 500 مليار دولار، او الـ800
مليار، او حتى التريليون دولار التي تقترحها
خطة الإنقاذ، حل المشكلة؟
تجب إعادة صياغة السؤال. هل يعرف البيت الأبيض
حجم المشكلة، لكي تحلها ملياراته الـ500 او
الـ1000؟
الحقيقة هي ان أحدا لا يعرف. الثقب الأسود قد
يعني عشرات التريليونات. وقد يلتهمها جميعا من
دون ان تكون هناك نهاية واضحة للأزمة.
ولكن ما تراهن عليه الخطة هو شيء آخر، لا
علاقة له بالمشكلة!
ما تسعى اليه الخطة هو بيع "الوهم" لشراء
"الثقة".
الرئيس بوش لم يخدع احدا عندما أعلن عن خطته
الجمعة. فقد قال بوضوح ان الهدف الرئيسي للخطة
هو إستعادة الثقة.
ومن الناحية العملية، فان الأموال، التي لم
تقل الخطة من أين ستأتي، ستخصص لأمرين: الأول،
توفير "حوض" من المال (سيولة) للبنوك والشركات
لتمويل عملياتها من دون حاجة الى ان تقترض من
بعضها البعض. وحتى الآن، قدم الإحتياط
الفدرالي اكثر من 400 مليار دولار.
والثاني، هو تلقف الشركات التي تخر صريعة
بالعجز الناجم عن الخسائر التي ستعلن عنها.
هذان الهدفان يكفيان، في الواقع، للتعبير عن
طبيعة الأزمة. فهما يعنيان بدورهما شيئين
إثنين. الأول، ان الثقة ما تزال معدومة
(فالبنوك لن تعود لتقرض بعضها، لتكتفي بالغرف
من حوض المال العام). والثاني، هو ان شركات
أخرى ستسقط.
وجود "خطة" لشراء "الثقة" ببضعة مئات من
مليارات الدولارات، سمح بصعود صاروخي لأسهم
"وول ستريت" الجمعة الماضي، كان الأكبر في يوم
واحد. ولكن لن يطول الوقت قبل ان يكتشف الجميع
ان بضاعة "الثقة" ليست جديرة بالثقة الى تلك
الدرجة.
كل المشكلات الجوهرية ما تزال قائمة.
أولها، هو ان الشركات المعنية أمام احد
خيارين: أما ان تعلن عن شطب أصول ضخمة لتفتح
صفحة جديدة. أو ان تعود لتعلن خسائرها
بالتقسيط. وكلا الحالتين تنذران بتداعيات ما
تزال مخيفة وغير معروفة الحجم.
وثانيها، هو ان تريليون دولار لا تكفي لشراء
أصول متهاوية وشركات نافقة، ولا حتى لتمويل
عمليات الأسواق اللوجستية.
وثالثها، ان الشركات (المتوسطة والصغيرة
غالبا) التي سوف يُسمح بتهاويها سوف تظل تترك
أثرا مدمرا على الإقتصاد (بما تسببه من بطالة
على الأقل)، مما يجعل الركود كابوسيا تماما.
ورابعها، هو ان الإحتياط الفدرالي لا يملك
المال الكافي أصلا.
فرض المزيد من الضرائب، وطباعة المزيد من
الورق الأخضر، يبدوان الخيارين الطبيعيين،
ولكنهما يخلقان، بدورهما، وجها آخر للمشكلة
يجمع بين الركود والتضخم في آن معا. والتضخم
يعني إنخفاضا في قيمة العملة. وهذا يعني
إرتفاعا في أسعار الطاقة، وبالتالي إرتفاعا في
أسعار المواد الأساسية ومنها المواد الغذائية،
وهكذا.
وفي الواقع، فقد دأب الإحتياط الفدرالي على
الأخذ بخيار طباعة الورق الأخضر على امتداد
السنوات الأربع الماضية. من ناحية، لتمويل
كلفة الحرب في العراق وأفغانستان، ومن ناحية
أخرى، لخفض قيمة الديون الاميركية التي تبلغ
نحو 9 تريليونات دولار، 1.5 تريليون دولار
منها للصين وحدها.
إذا كان الإحتياط الفدرالي لا يملك المال
الكافي لشراء المزيد من "الثقة"، فهل يمكنه
العثور على مصادر للتمويل تكفي لردم ثقب أسود؟
الجواب، نعم!
وهو ببساطة "إعادة نقل الثروة التي جنتها
الأمم الأضعف، بفضل عائدات النفط، لدرء
العواقب التي تعانيها الأمم الأقوى".
هذا ما ألمح اليه وزير الخارجية الأميركي
السابق هنري كيسنجر في مقال نشرته "واشنطن
بوست" الخميس الماضي.
كيسنجر لم يقل صراحة، فلنذهب لنأخذ تلك
الأموال، ولكنه أوعز "أكبر عملية نقل للثروة
في التاريخ من الأمم الأقوى الى الأمم الأضعف"
الى العواقب الوخيمة الناجمة عن إرتفاع أسعار
النفط.
هذا التلميح يقصد تحديدا ان السبيل الوحيد
لتجاوز الأزمة الراهنة هو إيجاد وسيلة لقلب
عملية "نقل الثروة" تلك.
ومن الناحية العملية، فان كيسنجر يقترح معالجة
"اكبر عملية نقل للثروة في التاريخ"، بما يشبه
أكبر عملية نهب واستيلاء في التاريخ.
الذين كانوا يعتقدون ان إحتلال العراق هو أكبر
عملية نهب في التاريخ، بحاجة اليوم الى أن
يعيدوا النظر في حساباتهم. فهناك، الى جانب
العراق، أمم أخرى تدخل دائرة النهب.
حسب تقديرات جوزف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل
للاقتصاد عام 2001، فان الحرب في العراق
وافغانستان تكلفان نحو 160 مليار دولار سنويا.
هذا المبلغ لم يتم تمويله، على امتداد السنوات
الخمس الماضية من دافعي الضرائب الأميركيين.
لقد تم تمويله بالدرجة الرئيسية من بيع سندات
الخزانة (ديون) الى الصين واليابان ودول جنوب
شرق آسيا والسعودية في مقدمة الدول النفطية
العربية. هذه الأطراف هي التي مولت وما تزال
تمول الحربين. صحيح انها تضطر الى أن تجلس على
"حديدة حارة" كلما انخفض سعر الدولار، لتنخفض
معه قيمة سنداتها و"استثماراتها"، ولكن ما
باليد حيلة. الله غالب.
الصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا تريد من
شراء تلك السندات تمويل تبادلاتها التجارية مع
الولايات المتحدة. اما السعودية، فالله غالب.
فهي تريد الستر فحسب.
ما سيحصل هو ان الولايات المتحدة ستعمل على
تمويل الثقب الأسود، بتفريغ جيوب الآخرين.
وبإعادة "نقل الثروة" الى حيث كان يجب ان تبقى
في مكانها (لدى الدول الأقوى فحسب).
لقد تم تمويل حرب مدمرة يُعتقد انها استهلكت
اكثر من تريليون دولار. فلماذا لا يكون ممكنا
تمويل تريليون دولار أو اثنين او ثلاثة آخرين
لإنقاذ إقتصاد "القوة الأعظم"؟
كل الإمبراطوريات في التاريخ كانت تفعل ذلك:
تحلب مستعمراتها، وتبتز المرتبطين بها،
وتستنزف مواردهم. فهي تعتبر ان ثراءهم، في
الأصل، ثراؤها.
هل ستجد الدول الأخرى نفسها تواجه الإفلاس؟
في الواقع، ليس بالضرورة. لانه سيتم إقناعها
بشراء أصول لا تعلم حتى "الشياطين الزرق" ما
هي قيمتها الحقيقية!
|